د. رضا عطية
“هل غادر الشعراء من متردِّم؟”
سؤال أطلقه الشاعر القديم يعاين به إشكالية دائرة لا في الشعر أو في الأدب فحسب بل في الفن بعامة، تلك الإشكالية التي تدور حول كيف للفن أن يتخلص من تكرارية تناول نفس الموضوعات الكلاسيكية دون تجديد، مما يضع الفنان أمام تحدٍّ يحضه على أن يتناول موضوعات قديمة وأفكارًا سابقة بشيء من الجدة، فالفنان والشاعر يبقى أسيرًا للتردد بين القديم والجديد، بين تناول أغراض قديمة، وابتكار أغراض جديدة، بين معاودة تيمات تقليدية، ومحاولة التجديد في مطارحة تلك التيمات، ليصب خمرا جديدا في إناء عتيق.
وعبر حياة البشر تظل قضية الموت تحيا في وعي الفكر الإنساني لتكون مرمي للتساؤل وهدفًا للبحث، فالموت هو أحد المستهدفات الملحة للطروحات الفلسفية، وكذلك في الفن والأدب هو مقصد للتداول المستمر، وفي الشعر ظل الموت مدارا لحركة الشعر المستهدفة تأمل الوجود وبلوغ حقائقه الكبري، كما شكَّل الرثاء وبكاء الموتي غرضًا رئيسيًّا من أغراض الشعر العربي، قديمه وجديده، مما راكم إرثا إبداعيا ضخما في هذا الصدد، وإن شابه ضرب من التكرار وألوان من التقليد والاتباع، حتي أضحت مسألة الموت كبئر كثر ورده واستُنفد معظم مائه، وبات من العصي على شاعر أن يطرح جديدًا في تعاطيه قضية الموت.
وفي ديوانها الثالث “أن تسير خلف المرآة” تقدم الشاعرة المصرية “جيهان عمر” تجربة خاصة مع الموت، انطلاقًا من معاينة شخصية للشاعرة لحادث الموت إثر فقدها رفيق الدرب والزوج في حادث دامٍ كما أبان الديوان. تقترب التجربة الشعرية من الموت، فتستحضر ملابساته وتسجل الذات الشاعرة توابعه المتعاقبة على الوعي لتقدم رؤية شفيفة بصوت هامس مبطن بالألم المطمور في أغوار النفس الكليمة المكابدة الفراق، والمجابهة تبعات الفقد والمكافحة سطوة الوحدة والملاقية مواجد الخواء بعد غياب الحبيب عن الحياة.
ينبني الديوان المشكَّل من اثنين وأربعين مقطعا شعريّا على التشظي الوحدوي المائل للالتئام العضوي، فلكل مقطوعة بنيتها الذاتية وحدودها الخاصة، غير أنها تنزع لأن تتداخل مع البنية الكلية للديوان المتآلف الوحدات، فيكون الديوان أشبه بجدارية كبري تعاين واقعة الموت عبر زوايا متعددة ووفق أبعاد تصويرية متفاوتة، فيكون الديوان أقرب إلى فيلم سينمائي يتكون من مقاطع (Shots) متتابعة في توليف مونتاجي للمقاطع السرد- شعرية التي تتداعي في انهمار بَوحي، فيسيّل وجع الفقد الألم زخات ملتاعة تصب في بحيرة الحزن الشفيف.
النجاة من الموت وتأنيب الذات
يبين للمتلقي، القاريء للديوان، حساسية الوعي الشعري وصفاء الرؤية السردية التي تستعيد حادث الموت مشمولا بملابساته الدقيقة ومحاطًا بوقائعه المتشابكة، فتعود الذاكرة إلى يوم الحادث في مقطع يحمل توقيت وقوع الحادث بعنوان “في الواحدة وثلاث دقائق”:
في أي منطقة
من الصحراء
لونت الدماء
قميصك القطني
القميص
الذي انتقيتُه
في الصباح
ليصلح رداء للموت.
في أي منطقة
من الصحراء
وضعوني جانبا(1).
رغم أن عنوان القصيدة يركز على البعد الزمني لوقوع الحادث، فإن متن القصيدة يلتمس الأبعاد المكانية لمسرح الحادث، التي تتراوح ضيقًا واتساعًا وتتفاوت بين المكان المحدود الذي تلوَّن بالدماء وهو قميص الفقيد والمكان المترامي الحيز وهو الصحراء التي ضمت الذات الشاعرة حال وقوع الحادث، فتعمد الصياغة القائمة على إحداث تشاكل بين التموضع المكاني للدم على قميص الفقيد والتموضع المكاني للذات الشاعرة الموضوعة في بقعة صحراوية مما يؤسس لمشهد مترواح في حركة كاميرته بين الضيق والانفتاح، وبين الشكل والأرضية، كما تتلاعب الكاميرا الملتقطة عناصر المشهد بمعطياته، فبينما يكون القميص أرضية للدماء التي لطخته، يكون في نقلة مشهدية أرحب (شكلا) في حضن الصحراء التي وقع بها الحادث، لتكون الصحراء هي (الأرضية) للرفيق ضحية الحادث وللذات الشاعرة التي تحاول أن تشاطر الأقدار مسؤولية الحادث ولو باختيارها لرفيقها القميص الذي تلطخ بدمائه في ذلك الحادث الدموي.
وبالتجوال عبر أرجاء الديوان نستطيع أن نلمس دقة الوعي الشعري للذات المأزومة في رصدها لمحايثات ذلك الحادث المفني فترصد التناول الإعلامي للحادث في مقطع بعنوان “خبر”:
“مصرع موسيقار، ونجاة زوجته الفنانة التشكيلية”
لن أقف عند أخطاء الجريدة
كان يضع نوتة موسيقية صغيرة في جيب سترته
وكنت أرسم
سحابة لا تستقر على حال(2).
