فصلٌ من رواية “في التجربة” .. ليوحنّا وليم

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

يوحنا وليم 

(ابني شاذ وأختي مصابة بالسرطان) ابتلعت ريقي ثم نهضت مسرعًا إلى باب المنزل لاصقا أذني به. سمعت خفقان قلبي وكدت أخلط بينه وبين وقع أي خطوة على سلم العمارة. مكثت في مكاني لدقيقة أو أكثر ثم عدت إلى فراش غرفة النوم. مسحت يدي المتعرقة في ملاءة الفراش وأكملت القراءة في مذكرات ماما.

( .. أعرف أنك تعاقبني يا رب. لا أعرف السبب بالتحديد، لكنني متأكدة. أفكر إن كان هذا صليبي الذي علّيّ حمل نيره والسير وراءك في طريق الجلجثة.(الطريق الذي سار به المسيح لبلوغ موقع صلبه) فرحت بقيامتك منذ ثلاثة أسابيع، لكن منذ قمت والمآسي تتوالى على حياتي. اكتشفنا مرض أختي الكبرى بمرض الملكوت بالصدفة حيث كانت تعاني من آلام في ظهرها منذ بداية السنة. صدمنا مع التحاليل أنها في مرحلة متأخرة وتذكرت أمي أو maman كما كنت أفضل مناداتها( التي ماتت بالمرض اللعين منذ تسع سنوات. يقترب الدور منّي …)

سمعت صوت تكة المفتاح. انتفضت من مكاني واضعا المذكرات بسرعة في الدرج الثالث من التسريحة. ومع صوت إغلاق الباب، ووقع الخطوات المتجهة نحو الغرفة الموجودة في أقصى شمال الشقة، أدركت أن الوافدة هي أختي.

سألتها من وراء الباب الذي أغلقته لتغير ملابسها عن مكان ماما. أجابتني من خلف الباب أنها ذهبت إلى الكنيسة المجاورة للمنزل. نظرت إلى ساعة الصالة فوجدتها تقترب من الثانية ظهرا، فسألت متعجبا: «كنيسة إيه دلوقتي؟.» خرجتْ من غرفتها متجهة إلى المطبخ لتسخِن الأكل من دون أن تجيبني.

تسحبت إلى غرفة النوم لقراءة باقي المذكرات ودقات قلبي ما زالت مسموعة في أذني. وجدت في الصالة عدة أكياس بيضاء عليها صورة «القديسة ريتا.» نظرت في داخلها فوجدت أقلاما تحمل الصورة نفسها للقديسة، شاخصة أمام صليب المخلِص بعيون مفعمة بالامتنان، وفي منتصف جبينها شوكة من الإكليل الموجود على رأسه.

أدركت أن اليوم هو الثاني والعشرون من مايو، تذكار نياحتها. تواظب ماما سنويًا على الذهاب إلى كنيستها بالمنشية في نفس الميعاد. تشتري لكل فرد من العائلة قلما أزرق جافا ليجيب به في امتحانات نهاية العام، وصورًا للقديسة يضعها في مقلمته وبخورا لخالتي الكبيرة. توصيني بأن أذكر في صلاتي أن تتشفع لي شفيعة المستحيلات القديسة ريتا عند الله كي أتفوق في دراستي.

حافظت على تلك العادة حتى تخرجت في كلية الصيدلة منذ عامين، ثم فقدتها كما حدث لإيماني. أتذكر مقولة لدوستويفسكي قرأتها أيام الكلية وحفرت في ذهني: «الأسوأ من عدم الإيمان هوعدم الاكتراث.»

أفكر كثيرا أن تلك الجملة هي الأدق في وصف علاقتي بالله منذ بدأت اسكتشاف ميولي.

***

أسمع صوت حركة أختي في المطبخ، فأكمل طريقي نحو المذكرات في لهفة لقراءة المزيد. ألاحظ استطراد ماما في الكتابة عن حالة خالتي الصحية التي تدهورت في الآونة الأخيرة. أفر الصفحات بعيني حتى أجد اسمي. يجف ريقي حين أقرأ باقي الصفحة وقد ظهرت بها بقعة دموع ناضبة.

