الولد الذي كان يلعب في سيرك ثم انتقل إلى الغابة
عمرو العادلي
لحظة انفجر الكائن البُني الصغير تحت القدم العارية؛ تعوّدتْ عيني منظر القتل، بل وتعوَّدت تبريره.
حدث ذلك وأنا ابن عامين، ربما عامين وبضعة أشهر، "هذه الكسور كانتْ تساوي رُبع عُمري تقريبًا"، الأحداث مشوَّشة والأشخاص لا تظهر لهم معالم واضحة، والدنيا كلها لا تخرج عن كونها بساط صغير يشبه الأحلام، والكون يُغلِّفه غموض جميل، المهتمون بي اثنان، وأستطيع العدّ حتى ثلاثة، والألوان أربعة.
اشترى لي أبي حذاءً جديدًا، أو صندلًا، لا أتذكَّر، كان له سير وأبزيم، من الخلف أو من الأمام، لا أتذكَّر، كل ما أتذكَّره أنه قدّمه لي في كيس أخرجه من كرتونة بيضاء، والكرتونة كانتْ كبيرة جدًا ومكتوب عليها كلام باللون الأزرق، اقترب مِنِّي ورائحة كولونيا الحلاقة تفوح من وجهه، أجلسني على حِجرهُ ورفع قدمي ليلبسني الحذاء، كان واسعًا فشدَّ الحزام وربط الأبزيم، وقفتْ أمي تتابعنا وهي تبتسم. بعد أن لبستُ الفردتين وقفتُ على الأرض، مشيتُ خفيفًا كعصفور يستعد للطيران، اختفى أبي مع أمي داخل الغُرفة وأغلقاها، وأثناء بحثي عنهما وانشغالي بالحذاء لَمَحْتُهُ يمشي بعيدًا، كائن صغير بلون حذائي الجديد، له أقدام نحيلة وسريعة، غياب أبي وأمي كان فُرصة لكي ألعب معه وحدي، كان الكائن يجري فجأة، ثُم يتوقَّف فجأة، يطلع على الحيطة وأحاول أن أقلِّده، تخيلتُ بأن حذائي الجديد سيسمح لي بذلك، ولكني لم أستطع. ثُم صعد فوق السقف ومشى بالمقلوب، شبكت أصابع يديَّ لأتلقاه عندما يقع، لكنه لم يقع.
كنتُ كلما خطوت خطوة يسبقني بخطوات، يتوقف لمدة وينتظرني، وعندما أصل إليه يجري بسرعة أمامي، يدخل تحت رف صغير، وقبل أن أكتشف مكانه بالضبط يخرج من الناحية الأخرى، يتجوَّل حُرًا بين البوتاجاز والحلل، يمشي على حافة دلو مليء بالماء ولا يقع.
يدخل عم عبده جوز أمينة على كرسيه المتحرك، عم عبده جالس وأمينة تدفع الكُرسي، وأسمع اسمي "ازيك يا أيمن"، لا أرد، بل أتابع صديقي البُني الصغير، كادت العجلات الكبيرة أن تدهسه، ولكنه ذكي جدًا، أفلت منها وصعد فوق الكُرسي، تسلَّق المسند واليد وطلع على قفا عم عبده، لطمته أمينة بقوة فطار لمسافة كبيرة في الهواء، وسمعت صوت عم عبده "إيه ده يا أمينة؟"، وترد أمينة: "مفيش دا صرصار".
وأعرف أن صديقي الجديد اسمه صرصار، وأبحث عنه بعد أن يدخل عم عبده جوز أمينة إلى غرفته، أحاول أن أتذكّر اسمه بصعوبة، صورصار، صورصار. رددته كثيرًا فنجحت في حفظ اسمه، صورصار. صورصار.
مرَّة أخرى، وجدته راقدًا تحت قعر حلَّة، ما إن رآني حتى خرج، كان يمشي بالطريقة نفسها، وبالنشاط نفسه، لم تؤثّر في حيويته لطمة أمينة القوية، لم أعرف؛ هل وقع على الأرض بسرعة؛ أم طار عندما لطمتْه؟ لفَّ حولي كأنه يرسم دائرة، ثم أصبح يقودني وأتبعه، نسيت أمي وأبي، نسيتهما تمامًا، لم أتذكرهما إلا عندما فتح أبي باب الغرفة، وكانت أمي تقف خلفه بنصف ملابسها، وأبي يقف بملابس بيضاء صغيرة، لكنه ما إن رأى صديقي البُني حتى جرى بسرعة وترك أمي: "حاسب. حاسب"، ثم داس عليه بقدمه الكبيرة العارية، وعندما رفع قدمه رأيت صديقي ساكنًا وملتصقًا بالأرض، بكيت، وخُفت، حملني أبي ومسح دموعي وقبَّلني، دخل بي إلى الغُرفة وهو يقول: "متخافش يا أيمن. حد يخاف من صرصار. دا صرصار. أنا موتّهولك ابن الكلب ده".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص وروائي مصري
من مجموعة "عالم فرانشي" الصادرة مؤخرًا عن دار الرواق ـ القاهرة