يعمد السرد شعري إلى التقاط التفاصيل المفارقة والحوادث الدقيقة المرتبطة بالوقائع، فيصبغ النصوص بطلاء الواقعية، فالذات تقبل الخطأ في خبر الجريدة عن الحادث، فالفقيد الذي أخبرتنا الذات الشاعرة عنه أنه كان مصورًا وفنانا تشكليًّا كما في مقطع بعنوان “براويز”: كأنك كنت تجرب فكرة الخلود/ المثير للسأم/ من كثرة ما صورت وجهي/ وحبسته في البراويز”(3)، لتتكيف الذات الشاعرة مع الخطأ الخبري، مُحَاوِلةً إيجاد مبررات له، فالفقيد (الفنان التشكيلي) يتماهي مع الموسيقار؛ لأنه كان يحمل نوتة موسيقية في جيب سترته، أما الذات الشاعرة فقد أحلها الخبر الخاطئ محل الفقيد في موقع الفنان التشكيلي، فتتماهي الذات الشاعرة– بدافع الرغبة في التوحد المصيري مع الفقيد الراحل– في حمل صفته ومهنته (الفن التشكيلي)، وباعتبار تراسل الفنون وتشاركها في الغاية الجمالية وفي الفاعلية التخيلية التي تستهدف إطلاق يدها في مخيلة متذوقي تلك الفنون، فالذات الشاعرة المتماهية مع رفيقها الراحل تتقمص دوره فيما يَبِين عن رغبتها في التوحد معه، حتي تصرح بأنها كانت ترسم (سحابة لا تستقر على حال)، فالسحابة التي تجيء مفردة بما تشحن به من غلالات رمزية للماء هي رمز للحياة والتكاثر و”الصورة الأولية الخاصة بالحياة عند يونج، وهي صورة ترتبط بتحقيق الذات والمحافظة على هذه الذات وهي كذلك صورة ترتبط بالتوالد والتكاثر والحب، لكنها ترتبط أيضا بالموت والدمار، فمن الماء يمكن أن تخرج أيضا الحرارة والبرق والكهرباء”(4)، فتلك السحابة التي ترسمها الذات تكون مكافئًا استعاريًّا لحياتها القلقة المضطربة والتي تبخر استقرارها بفقد رفيق الحياة.
بيد أن الذات المقتفية أثر التغطية الإعلامية للحادث المفجع لا تقف فقط عند مانشيتاته الرئيسية، وإنما تتابع كذلك مانشيتاته الفرعية كما في قصيدة بعنوان “أوزان”:
“التي نجت من الحادث بأعجوبة”
هكذا وضعت الصحفية الشابة
عنوانًا جانبيًّا لمقالها
فكرتُ كثيرا في تلك الكلمة
بأعجوبة نجوت
نجوت بأعجوبة
الأعجوبة
ذكرتني بالأضحوكة
أريد تصغيرا كذلك
لكلمة ألم. (5)
تجيد الصياغة الشعرية ترتيب أولويات الطرح النصي بالتوازي النسقي مع الطرح الإعلامي، فبينما يأتي خبر الموت مانشيتًا رئيسيًّا في تغطية الإعلام للحادث، يأتي خبر النجاة مانشيتًا فرعيًّا يتموضع جانبًا، فكأن الموت هو المخيم على حدث النجاة ويظلله بأجنحة الفناء، وإذا كانت صفة الذات الشاعرة في المانشيت الرئيسي– ولو عن طريق الالتباس والخطأ– هي كونها فنانة تشكيلية، فقد اكتسبت هذه الصفة واستمدتها من مجاورتها لرفيقها الراحل في المانشيت، وهو الذي منحها صفته لتكون صفة لها، فأمسي وجودها مستمدا من وجود قرينها الراحل، ولكن تلك الذات في المانشيت الفرعي الذي غاب عنه زوجها الراحل فقدت الصفة التي حملتها في المانشيت الرئيسي (فنانة تشكيلية)، فقدمت على أنها (التي نجت بأعجوبة)، فقدت صفة الفنانة التشكيلية وهي الصفة الدائمة، لتلتصق بها صفة التي نجت وهي صفة وقتية مرهونة بظروف الحادث ومتجمدة عند الزمن الماضي، فكأن غياب الرفيق قد أفقدها صفتها الثابتة، كما تجيد الصياغة التركيبية استثمار طاقات التوزيع البلاغي للعناصر المشكلة للتراكيب عبر فضاءات النص، كما في سطري القصيدة الخامس والسادس (بأعجوبة نجوت/ نجوت بأعجوبة)، فهما إعادة إنتاج لما يُعرف في البلاغة القديمة برد العجز على الصدر، وبضم السطرين الشعريين فإنهما يبتدآن وينتهيان بالأعجوبة التي تلف فعل النجاة (نجوت) المكرر مرتين، وكأن صفة الأعجوبة تحاصر فعل النجاة وتعوقه عن ممارسة كامل فاعليته وتنزعه من مضمونه الإيجابي، فهي نجاة بطعم الهلاك، وخلاص بختم الفناء، وحياة برائحة الموت، فالأعجوبة التي هي تصغير لكلمة العجب جعلت الذهن يستدعي كلمة الأضحوكة المشاكلة لها صرفيًّا، فكأن مسألة النجاة المتعثرة التي نالتها الذات لا تثير إلا الضحك لأنها فاقدة لقيمتها، فهي تثير الضحك المرير النابع من الألم الذي تنشد الذات تصغيرا له أسوة بكلمتي أعجوبة وأضحوكة لهول ما تقاسيه من هذا الألم ولرغبتها في تخفيف حدته.
