“الواقعة الخاصة بأموات أهله”.. الحكايات العنقودية كما شهدتها المدينة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أكرم محمد

الروائي بدين والرسام نحيف.

الروائي يلتهم العالم، بينما الرسام يتقيأه

يمكن تعريف كتابة محمد عبد الجواد، بالأخص في روايته الأحدث “الواقعة الخاصة بأموات أهله”، الصادرة عن دار “تنمية”، بأنها فعل الحكي البدائي ذاته، يتغير بتغير النصوص وبنيتها وفضائها الزماني والمكاني، فيكون محاكاة للمرويات الشعبية باستنطاق محاكاة روائية لسرديات وعوالم جابرييل جارثيا ماركيز في “أميرة البحار السبعة”، الصادرة عن دار “المرايا” عام ٢٠٢٤، وهو ما يدشنه الكاتب في روايته تلك من إحدى عتبات النص بتقديم إهداء “إلى المايسترو، جابرييل جارثيا ماركيز، ويكون ذلك الحكي البدائي انتصارًا الهامش وصوته الضمني اللاهث والمتمرد والأقرب لحكي البورتريه والسير الشعبية في ثلاثيته المكونة من “الصداقة كما رواها علي علي”، و”عودة ثانية للابن الضال”، و”جنازة البيض الحارة”، الصادرة عن دار “المرايا” في ٢٠٢٣.

أما هنا بروايته “الواقعة الخاصة بأموات أهله”، والتي تبدو شكلانيًا كالمشروع الأهم لكاتبها، يُعَرّف الحكي البدائي كما هو، لا يحاكي شيئًا، لا يعيد تقديم شيء، هو الحكي كما نصت عليه الحكايات، الحكي الذي ينتج بناء دراميا عنقوديا بطله الجملة الاعتراضية، كأنها تتمرد على الحكاية المركزية كانتصار رمزي الهامش من فعل الفن والحكي، الجمل الاعتراضية هنا هي حكايات موازية للمتن، بورتريهات أحيانًا، ومرويات تدعم الفضاء الدلالي بصنع دينامية في أحيان أخرى، لكنها، دائمًا، انتصار الهامش بالجملة الاعتراضية والدراما الموازية ومرويات الهامش، التي تخللها الفقرات الطويلة والسرد العنقودي المسترسل المتن.

ليست الفقرات الطويلة في هذا النص بالطويلة شكلانيًا، بقدر ما هي طويلة ضمنيًا، فالصوت الضمني للحكاء البدائي في ذلك النص يفهم كنهه، فيهضم العالم المتسع والهامشي، عالم المركز وعالم الهامش، على حد سواء، ويعيد تقديمهم وإحياءهم بفعل الحكي والعين البانورامية، التي تستقرئ العالم برؤية متسعة كما ينبغي لحكاء شعبي أن يكون، تستنطق الخلفيات التاريخية، المرويات الموازية والمبطنة للشوارع التي تحيا كمنام أخير للحكايات، والأهم في البنية الروائية لذلك النص، تستقرئ شخوص النص، غير مكترثة من البطل ومن الهامش، هي فقط ترى الذوات، ترى، بالأحرى، حكاياتهم ببانورامية تليق بحكاء شعبي هو ذاته الصوت الضمني لذلك النص الروائي، الذي يفترض ضمنيًا البناء الخاص بالملاحم الروائية، التي ظهرت قبل الفن الروائي الحديث والمعتاد، حيث لا بطل، حيث الحكايات بعنقوديتها وتشعبها وتواليها هي البطل الأوحد، أو العنصر الوحيد الذي يستحق لقب بطل من فعل الروي.

قدم النص، كونه رواية أجيال، مرويات عنقودية ممتدة على مدار فضاء زمني طويل، ما يجعل النص يقدم أطروحته حول التغيرات السياسية والاجتماعية والوقائع التاريخية كخلفية للنص تتبنى تأريخًا موازيًا للوطن والحكاية، غير أن النص، باعتباره يعيد بناء ثنائية الهامش/ المركز كأحد أساسات بنيته الدلالية، وهو الرمز الذي يقدمه النص على امتداده الطويل بتغير الزمان والمرويات، لا يقدم التاريخ كمركز، يتبناه، فقط، كخلفية لعالمه الروائي، ويجعل من حكايات البشر الهامشية المتن، فيقلب ثنائية الهامش/المركز، الخاصة بتاريخ الوطن ممثلاً في تاريخ الزعماء وتاريخ المركز في ثنائية مع تاريخ حكايات البشر الهامشية ، ويجعل الحكاية هي المتن بينما التاريخ، وهو بالتأكيد حكايات الزعماء والمتن، يحوّله لمحض خلفية.. ذلك بالضبط هو فعل الفن والحكي، الذي ينتصر دائمًا للهامش، ويهبه صوتًا، وهذا يمكن استقراؤه كمستوى أول لاستقراء تواجد بناء مفهوم الفن في ذلك النص، “الواقعة الخاصة بأموات أهله”؛ فالفن يعاد تعريفه كعزاء، وكخلفية، أيضًا، وكتأريخ موازٍ للوطن والناس والحكاية، فنجد تضمينًا لعدد من الأغنيات تمثل فمًا موازيًا للفن الأساسي، الرواية ذاتها، كما يظهر تواجد “ألف ليلة وليلة” مع حسين الرز، الذي يمثل بتواجده من أول النص الهامش المتمرد في مواجهة المركز المحافظ، كترميز للفن، وإخضاعه في النص كبطل واحتفاء به، ألف ليلة وليلة بالنسبة لحسين الرز هي عزاء للفقد والوحدة والحب المستقطع واللذة المفقودة، لذة الحب الأول عندما نادته فتاة سمراء، ليمارس معها الجنس للمرة الأولى في أحد الحمامات الشعبية، وهو ما سيرافقه طوال حياته كمزاج جنسي وحلم العثور على لذة الحب الأول، وهو ذاته تعريف لمفهوم اللذة ومؤاخاتها بمفهوم الحب، واللذان لهما تواجد كبير بالنص، فنجد زوج أمينة الرز يتزوج لمرة ثانية، مثلًا.. الفن كدلالة وبطل في البنية الروائية في النص يقدم، أيضًا، لاحتواء الكتاب على رسوم للفنان الرسام والكاتب علاء تامر، التي تطرح فنًا حصريًا موازيًا للنص، وتصور خاص للحكي الشفهي، تلك الرسوم التي تبدأ كبورتريهات كلاسيكية معتادة تعيد تصور شخوص النص في رؤية بصرية موازية، لكنها سرعان ما تتحول لفن موازي، بالفعل، فتتحول للوحات سوريالية تجريبية تطرح رؤية خاصة للقضاء الدلالي النص ولذوات النص ومشاعرهم وما يعبرون عنه، وما يعبر عنهم بالضرورة، وهنا يظهر اهتمام النص بمفهوم الفن، في تجربة فنية تجمع ما بين البصري والمقروءة.

