المنحة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قصة: هشام بن الشاوي

غرق قلبه في  بحيرة من البهجة، انتشلته من يوميات الحزن القاتل، الذي يدفعه إلى الصمت والانطواء. تبدى هذا الصباح متصالحا مع كل ما

في الوجود.. لاح له الجار الكهل، منشغلا بتدخين سيجارته، لم يبال بتجاهل الكهل  تحيته هذه المرة.. لم يغضب : " ربما لأنني تجاهلته منقبل، وأنا أمر من أمامه... ليس تعاليا، لكنني لا أحب أن أكلم أحدا حين

أكون  حزينا،  ثم إنني لا أستسيغ جلوسه- وهو يدخن  السجائر- أمام بيته طوال النهار،  كمراهقين  كرسوا أيامهم للتلصص”.

في الطريق إلى محطة حافلات مدينة أزمور فكّرَ في ضحايا بلد عربي اختار زعيمه أن يقصف شعبه بالمدافع والطائرات.  هتف لنفسه : ” لا يمكن أن تخرج أي درهم خارج البلد أم تراك نسيت حين فكرت في طبع كتابك الأول في القاهرة، وأبلغك موظف المصرف  أنه يتحتم عليك اتباع عدة إجراءات بيروقراطية، سيطلبها منك المكتب الرئيس  لوكالة تحويل الأموال الشهيرة بالعاصمة. مهلا.. إن هذا البلد ليس في حاجة إلى دراهمك… وقد تلام  لأن مواطنيك في أمس الحاجة إليها، وماذا عن موقف الدين؟ هل يمكن أن تسعف منكوبين  بأموال من يحاربون المسلمين بشتى الوسائل؟ رجاء، لا تشغل بالك بهذه الترهات،  فمن يحس بمعاناتك اليومية، التي تجعلك ترى كل شيء رماديا وكئيبا؟ وما المانع، حتى لو كان المال حراما.. إنها 95000.00 دولار أمريكي”.

اختار المعقد المحاذي للشباك، وانتبه مرارا إلى أن الصغار  يتشاجرون   مع بعضهم البعض للجلوس بالقرب من النافذة  في الحافلات والقطارات. انتشله من شروده  صوت فتاة الحافلة، وهي تعلن تذمرها، فانتبه إلى أن  ربع ركاب الحافلة من  المتسولين والمتسولات، ولم يعرف سبب هجومهم على مدينته. تناهى إلى مسامعه حديث امرأتين :

– جارتي، أخذت منحتين.. هي وابنتها.

– لأن ابنتها تعمل في…

– ممكن، لكن زوجها  طلقها، لأنه رفض أن تعمل فيه.

– هناك أشياء تروى، عما يحدث هناك… نسأل الله الستر.

فكّر في رواية يوسف القعيد : “يحدث في مصر الآن”، وفي الحيلة التي اخترعها الطبيب لتوزيع الهبة الأمريكية على فقراء القرية، وتحايل النساء وادعائهم الحمل بدس كرات من القماش تحت ثيابهم، وقال لنفسه مواسيا : “الكل يتحايل على الكل، طبعا، يحق لي أن أختلس من المبلغ، ولو ألف دولار. آه، يا مفلس ! أنت قنوع جدا. ربما، سيطلبون منك وثائق لكل شيء، فهؤلاء ليسوا مغفلين. إنهم  أبناء البلد الأقوى والأدهى في العالم. جاء في الرسالة أن المنحة مخصصة لضحايا الحروب والفيضانات، أي المنكوبين، وفي بلدنا لا يوجد منكوبين، والحمد لله.. ثمة فقراء  وأناس يبحثون عن بقايا الأكل في حاويات الأزبال،  كما  في تلك الصورة التي رأيتها في موقع التواصل الاجتماعي الشهير.. في صفحة تطالب بإلغاء  مهرجان فني، لاسيما في ظل ما تشهده الأمة العربية، ولأنك لم تكن على علم بما يحدث،  وجدت نفسك تبحث عن الخبر في أحد المواقع المغربية، وذهلت بالعدد الكبير للتعاليق. هناك فريق يؤيد الإلغاء بدعوى تبذير الأموال العامة  في أشياء غير مجدية، ويدعون لتخصيص المبلغ المخصص للمهرجان في محاربة الفقر والبطالة، وفريق آخر يرى أن الفكرة محاولة فرض عقلية قروسطوية وغسيل مخ.