السخرية
وإذا كانت الذات تشعر بمرارة النجاة حين تسترجع المتابعة الخبرية للحادث، فإنها تحاول أن تسائل في مبررات تلك النجاة، كما تسترجع حالة الموت الثانية (موت الصديقة) جراء هذا الحادث كما في قصيدة “طابع بريد شفاف”:
رحلت أنجيلا بعد ثلاثة أيام فقط من رحيلك، لبت نداءك كصديقة مخلصة، أما أنا فخذلتك بامتياز.. اخترت البقاء لأنني لا أحب ترك الأمور معلقة، أنسيتَ ملابسك الملقاة في الحجرة ونباتات الظل التي لم أسقها منذ أيام؟
أتراها أسبابًا واهية؟(6)
ما يلبث الوعي أن يلهث وراء حوادث الموت بعد فقد رفيق الدرب بثلاثة أيام حتي تلحق به الصديقة الأجنبية “أنجيلا”، فهي تعتبر موتها وفاءً للصداقة مع رفيقها الراحل، في حين تستمر الذات الشاعرة في مسلكها النازع نحو تأثيم النفس وتأنيب الذات على فعل النجاة، فتعتبره خذلانًا لعُرى الحب التي تربطها برفيق العمر الراحل، وهو ما يشي برفض الذات للحياة وتألمها لبقائها فيها دون شريك الدرب، وعبر النص يتدثر صوت الألم بنبرات من السخرية، “وقد تعكس كثرة استخدامها العدمية أو النسبوية (لا شيء، أو كل شيء صحيح). ومع أن السخرية موجودة منذ القِدَم، أصبح استخدامها إحدى أهم السمات المميزة لنصوص «ما بعد الحداثة» وممارساتها الجمالية“(7). وفي محاولة لإيجاد تبرير يعزي البقاء في الحياة تنحو الذات إلى اختلاق أسباب واهية للبقاء كرعاية الملابس المعلقة في الحجرة وسقي نباتات الظل، فتحيل تلك الأسباب الواهية المتفجرة من براكين السخرية الطافحة بألهبة المرارة وألسنة الألم إلى شعور الذات بعدم جدوى الحياة وفقدانها مبرارت العيش ودواعي الوجود بعد غياب الحبيب ورحيله عنها، فتلك السخرية إحدى أمارات رفض الوعي لذلك الحادث المفجع بل عجزه عن إدراك مأتى التحول المأسوي الطارئ، كذلك فتلك السخرية ربما تنبع من شعور ضاغط بالذنب نتيجة فعل النجاة الذي تراه تخليًا عن الآخر، كما تمتد السخرية في سوق النفس لمبررات بقائها بالحياة المتمثلة في رعاية أشياء الغائب كملابسه الملقاة بالحجرة والنباتات التي حرمت من السقيا لمدة أيام. بل ربما تتماهي الذات مع أشياء الراحل المتروكة في الحجرة التي تشي بالانغلاق وحصار موجوداتها، فحالها بعد رحيله من أيام قلائل كحال ملابسه المعلقة؛ فلا قيمة لها دون ارتداء صاحبها لها، فيكون بالمثل أن لا قيمة للذات بدون وجود الحبيب الراحل، وهي أيضًا كنباتات الظل التي حرمت من السقيا منذ أيام، فهي محرومة من الحبيب برحيله منذ أيام، فأشياء المشهد عند جيهان عمر تمثل مجازات موازية لشخوصه واستعارات مكافئة لأحوالهم.
مطاردة الموت
غير أن الحضور القوي للموت لم يقتصر فقط على الآخر والصديقة الأجنبية إثر ذلك الحادث الدموي بل امتدت آثاره وتنامت تبعاته:
بجسده الضخم
يتحرك بافاروتي بين الأثاث
حتي يصل إلى فراشك
ولأنه كان الوحيد القادر على إيقاظك
مات
بعدك
بأيام(8)
يعيد الوعي الذاتي للصوت الشعري السارد هيكلة الوقائع، كما أنه يُمنِّطق الأحداث وفقًا لرؤية خاصة يتحرك مؤشر تبريرها لعلل الوقائع تبعًا لقبلة رؤاها التي باتت تعزو كل حدث إلى موت الآخر، فمغني الأوبرا الإيطالي “بافاروتي” الذي كان يوقظ غناؤه الراحلَ، مات هو الآخر بعد أيام من رحيل الزوج، فأي قران يعقده الوعي المكلوم بين الراحل وبقية الراحلين ارتباطا به وتضامنا معه؟ كيف يُقدِم تصور الذات على تفكيك كينونات الموجودات وإعادة ربط منتمياتها بمركزية كينونة الراحل؟ لِمَ أمست هويات الكائنات نابعة من هوية الراحل وعالقة به؟
إن ردود فعل الذات إزاء حادث الموت تكثف حالة الذهول الذي يطبق على الوعي، حتي تكاد تفقد الذات الواعية إحساسها بواقعية المشهد المأسوي الذي تواجه أهواله كما في قصيدة “في مسرح المشفى”:
من فعلها؟
من بدّل الديكور خلفي؟
بتُّ ممثلة
في سيناريو لم أقرأه من قبل
من استبدل ستائري الملونة
بلمبات النيون القبيحة
التي تركت وجهي
قناعًا منعكسًا
في مياه راكدة؟
لا أدري أي دور أُسند إليَّ
وسط جمهور لا يجيد التصفيق(9)
إن رفض الوعي تصديق ما حدث يدفعه للاعتقاد بأن الأحداث الواقعة في المشفى مجرد لعبة وتمثيل دُفعت إلى تأديته الذات الشاعرة قسرًا ورغمًا عن إرادتها، فتبدلت ديكورات المشهد المألوف لديها من الستائر الملونة ليحل محلها لمبات النيون بوقعها المؤذي التي جعلت وجه الشاعرة (قناعًا منعكسًا في مياهٍ راكدة) مما يفجر المفارقة ويستدعي أسطورة نرسيس وانعكاس الوجه على سطح المياه الذي كان بدافع الزهو في الأسطورة القديمة غير أنه مفضٍ إلى الهلاك، غير أن انعكاس وجه الذات هنا كان بسبب الألم الذي تواشج مع إحساس الفناء مع عدم أداء الجمهور/ العالم المحيط بالذات دوره تفاعلا معها على ما أجبرت على تأديته، غير أن أصعب المشاهد التي مرت بالذات الشاعرة في مسرح المشفى هو تشييع جثمان الراحل دون تمكنها من مرافقته لبقائها مكبلة إثر آلام الحادث وعدم تماثلها للشفاء كما في قصيدة “اتجاه الليل”:
ملتصقة بفراش لزج
أراقب كدمات زرقاء
تبدو كسحب
تتحرك ببطء
في اتجاه الليل
أراقب..
بينما يشيعون الآن جثمانك
ملفوفًا بكتان خفيف
لم نتفق
أن تذهبَ
في مشهد نهار خارجي
قبل أن تنتقل الكاميرا ببطء
إلى لافتة المشفى
وتقتحم غرفتي(10)
يجيد سيناريو المشهد الشعر سينمائي تخطيط فضاءاته وترتيب أحداثه وإدارة كاميرته التصويرية، حيث تنتقل الكاميرا من المشهد الداخلي لرقدة صاحبته بالفراش مثقلة بالكدمات الزرقاء التي تبدو جاثمة كسحب متحركة في وسط ليلي، إلى مشهد موازٍ حين يُشيع جثمان الرفيق الراحل في مشهد نهاري خارجي، فتتجلي المفارقة المعتمدة على آليات التشكيل الضوئي للمشاهد بتزامن المشهد النهاري الخارجي للجنازة مع المشهد الداخلي المائل لأن يكون ليليًّا لرقدة الألم بالمشفى بفعل الإضاءة الفيزيقية وكذلك بفعل الظلام النفسي المخيم على الذات المقحمة قسرًا في مشهد لم تتفق عليه ولم تتصوره سلفًا.
