المجنون

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

يبدو الأمر بعيدا الآن، فقد حدث ذلك منذ زمن بعيد.
عندما أصيب (الزرهون) بالجنون بدا أمره غريبا ومستعصيا، فالرجل كان دوما مثالا للتعقل والرزانة والاعتدال، والحقيقة أنه ليس الشخص الوحيد الذي فقد عقله في قريتنا، فالصحة النفسية للرجال والنساء في قريتنا لم تكن دائما مثالية، فهناك – كما في كل بلاد الدنيا – حالات لاضطرابات عقلية وأعطاب نفسية غريبة ومعقدة، وساوس، فصام، عصاب، ذهان، ومخاوف مرضية غريبة وملغزة…
يروي الناس في قريتنا قصصا طريفة لأشخاص فقدوا توازنهم الداخلي لأسباب مجهولة وغامضة، قصص هي في النهاية نوع من تاريخ الجنون الذي تتحدث عنه الكتب، ولكنه جنون مختلف، جنون على الطريقة المغربية.
يقولون إن حالات الجنون تلك تذهب وتعود بشكل منتظم في فترات الجفاف والقحط والمجاعات القاسية، البعض يقول إن السبب هو الليالي المقمرة في فصل الربيع، البعض يقول إن السبب هو الكآبة الموسمية للخريف ومواسم الأمطار، البعض ينصب نفسه واعظا ويقول إن الجنون هو لعنة إلهية تصيب المتهتكين، وآكلي الربا والسحت والمنفلتين الذين لا يقيمون لدين الله وزنا…
أما (سيدي محمد) فقيه القرية فيتحدث عن الأمر بنوع من الغموض.
– العقل والجنون أنصبة، يوزعها الله بحكمته الخفية وعدله…

أول المجانين في قريتنا هو الرجل الذي يكذب في كل يوم كذبة جديدة.
في البداية كان يختلق القصص على سبيل التسلية والفرجة والاستعراض، قصص ترسم عوالم يمتزج فيها الواقع بالخيال وتضج بأحداث وتفاصيل غريبة، بشر من عجينة مختلفة، حيوانات، طيور، ملائكة ومخلوقات مركبة…
كان الرجل يحب القصص، يرويها بكثير من الشغف، ومع مرور الزمن أصبحت تلك القصص جزءا من حياته، وأصبح هو جزءا منها، يحضر فيها، ينتصب فيها بطلا، يجترح المعجزات والخوارق، يحكيها بلسان الشاهد وبنبرة اليقين، يقين يلامس الحدود القصوى للخيال والهذيان، فهو أول من شاهد الصحون الطائرة تنزل على مشارف قريتنا ذات صباح ممطر وبارد، وهو وحده رأى الأجساد تنبعث من مراقدها في مقبرة القرية، تخلع عنها أكفانها وتمشي جنوبا في اتجاه البحر، تنزل إلى الشاطئ، تستحم هناك، وتستمتع بحمام الشمس وتعود إلى قبورها في غسق المساء، وهو وحده يؤكد أن الحفر الدائرية التي ترتسم على الحجر في الغابات والطرقات تعود إلى أزمنة بعيدة وغابرة، أزمنة كانت فيها الأحجار لينة مثل العجين تنطبع عليها خطوات البشر وحوافر الخيل والبقر…
الحالة الثانية.
(الحاج صولدي) الرجل الذي تملكه هوس المال والثروة وأغرقه في عالم سفلي غريب تحرسه العفاريت، وتمتزج فيه الصلوات بالطلاسم وروائح البخور…
الحالة الثالثة.
الرجل الآخر الذي يعتقد جازما أن مصيره في العالم الآخر هو الجحيم، يقول الناس إنه لم يصل أبدا، فهو يعتقد ألا معنى للصلاة لأن مصيره مقيد منذ الأزل في كتاب القدر، في مكان ما هناك في الأعلى…
الحالة الرابعة.
(تيتي نماماس)، السيدة التي تكابد وسواس النظافة ويتملكها شعور رهيب بالقذارة، وتقضي يومها في طقوس اغتسال لا تنتهي، تزوجت سبع مرات، وفي كل مرة كانت تطلق نفسها، لأنها لا تطيق رائحة الرجال، فالرجال في نظرها قذرون مثل الخنازير تفوح منهم رائحة العفونة والوحل…
الحالة الخامسة.
رجل أربعيني، نصف أمي، يجوب القرى، يمشي في الأسواق، وفي مرة يتوقف، يستوقف الناس، ينظر إليهم باحتقار، ويخاطبهم ساخرا.
– أتعلمون؟ البشر كالأنعام بل هم أضل… إن بقرتي خير منكم، إنها أعقل منكم جميعا، عندما تقول عموووه، فهي تعني عمه، أخو أبيه، أي العم، أخ الأب)