«قرأت مذكرات يوسف بالأمس. أنا مصدومة، لم أحتمل قراءة بضعة سطور حتى وجدت دموعي تسيل بلا توقف. لا أعرف إن كنت أبكي بسبب كذبه علّيّ كل تلك الشهور الماضية حين كان يقابل من كتب عنه، أم لمعرفتي الحقيقة كاملة؟ قرأت فشليّ كأم أمامك يا الله. أنا عاجزة»…

انتفضت من مكاني بعدما أُنير مصباح الغرفة فجأة من خلفي فسقطت المذكرات من يدي.

2

لا أكف عن الإلحاح على أهليّ للذهاب إلى الخلوة(معسكر صيفي كنسي للأطفال)  التابعة للكنيسة في فيلا كينج مريوط. يرضخون بعد فترة معتبرة من الزن المتواصل وتدخُل تيتة، لكن بشرط واحد فقط يعلنه بابا بصرامة: «متتصلش بالليل تقول تعالوا خودوني.»

تُعد ماما معي حقيبتي، واضعة لي فوق ما سأحتاجه من ملابس الضعف. تعينني حتى ألفح الحقيبة على ظهري، تقبلني بقوة ثم تقف في منور السلم لتطمئن أنني نزلت بسلام دون أن أتعثر. أحضر مدارس الأحد ثم ننطلق من الكنيسة إلى أتوبيس «عم سمير» الذي سيقلنا إلى الفيلّا.

أشعر بنغصة في قلبي لأول مرة في حياتي بمجرد ركوبي الأتوبيس وسماعي لمن حولي يتحدثون بحماسة عن ماتشات كرة القدم التي سيلعبونها عند وصولهم. احترت فيما سأفعله عند بلوغنا الفيلا، حيث أنني أكره الرياضة بكل أنواعها. تحمست فقط لتلك الرحلة من أجل الذهاب إلى حمام السباحة في الغد ورؤية ما يخفيه أستاذ «جوزيف» تحت ملابسه.

تدمع عيني وترتعش يداي الصغيرتان من الخوف، لكنني أتماسك وأكبِتُ كل ذلك حين يسألني «سامي» -صديقي من المدرسة- الجالس جواري: «جبت المايوه عشان بكرة؟»

أشتت نفسي بالحديث معه ومسابقة الترانيم المقامة بين الصفين الأيمن والأيسر حتى نبلغ الفيلا وقت الغروب. وزَعونا في الغرف فأتوتر شاعرا في داخليّ برغبة متزايدة في العودة إلى المنزل، لكن يرن في ذهني وعدي لبابا.

أبدل ملابسي في الحمام كما نبهت علّيّ ماما، ثم أنطلق نحو ملعب كرة القدم. لا أتوقع الاندماج في اللعب، لكن سامي لا يفارقني. ضمَني إلى فريقه، كي أقف حارسا للمرمى. خفف ذلك من شعوري بالوحشة بعض الشيء، ولهاني عن التفكير في منزلي حتى ينادونا للذهاب إلى صالة الأكل. نصليّ بعدها ثم نتجه إلى غرفنا لنستعد من أجل الاستحمام.

في طريقي إلى غرفتي أرى أستاذ «مايكل» خارجا من دورة المياه، فأتسمر في مكاني. إنها المرة الأولى التي أرى فيها جسدَ ذكرٍ بالغٍ أمام عيني.

أفكر في مدى اختلاف جسده عن «طرزان» الذي أتشوق لمشاهدته كل ليلة على القناة الثانية. أتأمل بشرته السمراء وبطنه الممتلئ بعض الشيء والشعر الذي يغطي صدره وجزءًا من ظهره. هل بدا علّيّ الارتباك؟ ابتسم لي أستاذ مايكل وأخبرني مشجعا: «يلا خش جهز هدومك عشان تستحمى.»

***

علمتني ماما، قبل ذهابي للخلوة، كيفية ترتيب ملابسي في طريقي للاستحمام، حتى لا يقول علَيّ أحد إني «مش متربّي.» أبدأ بالكيلوت الأبيض والفانلة المماثلة له في اللون ثم تليهما البيجامة وفوقهم الفوطة الكبيرة التي ستلتف حولهم كلهم. حين أدخل الكابينة، أعلق الفوطة وباقي الملابس بعيدا عن الدُش كي لا تبتل.