وفي ملاقاة تجربة الموت يمر قطار الوعي الذاتي بمحطات زمنية بعد رحيل الآخر تمثل تجارب الذات التي تحمل تطورات خبرتها بالفقد؛ كما في قصيدة “ستة أسابيع”:
تحت لوحة مقلدة لـ”ميرو”
وعلى أريكة جلدية صفراء
حيث ركنك المفضل
يلمسك الزمن برقة
مثل ريشة
ويعبر بك إلى هناك..(11)
ينتقل البناء الشعري من الوصفي المادي الذي لا يخلو من دلالات معنوية داخلية إلى اقتحام المجرد واستكشاف خبيئاته، فتستحضر الذات الآخر تحت لوحة “مقلدة”، فما أشبه تلك اللوحة المقلدة، بحياة الذات المتأملة والتي تشعر بنسخ حياتها، فهي حياة مقلدة، كما تحكم الصياغة الفنية اختيار ألوان المشهد، فاللون الأصفر لون الأريكة هو لون الذبول والشحوب بما يعكس إحساس الذات بذبول حياتها ووهنها، ثم تنسلخ الذات من معاينة المشهد المادي إلى معاينة المجرد الذي يتجسد في تشكل سحري شفيف، فالزمن يلامس الآخر أو يلامس شبحه في مكانه الأثير.
محاولة التخلص من الموت
تخوض النفس في منازلة الموت ومدافعة تبعاته ومواجهة آثاره معركة في أكثر من اتجاه، في صراع إرادة محتدم بين الذات وعالمها، أو الذات المنقسمة على نفسها، الذات المثقلة بضغوط الموت، والذات التي تريد مقاومة هذا والموت والتخلص منه:
مطرودة مني
أخرج
في منتصف الليل
حينما احتدمت المعركة بيننا
الشارع الرئيسي
أكثر برودة مما توقعتُ
شارع البارات المجاور
أكثر غموضًا
يخبِّئ حكاياتهم
بالداخل(12)
فمستهل المقطع الذي يأتي تركيبًا منزوع المسند إليه المتمثل في ضمير الذات (أنا)، مع تصدير المسند (مطرودة) وهو اسم مفعول يشي بشعور الذات بانحسار فاعلىتها وتقويض إرادتها، غير أن المتعلق به (مني) ما يلبث أن يُحدث انزياحًا دلاليًا، بعد أن باتت الذات (الأنا) المقصاة من صدارة التركيب تواجه انقسامًا واضحًا، أصبحت الذات ذاتين، فأي الذاتين طاردٌ وأيهما مطرودٌ؟ هل هو الصراع بين الذات المتلبسة بآثار الموت والذات الساعية للتخلص منه؟ فما يُبذل من مساعٍ ملحة لتجاوز تبعات الفقد وترميم الذات لا تؤتي ثمارها، فيتولد جراء هذا شعور بانشطار الذات وتبعثرها الوجودي وتشتتها المكاني بين الداخل النفسي الذي لا يحتملها، والخارج العالم الذي لا يحتويها وتشعر فيه بالبرودة والغموض، مما يجعل الذات تتأرجح شعوريًّا في تفكك مشتت لحركتها، حتى تتورط في معركة تواجه فيها المجهول، بعد أن أمسى هذا الخارج مغلقًا أمام محاولات اختراقه، وبات داخله خافيًا للحكايات العصية على الإدراك.
تعيش الذات حزمة من الصراعات الثنائية بين الداخل والخارج، وبين الموت والحياة كما في قصيدة “كذرات ملح”:
وإذ تفوح رائحة التحلل
لن أخاف
ستزول قريبًا
ما أن تهدأ تدريجيًّا
حركة الدود في داخلي
سأشعر بسكون أحشائي
الملتفة حول نفسها(13)
رغم صعوبة المواجهة مع الموت تعلن الذات الشاعرة عن استعدادها لمواجهته بثبات غير متهيب، ويبدو أن ثمة رغبة لمطالعة مستقبل قريب يتجاوز لواصق الموت التي تكتنف الذات، وذلك من خلال التركيب الشرطي الجامع بين زمني المضارعة في معاينة عوالق الموت وملابساته كانتشار رائحة التحلل وبين زمن المستقبل القريب الذي يتطلع لتجاوز الأزمة التي تبدو متجلية في تماهي الذات مع الآخر الفقيد، إذ تشاطره حالة تحلله العضوي وسريان الدود في الداخل، غير أن خط سير المقولات الشعرية بتلك القصيدة مازال يحمل مفارقات تحولية:
ثم يسود الظلام
ظلام طويل
وصمت
ها أنا أجذب السماء نحوي
فتقترب النجوم
تقترب
كذرات ملح على شال أسود
كلما أحكمتُه
حول كتفي
ذاب الملح
في جسدي(14)
إن الذات التي عبَّرت عن تطلعها لتجاوز أزمة رحيل الآخر ومغادرة بؤرة الاضطرابات المحتدمة، أملاً في الاستقرار والسكينة، تعود لتجد نفسها متورطة في الظلام الذي يتكرر مرتين: الأولى معرَّفا كاسم جنس، ثم في المرة الأخرى نكرة موصوفة (ظلام طويل) تأكيدًا على الحضور القوي للظلام وشيوعه المشمول بالصمت دلالة على حالة جمود تراها الذات في عالمها المحيط وهي ليست إلا إسقاطا للذات تلوِّن من خلاله عالمها الخارجي بما يخالجها من مشاعر باطنية وتصورات داخلية، وهو ما يتبدى من تماثل حالتي الالتفاف الباديتين في الداخل بالتفاف أحشائها حول نفسها، وفي الخارج في التفاف نجوم السماء في لوحة السديم السماوي المظلم حول كتف الذات التي تشعر بالحصار الداخلي والخارجي مما يجعلها في حالة تكور. كما يبدو من الصورة التي تحكم الصياغة الشعرية تشكيلها والتلاعب بأبعادها إذ تصغِّر السماء ونجومها كشال مما يعكس شعورين متعالقين: الأول بتضاؤل الكون في عينيها والآخر بالحصار المطبق على الذات. كما يجيد الخطاب الشعري اللعب بأوراق رموزه فيبدو الدود علامة على التحلل والموت، في مقابل الملح الذي يحمل عديدًا من العلامات، فهو على مستوى بيولوجي علامة للحياة السارية داخل الجسد ولكن بشرط ذوبانه مع عدم ارتفاع نسبته مما قد يؤدي إلى تكلسات وبالتالي إلى موت، كذلك فالملح هو مادة لحفظ الأجساد التي ماتت من التحلل، فيكون في تلك الحالة هو حافظ لوجود الكائن دونما أن يكون حافظا لحياته، كأن الذات- التي تواجه صراعات ثنائية بين الحزن والأمل والإحباط والعزم على مواجهة الألم– تشعر بكينونة ضدية تجمع بين الحفظ والموات، أمست كائنا منتقص الحياة، باتت حياتها غير مكتملة العناصر، هي حياة بلون الفقد، ووجود بإشعار النقص، وحضور بوصمة الغياب.