نعم،  هناك فقر وبؤس، ومن يتحمسون للمهرجان ينعتون المعارضين لإقامته بالرجعيين والمعقدين، إنهم لا يبالون بما تكابده الأغلبية الساحقة. رجاء، دعنا من السياسة، أنت لا تهتم بها، فلم تحشر أنفك فيها الآن؟

لا تكن متطرفا إقصائيا، حاول أن تتقبل الرأي الآخر، ولا تنس تلك الحكمة  المغربية الشعبية، التي تلخص هذه العلاقة الجدلية بين الجوع والغناء : “الكرش ملّي كاتشبع تقول للراس غني”. إذا، الأمر واضح جدا. لو جرب  أفراد الفريق الثاني  لسعة الجوع و خواء الجيب، لما دافعوا باستماتة عن مهرجان يرى فيه البعض أنه تبذير لأموال الشعب من أجل  وصلات غناء مطربات يتلوين على الخشبة شبه عاريات، لكن المضحك أن بعضهم  حاول أن يدافع عن الثقافة، الحضارة…  مساكين، لا يعرفون أن المثقف العربي يعيش في بحبوحة “بؤس”، وأن لا أحد يقرأ… فعن أي حضارة يدافعون، وعن أي فن يدافعون، والفنان (المبدع عموما) المغربي منسي، مهمل، محروم من أبسط الأشياء؟”.

***

في الحديقة العمومية، من مقعده الأسمنتي، اختلس نظرة إلى المرأة الجالسة قبالته.. كانت عجوزا، وعرف من التي تجلس إلى جانبها أنهما تحترفان أقدم مهنة في التاريخ. لفت انتباهه بياض ساقي العجوز  ولمعانهما. عوت في داخله ذئاب مسعورة، وعلت شفتيه ابتسامة ساخرة، وهو  يتخيل غيرة من يقضين  نصف أعمارهن أمام المرآة، عند رؤية  ساقي امرأة لا وقت لديها لمتابعة برامج التلفزيون النسائية.

لم ينتبه للشاب المجاور له عند جلوسه، فحانت منه نظرة إلى الصحيفة، وتلصص على خبر بالصفحة الأولى، بعد أن شده العنوان : “واصل محتجون غاضبون على عملية توزيع هبة العاهل السعودي التظاهر أمس (الجمعة) لليوم الثالث، أمام المقاطعة الثانية بمدينة أزمور. وأوضح مصدر حقوقي بالمدينة أن مطالب المحتجين تحولت من المطالبة بالاستفادة من المنحة التي بلغت 3 آلاف درهم والاحتجاج على عملية التوزيع التي يقول المحتجون إنها عرفت مجموعة من الخروقات، إلى المطالبة بتنمية المدينة التي اعتبروا أنها مهمشة رغم قربها من العاصمة الاقتصادية للمملكة”.

توقف عن القراءة، ولاح له شاب أوقف سيارته الفارهة بالقرب من فتاة، كانت بصحبة صديقتيها، وهن ينتظرن الحافلة، تحت ظل شجرة. بدا له أسلوبه بليدا، وبدويا.. فهو لم ير منذ  حوالي سنوات مثل هذا المشهد، ربما لأنه لا يخرج مساء : “ما المانع من أن تصيد كل يوم واحدة من العاملات؟… أليست فكرة إنشاء معمل أكثر جدوى؟”. استسلم لأفكاره، وتخيل نفسه مشرفا  على مصنع، وعند قدومه يعلق أحدهم ساخرا من بخله، لأنك لا يملك سيارة:  “هذه ليست أموالي، ثم إن الضرائب وحدها قد ترميني خلف القضبان. لا. لا.. لابد من البحث عن مشروع  مختلف… لكن، لا يمكن، فهؤلاء لن يقبلوا أن تستبلدهم، وسيحتاجون إلى الوثائق.. يا إلهي، ما هذا الوجع؟”.