أتبع تعاليمها بحذافيرها وأقف منتظرا دوري في دورة المياه التي تضم خمس كبائن. أرفع ملابسي بيد وفي يدي الثانية صابونتي وكيس بلاستيكيّ فارغ كي أضع فيه ملابسي المتسخة. أبلع ريقي بصعوبة لرؤيتي ذلك الحشد من الأجساد الذكورية العارية. أتمنى أن تطول يدي أجسادهم جميعا.

ألمح أحد الأولاد لا يرتدي سوى كيلوت، ممسكا في يده بآخر نظيف ويخبط على إحدى الكبائن بعنف حتى يخرج من بداخلها. أسمع صوت ماما يزعق في ذهني: «ملكش دعوة بحد، وخليك في نفسك.» فأنتظر بجوار أول كابينة صامتا.

أعقد خلال فترة انتظاري مقارنات بين أجساد أبطال الكارتون الذين أهيم بهم، كـ«علاء الدين» والوحش من فيلم «الجميلة والوحش»، وبين الأجساد التي حولي. أوقن أن صورتي الذهنية عن  جسد الرجل كانت خاطئة؛ فأجسام شخصيات الكارتون معظمها ملساء ممشوقة، على عكس ما حولي من شعر وترهلات.

يُفتَحُ الباب المجاور لي، فأدخل. أخلع ملابسي حتى أصير عاريا تماما. أشعر بالإثارة لأن من يجاورني في نفس الحالة، فينتصب عضوي. أتنصت على صوت حكِ الأجساد في الكابينة المتلاصقة لي متلذذا بهذا الانتصاب الذي لا أعرف كيفية التصرف به، لكن صوت الخبط على كابينتي يدفعني لفتح الدش والانتهاء سريعا من الاستحمام.

أفكر لوهلة بأن أخرج مرتديا الكيلوت فقط كزملائي وبعض الخدام، لكن بمجرد النظر إلى منحنيات جسدي أخجل وأرغب في ستره بالبيجامة.

يرن فجأة في الحمام صوت ضحكة، يتلوها خبطة قوية على أحد الحوائط، ثم ظلام دامس.

3

أتمنى أن يدلني «أب» اعترافه على حل.»…

هذا آخر سطر أقرؤه قبل سماع سؤال أختي: «انت بتعمل إيه؟.» أضع سريعا المذكرات في مكانها ثم أجيبها بأول كذبة عبرت في بالي: «بدوّر على صورة.» وقبل أن تداهمني بسؤال آخر، أتجه إلى باب الغرفة وأسأل: «هو في إيه على الغداء؟»

أسمع تكة المفتاح، وأخمن من صوت حركة الأجراس الخفيفة المعلقة على الباب أنه بابا. أتنفس الصعداء وأتجه إلى غرفتي بعد أن أشار لي بيده مرحبا. أردُ آليًا: «إيه الأخبار؟» وأتركه قبل أن أسمع إجابته.

***

متى توقفت عن احتضانه لحظة عودته إلى المنزل؟

أتذكر انتظاري له في الطفولة أمام باب الشقة منذ ميعاد انتهاء عمله في الكنيسة. أرفض محايلات ماما كي آكل، وأجلس في الصالة متنصتا على باب الشقة. ترن ساعة الطرقة في الرابعة والنصف فألصق أذني بالباب ومع سماعي لوقع خطوات في بهو الدور أفتح الباب فاردا ذراعي.

أعتقد أنه حتى في وقت المراهقة وبداية تصدع علاقتي ببابا، استمرت تلك العادة. لم أعد أنتظره عند باب المنزل، لكنني أمتنع عن تناول الغداء حتى وصوله وجلوسه معنا على المائدة.

نتحلق، أربعتنا، حول الطاولة في المطبخ. يشاهد ثلاثتهم فيلما على «نايل سينما» أو «الحياة سينما»، وإن كان يُعرض على إحداهما فيلم مصنف «جريء»، يغير بابا المحطة إلى فيلم أبيض وأسود قد يحتوي على راقصة أو قبلة، لكنهما يقبلان وجودها ضمن السياق ما دام من الزمن الجميل حيث الجميع محترمون وكل شيء مبرر.