سيناريو النص واستراتيجيات القصيدة
وإذا كانت “جيهان عمر” تجيد تنسيق مشاهدها وتوزيع فضاءات المشهد الواحد بتحريك الكاميرا انغلاقًا وانفتاحًا، داخلا ًوخارجًا، فهي تبدو كذلك في رسم خط سير السرد وبناء السيناريو الذي تعيد ترتيب أحداثه ترتيبًا خاصًا يختلف عن ترتيبها الحكائي القائم على تتبع الخط الكرونولوجي للأحداث المبني على ترتيبها وفقا لتصاعدها الزمني، إذ تقوم بتنسيق الترتيب التوليفي للمشاهد وفق رؤية خاصة لا تلتزم بمنطقية الترتيب الزمني التصاعدي، فخط سير السرد شعري لا يلتزم بتتابعية البناء الحكائي القائم على ترتيب الأحداث وفقا لزمن وقوعها من الأقدم إلى الأحدث بالترتيب، مما يجعل للديوان بنية فسيفسائية تجمع بين التشظي والتضام، وبين التفكك والالتحام، وبين التبعثر والالتئام؛ فتلك المقاطع المتشظية التي تتسم بالتشذر الوحدوي وعدم تتابعها الآلي تخرج عن خط سير الحكاية الرأسي لتحتل فضاء سديميّا تتناثر على رقعته السرد شعرية ذرات القصيد التي تؤلف في النهاية لوحة جدارية كبري، تتراص عبر سيناريو النص الكلي ومضاتها الملتمعة والمتمازجة في تكتل متآلف؛ فبعد أن تناولت الصياغة السرد شعرية حادثة الموت وآثارها ومعاناة الذات فترة الحداد تعود في القصيدة/ المشهد قبل الأخير من الديوان/ السيناريو إلى مشهد لقاء ما قبل الرحيل في قصيدة “يوم يقترب من نهايته”:
حول أربعة أكواب من الشاي
نتبادل العبارات الأخيرة
قبل أن تسكب أنجيلا
كوبها الساخن
على يدها المرتعشة
لم نملك أي دليل
على ظهور ملاك الموت
مقتربًا من ضحاياه
وحده النادل المسكين
بدا متذمرًا
من تلك الجلسة الختامية
وهو ينظف في غضب
فلم يلمح بعض ريشات
تناثرت تحت المائدة
في هدوء(15)
إن ارتداد الذاكرة لمشاهد ما قبل الحادث المهلك يجسد رغبة دفينة تلامس المستحيل بإيقاف الزمن وتجميد السيناريو عند هذا المشهد الذي تجيد الصياغة الفنية هندسة تفاصيله وتشعير لفتاته بما يعضد خلفياته الرمزية، فحضور ملاك الموت الخفي في المشهد تأهبًا لقيامه بضربته تلازم مع تذمر النادل الراغب في إنهاء الجلسة كأنه يعجِّل لملاك الموت تنفيذ مهمته، ثم تأتي بعض الريشات التي تناثرت تحت المائدة لتمثل نظائر استعارية للموتى الذين تناثروا بعد قليل كالريش في مهب ريح الفناء، لذا فالصياغة الشعرية- لدي جيهان عمر- تتخف من طرائق البلاغة التقليدية المعتمدة على التشبيهات البارزة والصور الزاعقة في ترسيمها المجازي؛ إذ تأتي الصور شبحية في خطاطها المجازي تحت جلد التعبيرات المخاتلة التي تضمر في خلاياها طاقات مجازية مرواغة وشحنات استعارية خاطفة، فأي رؤية تعتمدها الصياغة الشعرية في مطارحة الموت في جوهره الكلي ومعناه المجرد، وفي نثاراته الوقائعية وتفاصيله الدقيقة؟
إن إعادة ترتيب المشاهد وفق رؤية خاصة لا تلتزم بمبدأ تواليها العلِّي إنما يدل على مستوى الصياغة التركيبية على قدرة الصياغة الشعرية ومهاراتها في التقافز بين المشاهد والتنقل بين المواقف في رشاقة مونتاجية بـ”أقدام خفيفة” كعنوان الديوان الأول للشاعرة جيهان عمر، كما يعكس على مستوى الوعي النفسي حالة من التشظي الشعوري والتأرجح النفسي الذي يداهم وعي الذات ويخلخل استقرارها ويزعزع ثباتها الانفعالي، فتأتي حركة الوعي الذي يرتب الحوادث وفق منظوره الخاص متذبذبة تجسيدا للتذبذب النفسي الذي ألم بالذات.
نفي غياب الراحل
رغم رفض الذات الواقعة تحت سطوة الحزن والذهول التسليم بموت الرفيق، إلا أنها تضطر للانخراط في تدارس استراتيجيات تعاملها مع الموقف الأليم المفروض عليها كما في قصيدة “طابع بريد شفاف”:
على أية حال..