الحالة السادسة.
كان الجميع ينتظر أن تنقلب حياة (الزرهون) رأسا على عقب، فالجنون عادة رديف للعنف والتهور والكثير من العبث والفوضى، ولكن الرجل بدا مختلفا، متميزا ومتفردا تماما، بدا الأمر وكأنه يقول للآخرين نعم أنا مجنون، ولكنني أفعل ذلك بطريقتي.
طبعا (الزرهون) أيضا تعتريه بين الحين والآخر لحظات هيجان وانفلات يفقد فيها زمام أمره، تصدر عنه تصرفات هوجاء، شعواء، في منتهى القسوة والعنف، غضب، سباب، بذاءة، تجديف ولكنه سرعان ما يعود إلى حياته الطبيعية، فيبدو متزنا، حكيما وهادئا.
تتغير الفصول والأزمنة، ويتغير معها إيقاع حياته بشكل منتظم، يشتغل بشغف، يشتغل بجدية الفلاحين، يحرس القطيع، يحرث الأرض، يشذب الأغراس، يتعهد الأسوار الحجرية، ويقتني حاجياته من السوق الأسبوعي، أما عندما يتعلق الأمر بالحيوانات فيبدو رقيقا وعطوفا، يطعم الطيور والقطط والكلاب الضالة…
في فصل الربيع يتيه في الغابة وبين الحقول، يتذوق النباتات، يأكل أوراق الحميضة وحبات التوت البري، يتسلق الأشجار، يقطف ثمارها، يطل على أعشاش الطيور الحديثة الولادة، يداعب زغبها الطري بأنامله المتشققة التي نحتها العمل الفلاحي القاسي، يلقمها ديدانا طرية ويغادر…
وفي المساء يعود حاملا باقة من أزهار برية يقدمها لزوجته…
بالمناسبة، هو الرجل الوحيد في قريتنا الذي يقدم أزهارا ربيعية لزوجته، الرجال الآخرون لا يفعلون ذلك، فهم عادة لا يهتمون بالأزهار، لا يفهمون رمزيتها، والذين يفهمونها لا يجرؤون، يخافون أن يصبحوا موضوعا للتندر والسخرية، فالرجل الحقيقي في نظرهم لا يقدم أزهارا لزوجته أبدا.

الأصيل، يوم من أيام شهر رمضان.
على بعد خطوات من بوابة مسجد القرية، يجلس الرجال على المرتبة الحجرية، يسندون ظهورهم إلى الجدار الحجري، يجلسون في وضعيات جسدية مريحة، يستمتعون بجو الأصيل الهادئ، يستشرفون الأفق ويخوضون في ثرثرة وأحاديث لا تنتهي، يتحدثون في كل شيء، عن السوق والتجارة، عن أسعار اللحم والشاي والسكر، عن الجفاف، عن غلال الموسم الفلاحي وأمراض الماشية…
ثم في لحظة ما، يسود الصمت، صمت طويل وثقيل.
يمر (الزرهون) على دابته منصرفا إلى بيته بعد يوم طويل مليء بالعمل والمشاغل، تهب نسمة خفيفة من الجنوب، تحمل معها عبق سيجارته المشتعلة.
لسنوات، لم ينجح رجال القرية في فهم حالة (الزرهون)، فالرجل يعيش حياة عادية، منتظمة ومتناغمة، وحدها تلك السيجارة كانت تشير إلى جنونه، بالنسبة لفقيه القرية (سي محمد) كانت حرمة رمضان هي النقطة السوداء الوحيدة في حياته، فالرجل نزيه ومستقيم، لا يكذب، لا يخوض في أعراض الناس، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، يشتغل بجد ويكسب قوته بعرق جبينه، ويتمتع بحس أخلاقي رفيع.
ولكن جوانب الغرابة في حياة (الزرهون) لا تقف عند هذا الحد، فالرجل يصلي في مسجد القرية بين الحين والآخر، يشارك في الحياة الاجتماعية، يدفع رتيبة المسجد بانتظام، يدفع نصيبه من العشور والزكوات، يحضر الأعياد والأعراس والحفلات، يحضر بالخصوص في المناسبات الحزينة، يواسي، يعرض خدماته ويقدم التعازي…
وحتى في شهر رمضان، يسجل (الزرهون) اختلافه عن الآخرين، فهو يصوم بشكل منتظم، يمسك عن الأكل والشرب طول النهار، ولكنه لسبب ما لا يستطيع التخلي عن سيجارته.
عندما أصبح (الزرهون) على بعد خطوات من بوابة المسجد، توقف، أوقف دابته، سلم دون أن ينظر إلى الرجال، بقي صامتا ينظر إلى الأرض، بدا وكأنه يفكر، ثم أخيرا رفع بصره، نظر جهة الفقيه، وسأله.
– كم هو مقدار زكاة الفطر هذا العام أسيدي الفقيه؟
ابتسم الفقيه، وأجاب.
– هما إناءين من الشعير، واحد عنك وآخر عن زوجتك…
– وهل يجوز لي أن أتطوع؟
رسم الفقيه لحظة صمت، ابتسم وأضاف.
– طبعا، ومن تطوع فهو خير له…
بدا (الزرهون) سعيدا وممتنا، أدار لجام بغلته، همزها برفق، وقال مخاطبا الفقيه.
– إذن سأخرج إناء ثالثا عن بغلتي، إنها جزء من أسرتي…
غادر (الزرهون).
كانت بغلته تبتعد، كان وقع حوافرها يبتعد ويتلاشى تدريجيا، وكان عبق سيجارته قد تلاشى تماما.
تميل الشمس نحو المغيب، تتوارى ببطء، تتسرب خيوطها، تخترق غابة الأركان، ترسم أفقا لغسق جميل ودافئ، في الخلفية بعيدا يسمع صوت البحر.
بعدها، غادر الرجال تباعا، ووقف الفقيه (سيدي محمد) يستعد لرفع الآذان.

مقالات من نفس القسم