فعل التأريخ الذي يمارسه النص يفصح عن رؤيته لمفهوم الهوية، فيمارسه النص على مستوى الحكي المحاكي للروي الشفهي، كجزء من الهوية بممارسة الفن، الرواية ذاتها هنا، ويظهر مفهوم الهوية كبناء دلالي لعدد من المحطات الدرامية في النص، مثل كتابة حسن الرز كتابًا عن الهوية المصرية، أو بحث حسين الرز عن أملاكه وأصله التركي، وحتى اسم “در الشهوار”، ابنة أمينة الرز وزوجها درويش عبد الغني، هو اسم له دلالة في إعادة النظر لمفهوم الهوية، فالاسم، كما يرد بالنص، هو اسم تركي لكنه يتحول ل”درة”؛ لتسهيل نطقه، وتلك الشخصية، در الشهوار، تخوض مباحثات عن تأثير العرق التركي في الهوية المصرية، كذلك تبحث درة عن تغيرات المدينة بمن عدة محاور، أولها الاستماع للحكايات، كانتصار آخر للحكاية، وثانيها بمراقبة المدينة ذاتها وتحولاتها التي تبدو من لحم ودم على غرار التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية، وثالثها بمتابعة التغيرات الفنية بتجميع أفيشات أفلام الستينيات و الخمسينيات وملاحظة الفرق، كأن النص بذلك يدشن متابعته المدينة وما طرأ عليها ويدشن طرحه مفهوم الهوية.

أما ثنائية الهامش والمركز فيمارسها طرحها النص منذ الجيل الأول والجد التركي، الذي بدأ كجزء من الهامش كبائع لبن جائل ثم تحول لمركز بأن أصبح تاجر جبن مهم، والجيل الثالث، وهو الأهم في النص، في مثل هامشه حسين الرز، وهو هامش يعتز بهامشه هذا، يعتبره تمردًا، وفي إحدى الفقرات السردية من سفر حسين الرز لتركيا يقدم عبد الجواد نصًا موازياً حول هامش حسين الرز وتحرره وبحثه عن اللذة الأولى كشخصية روائية ورمز في آن:

“والحقيقة أن حسين الرُّز، عندما يتذكر الأحداث نفسها بعدها، يُفاجَأ أنه كان يسير كأن العالم ملك له؛ يجوب شوارع خلفية في بيه أوغلو بلا قلق، ويمر على مقابر منسية بين البيوت، ويتأمل مجموعة من البيوت الخشبية التي تنبعث من نوافذها أضواء خفيفة وأصوات تلفاز، ويدخل صالونات الشاي، يجلس ويشرب عشرة أكواب على الأقل، مستمتعًا بمذاق الشاي الذي عرف بعدها أنه من ريزا، بلد أهله الأساسي، ويبتسم للشيوخ والشباب الجالسين، يتمتعون بالدفء والصمت على هامش الحياة،  

 وكان ذلك مع أنه لا يعرف شيئًا عن أي شيء، وهو ما جعله يردد بعدها بيقين: «كنت كأن ثمة ملاكًا يحرسني.» كان كأنه في مغامرة بـ«ألف ليلة وليلة»، ينتظر دعوة حب من أحد البيوت التي يسير بينها.”

ويمارس النص طرحه لثنائية الهامش والمركز في مستويات درامية وترميزية عدة، منها، مثلاً، موقع المرأة في مجتمعنا المغلق، وتطور وضعها مع الزمن، وهو ما يجتره فعل التأريخ بالنص؛ فالنص يؤرخ للمدينة، يهب أسفلتها صوتًا سرديًا لمروية شعبية، هكذا يعتبر المدينة كائنا حيا، يحكي كل قصص الأحذية التي مرت على شوارع المدينة، حكايات الطرق التي سارت بها أحذية الشخوص في مدينة يؤرخ لها النص تأريخًا موازيًا من الهامش، ممثلاً في حكايات الشخوص العنقودية، ومن المركز، سرديات الحكام المرتبطة بمحكيتهم مع شخوص النص، وحكايات الورود التي دهستها أحذية كل عابر بالمدينة المؤرخة، العملات المعدنية المفقودة التي مرت عليها، وشعر المحجبات المتساقط على الأسفلت من أقمشتهم، غير أن النص في تأريخه لتلك المدينة لن ينسى أبدًا رواده.

مقالات من نفس القسم