المتجوِّلون، هم أكثر مَنْ يعرف حكايات البشر، يعيشون القصَّة البشريَّة من بدايتها، ويعرفون أنها قصة خالدة، وما الموت، المرض، الفقر، الثراء، السعادة، الحزن، الحرب، وغيرها، إلا نِقاط على هذا الخَطّ الحَىّ، الممتد.
أُصدِّق أنَّ فى العالم أشخاصًا يمشون لأيام، أسابيع، وسنوات دون توقف، البعض خطوته عند نهاية بصره، هناك مَنْ يمشون فوق الماء، أو يعرفون ممرَّات خاصة ينتقلون خلالها من النهار إلى الليل، وبالعكس، وقتما يرغبون، وهناك مَنْ يعيشون إلى الأبد، فى الوقت نفسه هم ليسوا سَحَرَة، وما لديهم لا يمكن تسميته قدرات خاصة، وإنما تماهوا مع الوجود، صدَّقُوه فصدَّقهم، لامسوا جوهره، وصاحَبُوه، أعتقد أن العالم لن يكون جميلاً، وعظيمًا، إلا لو كانت فيه مثل هذه “الحقائق”، لا يمكن أن يكون سطحيًا، ساذجًا، غير مُغامِر، وبلا استثناءات رائعة، أُفكر بأن الاستثناءات فى العالم أكثر بكثير جدًا من الأشياء العادية، فأنا أرى العالم فكرة، وعملاً إبداعيًا استثنائيًا.
المتجوِّلون يحبون ملامسة الأرض لأقدامهم الحافية، وملامسة أقدامهم للأرض، لهذه اللمسة صدى شفاف فى قلوبهم، يبتسمون ببساطة، ويضحكون، يحبون العالم، الحياة، وفكرة الوجود، لكن دون جشع، أو شراهة، لديهم تلك الحالة الرهيفة من الزُّهد، الاستغناء، بلا تعالٍ أو تصنُّع، هى طبيعتهم، مزيج خاص من الرغبة فى العالم والزُّهد فيه، كل شىء واللا شىء، دون تناقض، أرواحهم خفيفة، وبسيطة، هم فى العالم بمحبَّة وجمال، فوق الحروب، الضغائن، التنافسيَّة، والشتائم، هم فى رحلتهم حُفاة من كل ما يُثقِل أرواحهم، وأجسادهم، بداخلهم شعور دائم بجوع خفيف، غير مؤلم، يُبقىِ عقولهم مستيقظة، وأرواحهم مُنوَّرَة، ربما يبقون دون طعام أو ماء لأسابيع أو شهور، يأكلون من العشب، أوراق الأشجار، يشربون من الماء الجارى، ينامون لدقائق على جانب الطرقات، أو واقفين، لا يُكلِّفون العالم شيئًا، بل يمنحنونه.
ليسوا معزولين فى متاهاتهم، فما هم فيه ليس متاهات بالأساس، وإنما خطوط ودوائر موجودة بالفعل، لكنها لا تنكشف للجميع، هم يشتركون فى الأعمال البشريَّة الجماعيَّة، يبنون بيوتًا لغيرهم، أو يحفرون قنوات مياه، يعالجون المرضى، يخبزون للجوعى، ربما تصادف أحدهم فى قطار بالدرجة الثالثة، أو أبسط من ذلك، يحكى للمسافرين أو يُغنِّى لهم، بعضهم يتنقَّل بين ساحات الحروب، يدفن الضحايا باحترام يليق بإنسان، يداوى الجرحى، يلاعب الأطفال الذين فقدوا أمهاتهم وآبائهم، يطبخ لهم، ويُدفِّئهم، هم يَدُلُّون مَنْ تشرَّودا إلى الاتجاهات الصحيحة، ويصحبونهم إلى الأماكن الآمنة.
ستكون من بين المتجوِّلين امرأة تحمل فوق رأسها صينية ملأى بطعام ساخن، تدور به خلال الليل، لتُطعم الجوعىَ والضائعين، دون أن يبرد طعامها مهما مشتْ به، تُصادفُ الواحدَ منهم فتضع له طعامها، يأكل حتى يشبع، وبعد أن تمضى لا يتذكَّر ملامحها أبدًا، ما يهمُّ أن أطباقها لا تفرغ من الطعام أبدًا.
سيكون من بينهم رجل ينضم إلى مجموعة تجلس فى طريق، يحكى معهم حكايات تُسعدهم، أحدهم سينقذ شخصًا من الموت، أو اليأس، يمرُّ أحدهم بجوارك فى الشارع ويبتسم لك تلك الابتسامة التى تجعلك تفكر، تتساءل، وتدرك أن العالم يستحق وجودك، وأنت تستحق وجوده.