دعنا نتفق الآن على أشياء أهم، كأن تتحول أنت إلى يد ضخمة تحميني من الحوادث البسيطة على الأقل، قبل أن أسقط مثلا من فراش صار كبير جدًا مثل صحراء
وأنا سراب يتضاءل كلما تقدمت في وحدتي، تستطيع أيضًا أن تقبل جبين أمي، تطمئنها بأن أثر الجرح سيختفي تحت إطار النظارة المربعة(16)
إن انخراط الذات في التفكير بما ستحياه بعد رحيل الآخر، ومحاولتها أن ترسم خارطة طريق لمستقبلها وشؤون حياتها يكشف عن حضور هذا الآخر الراحل الذي تستدعيه الذات بكثافة والذي يجيء حضوره قويًّا عبر ضمير المخاطب المفرد الذي يرسخ لحضوره الفاعل رافضًا فرضية غيابه، وتعمل الصياغة التصويرية على التلاعب بأركان الصورة تضخيمًا وتصغيرًا بما يلائم منشودات الدلالة، فتكبر الصياغة التشبيهية الفراش ليصير مثل (صحراء) تعبيرا عن الفراغ الكبير الذي خلفه الفقيد برحيله وما تحمله الصحراء من مخاطر الفناء للأحياء المرتحلين عبرها، في المقابل تشبه الذات الشاعرة نفسها بالسراب الآخذ في التضاؤل مع مرور الزمن في وحدتها بما يحقق مبدأ (مراعاة النظير) الذي استحسنته البلاغة القديمة.
وإذا كانت الذات الشاعرة تنادي عبر الديوان كله بحضور شفيف للراحل وبدور فاعل له في حياتها حتي بعد رحليه، وهو ما يؤكد عليه عنوان الديوان نفسه “أن تسير خلف المرآة” والذي يأتي مخاتلا، استثمارا لبلاغتي الحذف والإضمار ما ينعش طاقات التلقي استغلالا لطبيعته المرنة التي تعمد إلى تنشيط الذهن، فهذه البنية (أن تسير خلف المرأة) تجمع بين التركيب؛ حيث تتكون من أربعة كلمات وبين الإفراد، حيث يمكنها أن تمثل بحضورها التركيبي أحد طرفي التركيب، فيمكنها أن تكون موضوعا أضمر محموله؛ كأن نقول (أن تسير خلف المرأة) هو حلمي/ رغبتي/ أمر ممكن وغيرها، وقد تكون محمولا لموضوع وهو ما أبانت عنه القصيدة التي بعنوان “تستطيع”:
أن تسير خلف المرآة
وليس أمامها
فوق البناية الشاهقة
وليس أسفلها
أن تكتشف محبة أصدقائك
باختبار صغير
أن تخترق المنامات
وتشوش الطمأنينة
الراكدة(17)
فالذات تتشبث برفض موت الزوج الراحل، بل هي تختار له دورًا ينفي فكرة غيابه، فمن عنوان الديوان (أن تسير خلف المرأة) فقد حمل التركيب عنصرا فعليًّا (تسير) وجاء في المضارعة رغبة في استمرارية فاعلية الفقيد وفعل السير يحمل معني الحركة في المكان والزمن بما يضاد الثبات والجمود وهو ما يباعد ضمنيا فكرة الموت، غير أن الفاعل يأتي ضميرا مستترا تقديره (أنت)، فهو حضور مخاتل وفاعلية تجمع بين الحدوث وإضمار فاعلها، وهو عين ما ينطبق على عنوان القصيدة (تستطيع) والذي أُخذ محمولها ومتعلقها عنوانا للديوان، إذ أن “هناك علاقة إنسيالية بين العنوان والنص، مما يشكلان معا بنية شاملة. وبالتالي يعزي ذلك بالقول مع جيرار فينييه (Gerard Vigner): إن العنوان والنص يشكلان بنية معادلية كبري: العنوان: النص… إن العنوان بمثابة رأس للجسد، والنص تمطيط له، وتحوير، إما بالزيادة أو الاستبدال أو النقصان، أو التحويل. إن العنوان بالنسبة للسيمولوجي بمثابة بؤرة ونواة للقصيدة الشعرية. يمدها بالحياة والروح والمعني النابض”(18)، حيث “إن العنوان يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته، ونقول هنا: إنه يقدم لنا معرفة كبري لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه، إذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامي ويعيد إنتاج نفسه، وهو الذي يحدد هوية القصيدة، فهو- إن صحت المشابهة بمثابة الرأس للجسد- والأساس الذي تنبني علىه”(19)، وإذا كان بؤرة القول تركز على قدرة الراحل الحاضر على الفعل والاستطاعة، غير أن مسرح الاستطاعة ومكان الفاعلية قد جاء بخلاف المألوف، فهي فاعلية خاصة (خلف المرأة) ويأتي النفي (وليس أمامها) للتأكيد على مباينة تلك الفاعلية للغائب الحاضر لنمط الفاعلية التقليدي، فكأن الذات تحاول أن تدرأ المخاوف الأسطورية التي تحف بالمرآة، فإذ كانت أرواح الموتى “تكمن كما تعتقد بعض الشعوب وكما أشار رانك، في المرايا، ومن هنا كانت تلك العادة التي ما تزال باقية لدى بعض الشعوب الأوربية حتي الآن لتغطية المرايا”(20) فثمة اعتقاد أسطوري بأن “الوليد الذي ينظر إلى مرآة إنما ينظر إلى قبره، وهي فكرة موجودة في بعض الأساطير المصرية القديمة واليونانية ولدى البدائيين من قبائل الزولو، وهي أساطير تربط بين الإنسان وظله، وتؤكد أهمية عدم النظر إلى المرآة أو الظلام وإلا حاق الموت بهذا الناظر كما حاق بنرجس عندما أحدق بصورته”(21)، فكأن الذات ترغب في أن تحفظ حضور الفقيد من الموت إذا سار أمام المراة فهي ترفض فكرة موته، كذلك ترسم له حضورا سحريًّا مضادًا لقواعد الحياة الكونية الطبيعية، فهو يستطيع اختراق المنامات والتمرأي بشكل سحري.