لم أكن أعبأ بما يفعلون، فقد بدأت فترة عزلتي الاختيارية عن عائلتي. أقرأ مجلة ميكي في صمت، غير معقب على أي مما يجري. أسمع ماما تروي مشاكلها في المدرسة وأختي تتحدث عن مشاجرتها مع إحدى زميلاتها، فيما ألوذ بالمجلة في عالم خيالي متمنيا لبطوط الخلاص من سلطة عم دهب.

أفكر أننا لم نعد نحضن بعضنا حين توقف عن ضربي. يشكل الضرب جزءًا غير منفصل من تكويني الحالي. دفعتني «عُلَق» بابا، إلى عدة محاولات انتحارية فاشلة في فترة الإعدادي، غرضها فقط تسجيل اعتراضي وتهديد سمعته الكنسية. رغبت في فضحه وسط من يطلقون عليه «الإنجيل المعاش»، متمنيًا تحطيم صورته بأي ثمن حتى لو كان حياتي.

تمحورت كراهيتي في مراهقتي حول شيئين، جسدي وبابا. أتذكر إحدى العلق التي كادت تتحطم بها ذراعي. رجوت الله يوم ذهبت مع ماما لعمل أشعة سينية على ذراعي أن تكون مكسورة. تخيلت نشوتي خلال سيري في الكنيسة ومَن حولي يسألونني عن إصابتي، فأنطق وملامحي كلها أسى بكلمة واحدة: «بابا.»

حُفِرت تلك المشاجرة في ذاكرتي. أحبس نفسي في غرفة أختي خوفا من بابا الثائرة أعصابه. أسد باب الغرفة بمقعد بلاستيكي. يبدأ في الهبد على الباب والتخبيط بكل ما أوتي من جسده الضخم. أتكور في فراش أختي من الرعب. حين يكاد يخلع مقبض الباب، أنتفض من مكاني كي أسده. يستمر في الزعيق والتهديد كي أفتح، لكنني أصرخ رافضا.

تهدأ الخبطات فجأة. أسمع حركته في الشرفة، فأعدو إلى الشيش كي أغلقه. أشد على مقبضه المعدني، لكن بابا أشد بأسا منه. يحطم المقبض وسط محاولات من ماما لتهدئته قائلة: «اخزِ الشر» و«مفيش فايدة من الضرب» و«وفر طاقتك.» أتخيل الجيران شاهدين على ما يحدث، متمنيا مرور أي شخص من الكنيسة، فيرى بابا في تلك الحالة من الهياج العصبي ويدرك وجهه الحقيقي.

يكسر المقبض، ويدخل معه عصا بلاستيكية لإحدى المكانس القديمة -تحتفظ بها ماما لسبب مجهول في الحمام- رافقتني تلك العصا في استنماءاتي الدائمة وقت استحمامي، كنت ألعقهاوأحيانا أحاول إدخالها في شرجي، ثم أنظفها جيدا بعد بلوغ نشوتي. توقعت أن تتحول في يده إلى ثعبان كعصا موسى وتختفي، لكنها عاونته في الوصول إلى رغبته.

ظل يضربني بها وقد حلَ علّيّ صمت مطبق، حتى هدأت أنفاسه، فصرخت معلنًا ألًما في ذراعي وعدم مقدرتي على تحريكها. هدأ هياجه فجأة. بدل ملابسه ثم غادر المنزل.

قد تكون تلك هي آخر علقة أخذتها من بابا، لذلك أتذكر تفاصيلها وإن نسيت سببها. تجنبته تماما من بعدها واكتفيت بكراهيته في صمت. تحول في ذهني إلى بنك، آخُذ منه النقود دون فوائد أو وعد برد القروض.

توقف عن ضربي، وتوقفت عن اعتباره بابا. صار رجلا ينام مع ماما في الغرفة نفسها، ويشاركنا في البيت. لم أعد أتحدث معه إلا في أضيق الحدود. حاول مرارا أن يصلح تلك العلاقة المحطمة، لكن وفاة تيتة في الصف الثاني الثانوي، عمقت من عزلتي.

فانعزلت عن الجميع، وليس بابا فقط.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري .. الرواية صادرة عن دار صفصافة 2025

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

المدفأة