ربما يطلب أحدهم من البحر أن يهدأ قليلاً، حتى تمرُّ تلك القوارب الضعيفة المزدحمة بالبشر، فيهدأ البحر، يطلب أحدهم من النهر أن يفيض لأجل قطيع من الحيوانات يبحث عن الماء، فيفيض النهر، يطلب من الشمس أن تُخفِّفَ حرارتها، أو تصير أكثر دفئًا، فتفعل، يطلب من الثمار أن تنضج حالاً على أغصانها، فتنضج وتتساقط بنفسها لأجل جوعى عابرين، تطلب إحداهن من السحاب أن يُمطِرَ لأجل أن يتسلَّى الأطفال، ويغسلون به رؤوسهم، فيهطل المطر، تطلب من القمر أن يقترب أكثر، ويُضىء أكثر، لأجل مسافرين، فيفعل، تطلب من الحب أن يتناسل لأجل أن يصير العالم أجمل، فتولد ملايين قصص الحب فى لحظة واحدة.
العالم يُطيع المتجوِّلين، لأنهم لا يطمعون فى شىء، ولا يطلبون شيئًا لأنفسهم.
المتجوِّلون، لديهم كل شىء، العالم كله، وأكثر، لأنهم لا يمتلكون منه شيئًا، لديهم إحساس عميق بالشفقة والرحمة تجاه كل المخلوقات، يعرفون أسرارًا عن السعادة البسيطة، عن الشجن، والحزن النبيل، هم لا يتحدثون كثيرًا، وبالمناسبة، الكثير منهم كفيفى البصر، لكنهم يرون بقلوبهم، أرواحهم، ومشاعرهم، ربما يُمسِكُ أحدهم بعصا أثناء سَيره، فقط للتمويه، يطلب منك أن تساعده فى عبور الطريق، يفعل ذلك لأجل اللعب، أو لكى تشعر أنت بأنك تفعل شيئًا طيِّبًا، يمكنك وقتها أن تلاحظ تلك الابتسامة البسيطة على وجهه وأنت تساعده فى “عبور الطريق”، وتشعر أنه ليس فى حاجة لمساعدتكِ بالفعل، الآن، أنت تعرف لماذا يبتسم: لأنه منحكَ شيئًا ما، جعلكَ تشعر بأنك صَرْتَ فى حال أفضل، هذا كان لأجلكَ أنت، لأجل حتى أن تتمهَّل قليلاً، ربما تخطر فى بالك أفكار ومشاعر جديدة عن العالم بسبب هذا التمهُّل البسيط.
هم لا يتحوَّلون إلى كائنات أخرى، ليس إلا صورتهم الإنسانية، فكل الصور الأخرى التى يحتاجها العالم موجودة فيه بالفعل، كما أن كل كائن ليس فى حاجة، وليست لديه رغبة، لأن يتحوَّل كائنًا آخر، لو سألْتَ الشجرة ستجيبك أنها تُفضَّل أن تبقى شجرة، كذلك كل طائر وحيوان، وقطعة حجارة، كلها تعرف روعة ما هى عليه، وضرورة وجودها فى العالم.
المتجوَّلون يبدون غير مرئيين لأحد، وهذا يُسعدهم، تمُرُّ عليهم العين دون أن تلاحظهم، ثم هناك هذا الخيط الذى يجمعهم معًا بطريقة ما، نقطة زرقاء شفافة فى عُمق أرواحهم جميعًا، وفى الوقت نفسه لكلٍ منهم فرادته، وتجواله الخاص فى العالم.
كيف يكون إنسان ما فقيرًا، ولديه الليل، النهار، الشوارع، المُمكِن، الإرادة الحرَّة، المشاعر، نعمة الحياة، لديه روح وعقل؟!.
المتجوِّلون، مزيج من مُتشرِّدِين، مشَّاءين، ورحَّالة، دون مال أو طعام أو ماء أو ملابس إضافية، لا يحتاجون إلى بيت، أو وقت، يتنقلون فى الزمان والمكان، تتَّسِع أرواحهم الحُرَّة، الطيِّبة، للعالم، وعوالم موازية، وأخرى مبتكرة، ثم هم يبنون عوالم جديدة، حياتهم سهلة، بسيطة، وملأى بأسباب الحياة، كل البشر والمخلوقات إخوة لهم، وكل الأماكن صالحة لحياتهم وموتهم، وحياتهم وموتهم صالحَيْن لكل زمان ومكان.