رفض العزاء
لا يفوت الذات أن تتناول مظاهر العزاء ومحاولات الغير تخفيف ألمها النفسي جراء هذا المصاب الجلل كما في قصيدة “في كل ليلة”:
أرتدي السواد
ألتصق في مقعدي
أنتظرهم .. أستقبلهم .. أودعهم
بوجه مهيّأ لتلقي قبلات المواساة
رغم نمل خفيف يستوطن نصفه الأيسر
أنتظرهم .. أستقبلهم .. أودعهم
تلك الترمومترات التي جاءت لتقيس درجة الحزن(22)
تبدي الذات الشاعرة تململها من ممارستها طقوس تَلقي العزاء التي باتت ممارسة رتيبة تصيبها بالتجمد، فهي تلتصق في مقعدها انتظارا للمواسين، كما تعمل البنية الإيقاعية القائمة على تكرارية الأفعال لا سيما في السطر الثالث (أنتظرهم – أستقبلهم – أودعهم) على تأكيد آلية هذه الأفعال التي تتكرر بشكل آلي رتيب، ويتكرر نفس السطر في السطر السادس بما يجعله عصبًا إيقاعيًّا مشتركًا في بناء القصيدة، كما يعمل تشبيه المواسين بترمومترات جاءت لتقيس درجة الحزن يؤكد على عدم جدوي فعل المواساة بالنسبة للذات، كما أن تشبيه المعزين بذلك الوصف الشيئي (ترمومترات) يعكس استشعار الذات بجمود العالم وافتقادها الحس البشري الحميم وانعدام الائتناس الإنساني برحيل الزوج.
غير أن تبرم الذات من فعل المواساة يتزايد لتفاقم الآثار السلبية لمحاولات الآخرين تعزية الذات والوقع الموجع لإحساسهم بالشفقة نحوها كما في قصيدة “عزيزي نيتشه”:
إنهم لا يثقون بك
يرمونني بكرات الشفقة المؤلمة
أسقط مجددا
كلما حاولت الوقوف
عزيزي نيتشه
لماذا لا يفتحون صالة كبيرة
لألعاب “البولينج”
ويتسلون في الليل
باللعب وبالغناء؟(23)
إن الذات على ما تعانيه من ألم ملتاع لهول الفقد فإنها تتأبى على مشاعر الشفقة التي تثقلها بمزيد من الألم، فيأتي استحضارها لنيتشه فيلسوف العود الأبدي والداعي إلى الوثوب على الألم ومحاولة تجاوزه إكمالا لمسيرة الحياة، فنيتشه صاحب مقولة “«إن المعاناة ليست حجة ضد الحياة» وتقبل الحياة وتأكيدها مع الإدراك الكامل للعبء المخيف للوجود، والتغلب على النزعة التشاؤمية، كان المهمة التي اعتبرها نيتشه مهمته بصفة خاصة فهو يقول: «طموحي، وعذابي، وسعادتي أن أتجاوز محيط الوعي المعاصر بأسره..، وأن أقهر بالفعل النزعة التشاؤمية»”(24)، فكأن الذات تستقوي بنيتشه لتجاوز أوجاع شعورها بشفقة الآخرين، وكذلك تتضامن معه في قوله بمبدأ العود الأبدي رفضا للموت ومقاومة للفناء فيذهب نيتشه إلى أن “كل شيء يمضي، كل شيء يعود، وتدور إلى الأبد عجلة الوجود، كل شيء يموت، كل شيء يتفتح من جديد، وخالدا يمضي زمن الوجود، الأشياء كلها تعود في خلود”(25)، كما تستخدم الصياغة التصويرية تقنية التشبيه الضمني تعبيرًا عن تأذي الذات من رميها بمشاعر الإشفاق التي تنهال عليها مثل كرات البولينج، وهو ما يحمل ضمنيًّا تشبيه الذات لنفسها بزجاجات البولينج التي تكون مرمي لضربات كراته الهادفة لإسقاطها وهو ما يعكس شعورين متواشجين ينتابان الذات؛ فهي تشعر بالتشيؤ وافتقاد صفة الوجود الإنساني بعد غياب رفيق الحياة، وكذلك تشعر بالانشطار والتشظي فهي نثار مبعثر مثل أقمعة البولينج.
أبنية المجاز ونسف أنساق الثقافة
وإذا كان للفاحص ديوان “أن تسير خلف المرأة” أن يجد غلبة الحضور الشيئي المسرف في الديوان، فإنه كثيرا ما تتجاوز الأشياء حدود موضوعاتها المباشرة، لتضطلع بدور مجازي لتنوب عن الشخوص كما في قصيدة “نسف مقولة قديمة”:
زجاجة عطرك
التي استهلكت نصفها
تقف في تحدٍ غامض
إن نظرت إلى نصفها الفارغ
أكون متفائلة
حيث لامستك ذراتها
إن نظرت إلى نصفها الممتلئ
أنقبض
إذ إنها لن تمسك بك أبدا(26)
تتكئ الصياغة الفنية على العمل التخييلي الذي تنشئه المجازات، فتعمل الصياغة التصويرية على استثمار معطيات الصورة المجازية في بث معانيها الشعرية، حيث إن الصياغة الشعرية التي تجيد ترميز مقولات النص وانتقاء عناصره المجازية تستخدم زجاجة عطر الفقيد كمعادل مجازي وقناع رمزي عن الآخر الغائب الحاضر في أشيائه، فالذات التي تكابد مواجد الغياب ولوعة الفقد، تستحضر أشياء الراحل كحيل نفسية ووسائل إشباع تعويضية في صراعها مع هذا الغياب، فزجاجة العطر تكون استعارة مجازية ومعادلا رمزيًّا ونظيرًا شيئيًّا في مستودعات الوعي وكوامن الشعور عن الراحل أو عمر الراحل الذي لم يستهلك سوي نصفها كما أنه برحيله المفاجئ يكون قد رحل في منتصف عمره الافتراضي، فتكون تلك الأشياء بمثابة نظائر رمزية مشعة بمجازية الأمثولة التي تنوب عن مرموزاتها، أما تفاعل الوعي مع محتوي الزجاجة بين الفراغ والامتلاء والصورة الشعرية بما تمارسه من لعبة بصرية تناوش إحداثيي الامتلاء والفراغ.