“وأشار المصدر ذاته إلى أن قوات الأمن منعت مساء أول أمس (الخميس) مسيرة احتجاجية كان المحتجون ينوون تنظيمها في اتجاه منتجع مازاغان للاحتجاج على عملية توزيع هبة العاهل السعودي،

وأضاف أن المحتجين الغاضبين نظموا مسيرات احتجاجية جابت جل الشوارع الرئيسية للمدينة، واتجهت إلى بلديتها والمقاطعة الأولى قبل أن تتوجه إلى مقر شركة “لاراديج” المسؤولة عن توزيع الماء والكهرباء للاحتجاج على ما وصفوه بغلاء فواتير الماء والكهرباء بالمدينة.

 

واعتبر المصدر ذاته أن مطالب المحتجين من سكان المدينة تحولت من الحصول على المنحة المالية إلى مطالب اجتماعية تتعلق بتوفير فرص الشغل لشباب المدينة الذين أكدوا أن كثيرا منهم يعاني البطالة رغم توفر كثير منهم على شهادات عليا. وواصل المحتجون الاعتصام صباح أمس (الجمعة) أمام مبنى المقاطعة الثانية لمطالبة المسؤولين بإيجاد حلول جذرية للمشاكل الاجتماعية التي يعانيها سكان المدينة”.

هل يمكن أن تجمع المتسولين و تشغلهم…؟ ليس مستبعدا أن يتمردوا عليك، بعد أن تلوح عليهم آثار النعمة، ومن دون شك، سيكون هناك بعض المختلسين. لا بد  أن تشرف على كل شيء بنفسك، وتعرف أين يصرف كل درهم. لكن، من يثق في المتسولين؟

المرأة  ذات اللسان السليط، والتي تجعل كل أحقاد  البشرية  تندلع في قلبك عند رؤيتها، والتي سبق أن لمحتها تتشاجر مع ذلك المقعد المسن في سوق مدينتك، تطلب منه  أن يبتعد عنها، ربما خشية أن يتعاطفوا مع إعاقته  وشيخوخته البائسة، ويتجاهلونها، وهي الضخمة التي تتحرك بمشقة. قبيل توقف الحافلة، وقبل أن تنزل، حاولت استجداء الركاب، لكن لم يلتفت إليها أي أحد. لعلهم سبق أن لمحوها في مدينتك… اندهشت، فلم تكن تعرف أنها زمورية.

ها أنت تفكر في الجميع، ولم تفكر حتى في نفسك..

على عجل، رمى جارك  الجريدة في إهمال على الكرسي الأسمنتي، حين لمح ذات الساقين اللامعين تغادر الحديقة، وواصلت القراءة : “وأكد مصدر من السلطة المحلية أن باشا المدينة بدأ داخل المقاطعة الثانية عملية استلام نسخ البطاقات الوطنية لبعض المحتجين الذين يطالبون بالاستفادة من المنح والإعانات المالية التي تشرف على توزيعها السلطات المحلية. وأضاف المصدر ذاته أن عملية استلام نسخ البطاقات الوطنية تأتي من أجل امتصاص غضب المحتجين والتخفيف من حالة الاحتقان التي عرفتها المدينة أول أمس (الخميس) التي عرفت تنظيم مسيرات غاضبة بجل الشوارع الرئيسية.

 

وأشار المصدر ذاته إلى أن المسئولين عن المدينة قرروا تهدئة الأوضاع وعدم استخدام القوة في التعامل من المتظاهرين الغاضبين رغم اقتحامهم مبنى المقاطعة الثانية لأكثر من مرة، مضيفا أن المشكل اجتماعي وسيتم البحث عن حل له عبر تسجيل المواطنين الذين لم يكونوا مسجلين من قبل باللوائح التي تتوفر عليها السلطة المحلية والتي يتم الاعتماد عليها في توزيع أي منح مالية أو مساعدات اجتماعية في مختلف المناسبات.

 

وسبق لمصدر مسؤول من السلطة المحلية أن أكد لـ”الصباح” أن عملية الاستفادة من منحة العاهل السعودي تمت بطريقة عادية اعتمادا على لوائح المعوزين المسجلين لدى المقاطعة، وأكد أن القيمة المالية المرتفعة للمساعدة جعلت أشخاصا غير معنيين بالاستفادة يريدون الحصول عليها بأي شكل.

واتهم المصدر ذاته عناصر لم يحدد هويتها بالتشويش على عمل أجهزة السلطة المحلية بالمدينة، لأنها لم يسمح لها بالاستفادة من الهبة”.

