حسين عبد الرحيم
ورأيتني أركض لاهثا. كان الغروب قريبا والليل يزحف خائفا في البلاد، واستطالت جسور الأسفلت وبقى الحصي يلملم هالات الأدخنة وقتما انحبس الغبار في رياح الغضب، ولاحت سيدة عجوز تصرخ في لمغيب، وأنا أرقب بعين الطائر بقايا جثث وبزات سوداء تنفرط.
قصدت جهة الشرق في ثمة صمت. الشارع طويل والحوانيت مظلمة قبل الخليج المصري التي تعطلت عرباته فجاة وحطت الصقور دفعة واحدة خلف مقام السيدة ترقب الأدخنة الآتية من الجهات الأربع بانتظام. البرد يصهر الأنوف المثقوبة، والأنفس محجوبة بالهواجس والنذر وشمس غابت في المحاق منذ أول شقشقات لصبح غائم، وصحف تطير ونواص معدومة البشر عدا أحبال غسيل منثور لايجف مع روائح لمساحيق فاترة لاذعة.
قدمي تضرب هوى الخوف في هلع وقت الزلزلة، أتحسس ضربات قلبي في الهجير فتصعد عظام الصدر وتهبط. تبرق عيني وألتفت من جديد في ذعر على صراخ لامهات ثكلى، ورجلان يستوقفانني، بالكاد. يسحباني من قميص مهلهل أسفل سترة كاوبوي وماء مثلج تنز قطراته من جيب بنطالي المثقوب أضرب يدي اليسرى في الجيب متحسسا مابه مصهورا بمن يدفعني ولا أراه، يسألني في لهفة وعيونه الحمراء تتدلي في محيط رؤيتي تبث فحيح مكتوم يتظاهر بالغباء محاولا القبض على معصمي بجنون ولهفة قائلأ:
– أي المحطات تعمل؟!!
من أين جئت وسط كل هذه الأخاديد والسدود المقفلة بحجارة من سجيل. وكيف كانت المشاهد الأخيرة في ساحة التحرر. انتبه لمقصده، وقتما راقبني رفيقه وقد ربت بحذر على كتفي
ـ لاتخف، لا أحد هناك إلا ثلاثتنا.
رأيتهم يقذفون بك من العربة الصفراء وقد صفعك الحكمدار بصلافة وجبروت على ظهرك..وقال الآخر:
ـ أين وجهتك.
كانت طلقات الرصاص ترشق في ثنايا النوافذ المقفلة في حرص وريبة لأسمع صوت القطار الآت من جهه الساحل مخترقا وسط المدينة ووابور النور القديم وبقايا مطابع هالكة وصحف سيارة وورق يتطاير في شارح وحيد جانبي وأنا أجز على شفتى فتنز دما وردا، لأردد في صوت يعود صداه أسرع من إيقاع الصوت ذاته..
ـ هاروووح.؟!
وتناديني أمي، فأعبث في محفظتي أتحسس وجهي ورقبتي وقفاي. وتلك الأصابع الطويلة المخشوشنة وصعقة مابعد العصر عندما مثلت دور أحد الثكالى في معشوقتي الميلودرامية الفجة
اماديوس.
فلتضحك أيها الساخر، حتى يتوه هذا المتسلط الخائف وسط رائحة حرق الجثث القريبة من مرمى البصر في الشارع الطويل الواصل حتى آخر حدود المدينة النافرة، ثمة من وضع يمناه بكفه في جيب معطفي الشتوي وبانت أصباغ الممثل بوجهه الدموى.
وتلك الأظافر الملونة بطلاء قرمزي غامق لمؤدي لدورمهرج وحيد للتراجيكوميديا.
ـ فلتخرج مافي جيبك يابن القحبة.
ملعون أنت وهيئتك وصحيفتك. الدم يسيل غزيرا فوق سطح النيل، وأنا المشدوه بحذر وجبروت وجسارة يرقب جز الرؤس للصبيا وقتما فرغت الكلة ودلق الكيروسين قرب مقام السيدة، الدماء تلطخ الجدران ويغيب صوت القطار من جديد ويعود ليسألني أحدهما: متى يتوقف القطار؟!
ـ ولماذا هي المحطات مقفلة والركاب يحاولون الهروب ركضا في الأنفاق التي طفحت بالحشود، وتلك الجثث التي تطيير في النهر وملابس خاوية لغرباء.
ويقول صوت لعابر طريق: وماهي آخر محطاتنا في هذي البلاد.
ويكرر الآخر من جديد،
ـ رأيتهم وقد انزووا بك وسط الطريق وسقطت بطاقة الهوية من جيب السترة.
قلت في رعب
نعم.
لا..
في تريث. كان الجنود يهرولون من جهة عابدين والفلكي والمقام وحارة السد ونوافذ وحارات القصر العيني يختبئون تحت بواكي البنوك الوطنية ومحمد فريد ومصطفي كامل يتطلعان في صمت، وقت أن كانت أحذيتهم الميري الخالية من أقدام الجنود تتراقص وتتراقص في حفل جماعي في كافة مسارات شارع الجسر العريض المؤدي لطريق الهروب.
……………………
مقطع من “يوميات البناية”