ولنا أن نضع نص جيهان عمر في مقابل نصوص الثقافة العربية التي تثمن الجزء الممتلئ من الإناء، فنستدعي قصيدة للشاعر الجزائري “رياض بو حجيلة” لتمثل المقولات الراسخة للثقافة التي تمجد الحيز الممتلئ من الوعاء:
رؤيا في النصف الفارغ من كأس الغيب
حقل
وتشمخ فيه بعض سنابل يبست
عيون صبية
ملء المدي تبكي
وإذا كان نص الشاعر الجزائري “رياض بو حجيلة” في فضاء الفراغ من الإناء يرسم حقلا وقد تيبست سنابله في مقابل انفعال الصبية الآسيان بهذا النصف الفارغ الذي ملؤه الفقد والتيبس بإطلاقها البكاء الممتدّ بملء المدى، مما يشكِّل مفارقة عكسية بين النصف الفارغ من كأس الغياب وملء المدي بالبكاء أسفا على هذا الشطر الفارغ، فالفراغ يؤدي إلى الملء الدامع.
وإذا كان الخطاب الشعري للشاعر الجزائري “رياض بو حجيلة” يبدو متوافقا مع أنساق الثقافة، فعلى النقيض منه يتموضع الخطاب الرؤيوي لدى جيهان عمر، إذ ينقلب على موروثات الثقافة المهيمنة وينسف إحدى المقولات الثقافية الكبري والقائلة بتعزيز النصف الملآن من الوعاء، فهي- على العكس- تحتفي بالنصف الفارغ الذي لامسه الفقيد، وكأن الحنين للشطر الفارغ من الوعاء والتفاؤل به يعادل الحنين للغائب من الوجود المادي، فيكون أثر الفقيد مماثلا لأثر العطر، في طيبه وانتشاره الشفيف غير المحدد بمدي زمني معين وكذا في تبخره المادي مع علوق أثره الطيب في النفس. فالشعر الذي يبني الصور بالمجاز هو نفسه الذي يهدم المقولات القديمة وينسفها. كما تبدو من الصورة السابقة قدرة الصياغة الشعرية الواعية على بسط أردية الاستعارة التصريحية على جسد القصيدة لتصير القصيدة ككل استعارة كبري مركبة الدلالات ومتعددة المرموزات.
فثمة حضور لافت للأشياء المادية في المشهد التصويري لدي “جيهان عمر”، فتملأ الأشياء أركان قصيدها:
فنجان
هاتف
منشفة واحدة ..
والمعطفان المتلاصقان
داخل الخزانة
مازالا يحلمان بقدوم الشتاء
دعني
أبحث في هذا الجيب القديم
ربما نسيت هناك أصابعك ..(27)
تعمل الرؤية الفنية على تحريك الكاميرا الشعرية في أرجاء المكان التقاطًا للأشياء التي تحوز البطولة في ذلك المشهد، ورغم أنه من البديهي ارتباط الأشياء بالأشخاص كما “يرى ميشال بوتور: إن للأشياء تاريخًا مرتبطًا بتاريخ الأشخاص، لأن الإنسان لا يشكل وحدة بنفسه، ونحن أنفسنا لا نشكل فردًا بحد ذاتنا، جسدًا فقط، بل جسدا مكسوًا بالثياب، مسلحًا، مجهزًا … إن الإنسان الحقيقي يتألف من الجسم ومن الأشياء التي تخص الجنس البشري كما يخص هذا العش هذا النوع من الطيور”(28)، ولكن الأمر يختلف حينما تستحوذ الأشياء على النصيب الأعظم من حياة الأشخاص، وتحتل الشطر الأعرض من رقعة وعيهم بعالمهم المحايث، “وفي عالم يهيمن عليه التكرار والسأم ويخلو من المعني أو الأحداث/ الحركة التي تستحق التدوين تبرز الأشياء حادة قوية مؤثرة، ذات قدرة مؤثرة على احتلال جزء مهم من حياة البشر– بل احتلال حياة البشر بكاملها”(29)، كما يعمل حضور تلك الأشياء على تعويض غياب البشر، لتصبح الأشياء قناعا للذات التي تعاني غياب قرينها، فالمعطفان المتلاصقان داخل الخزينة يعوضان غياب تلاقي الحبيبين في لعبة مجازية تعمل على تشخيص الأشياء وإحياء الجمادات تعويضا لفقد الأحياء ومحاولة لسد الفراغ الذي خلفه غيابهم.
……………………
الهوامش:
* نقلاً عن مجلة “إبداع” العدد الخامس الإصدار الرابع- يناير وفبراير 2019
(1) جيهان عمر، أن تسير خلف المرآة، دار العين، مصر، 2013، ص69.
(2) المصدر السابق، ص 29.
- المصدر السابق، ص 24.
- شاكر عبد الحميد، الحلم والرمز والأسطورة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص 133.
- جيهان عمر، أن تسير خلف المرآة، ص33.
- المصدر السابق، ص 50.
- دانيال تشاندلر، أسس السيميائية، ترجمة طلال وهبه، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008، ص233.
- جيهان عمر، أن تسير خلف المرآة ، ص 28.
- المصدر السابق، ص52.
- المصدر السابق، ص54.
(11) المصدر السابق، ص31.
(12) المصدر السابق، ص 45.
(13) المصدر السابق، ص7.
(14) المصدر السابق، ص ص 7-8.
(15) المصدر السابق، ص79.
(16) المصدر السابق، ص51.
(17) المصدر السابق، ص ص13-14.
(18) جميل حمداوي، السيموطيقا والعنونة، عالم الفكر، المجلد الخامس والعشرون، العدد الثالث، 1997، ص ص 106 – 107.
(19) محمد مفتاح، دينامية النص، ص72.
(20) شاكر عبد الحميد، الغرابة المفهوم وتجلياته في الأدب، سلسلة عالم المعرفة الكويت، العدد 384، يناير 2012، ص 210.
(21) شاكر عبد الحميد، الحلم والرمز والأسطورة، مرجع سبق ذكره، ص199.
(22) جيهان عمر، أن تسير خلف المرآة، ص35.
(23) المصدر السابق، ص ص9- 10.
(24) جاك شورون، الموت في الفكر الغربي، ترجمة كامل يوسف حسين، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 76، أبريل 1984، ص213.
(25) المرجع السابق، ص216.
(26) جيهان عمر، أن تسير خلف المرآة، ص37.
(27) المصدر السابق، ص ص39- 40.
(28) شكري عزيز الماضي، أنماط الرواية العربية الجديدة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 335، سبتمبر 2008، ص 127.
(29) المرجع السابق، ص 127.