***

هل تذكر حين أوهمت نفسك بالفوز، وأنت تشارك في مسابقة الهاتف الجوال، وكانت الجائزة سيارة؟ قلت : لا بأس من المشاركة، وفي حالة الفوز يمكنك بيعها، فأنت لا تحتاج إليها، وأنت عاطل عن العمل وعن الحياة. لو كنت تافها لفكرت في أن تستخدمها لنزواتك، كالآخرين. بذرت مالا كثير من أجل لا شيء، ثمن الرسالة القصيرة كان غاليا، وكانوا يجيدون نصب الكمائن،  فتجد نفسك مضطرا إلى أن  تشحن الرصيد أمام السؤال البسيط.. إذا، ما الفرق بينهم وبين أولئك الذين يمارسون النصب  والاحتيال على المسنجر مدعين أنهم فتيات: (اشحن واعرض لك)؟…

بيد أن هذا ليس قمارا، هم أبلغوني أنهم  اختاروني وطلبوا مني إرسال البيانات، والبيانات  المطلوبة عادية جدا. وقد أرسلتها إليهم، وأنا أقرأ رسالة إلكترونية يحذر فيها صاحبها ذوي المشاعر المرهفة من مشاهدة الفيديو المرفق، وتذكرت – لحظتها – المشهد الذي صوب فيه رجل أمن  مصري مسدسه نحو صدر مواطنه، وبدم بارد أرداه قتيلا…!!.

***

مساء، أعدت قراءة  الرسالة الإلكترونية،  وانتبهت إلى أن صفرا سقط سهوا. المبلغ  الصحيح : 950000.00 دولار أمريكي.  وفطنت إلى أن الرسالة ليست موجهة إليك بشكل شخصي عند عودته، وأنت الخبير بمثل هذا الأسلوب في المراسلات، الذي لم يخدع من قبل برسائل التسول/ النصب الإلكتروني، لكن بؤسك… هو السبب.

تبّا، لم جئتُ إلى هذه الدنيا،  ولم يحدث كل هذا ومن أجل ماذا؟ لا شك أن الرسالة أرسلت إلى الآلاف،  وبنفس الصيغة بشرّوهم باختيار الأمم المتحدة لهم،  وطلبوا منهم أن يعجلوا بطلب المبلغ.

بانفعالك الطازج، تحوّل الرسالة إلى صديقك المقرب، مع كلمات بذيئة.. مشفقا على غبائك المؤقت، تفتح علبة بريد إلكترونية أخرى، وتجد نفس الرسالة، التي أهلمتها من قبل، بسبب ثورتك العمياء، عندما فوجئت بوجود تركي في قائمة صديقتك، وأنت تنقب في ملف تعريفها، فلعنت من  ترجموا مسلسلاتهم، وتكتب لها : “هل تبحثين عن فارس أحلام تركي؟ يا غبية، هذا مجرد خنزير، أتعتقدين أن كل الأتراك، مثل من تشاهدينهم في مسلسلاتهم التافهة، إنهم أسوأ من الحثالات العرب، الذين لا يفكرون سوى بأعضائهم التناسلية…”،  وأرسلت لها روابط ملفات تعريف الموجودات في قائمة الكهل التركي، ممن اخترن صورا  مخلة للآداب العامة كصور رمزية لهن : “لماذا كل العربيات متلهفات على  معرفة هؤلاء الكلاب الأتراك، وبعضهن موجودات في صفحات من يضع صورة (…). الكلاب !”.

تتحدث  الرسالة عن الثورة بأحد البلدان العربية، ولأنك لم  تكن تتابع الفضائيات،  لأنك لا تهتم بالسياسة، جازفت  وشغلت الفيديو، على الرغم من تحذير صاحب المقطع، لكنك لم تتحمل بشاعة أن ترى شابا في عمر الورد محمولا على كتف أحدهم، يوضع على السرير الأبيض، ويحيط به بعض الأطباء، ومن بين الحاضرين من يصور بالهاتف الجوال ما يجري، ورأيت أحدهم يشد شيئا ملطخا بالدم بيده، لم تحتمل مواصلة مشاهدة رأس الشاب، وهي مفجرة.

لم تجد سوى الدموع، وأنت تسارع بغلق كل المتصفحات.. لاعنا كل شيء.. كل شيء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاص من المغرب

ـــــــــــــــــــــ

اللوحة للفنان المصري: سعد السداوى

مقالات من نفس القسم