مسكين ولدي أتلفت الدراسة نظره و ثقبت الامتحانات قلبه حتى حصل على الشهادة الكبيرة. ثم ها أنت ترى…
ـ اطوي هذه السيرة ! أترين أية بحاجة إلى سماعها
هكذا الوالدان يخوضان في شأنه عند غيابه و لا يحدثه أحد منهما في الأمر إذا حضر، حتى لا يخرج في حينه مرة أخرى.
إطمأن إلى أن الشاي قد أخذ كفايته من الطبخ و أصبح جاهزا فصبه في كأس طويلة من الحجم الكبير
عصر بقبضته خصلات من النعناع المغسول و دسها فيه بعدما وضع ما يناسبه من السكر، ثم أضاف ما يجعل شايه متميزا عن غيره : قطرة من ماء الزهر. انحنى بعدها على البخار المتصاعد من الكأس و سحب من أنفه مغمض العينين نفسا عميقا و قال نصوت يملأه الرضى:
ـ الله
في الخارج كان الجو لا يزال دافئا تلطفه بين الفينة و الأخرى نسمات رطبة تهب من جهة الغرب لتضفي على الليل مزيدا من العذوبة الساحرة يصير بفضلها أو بسببها أكثر تحريضا على السهر تحت سمائه المتلألئة …إنحدر متأبطا كتابه, وبين أصابعه كأس الشاي المنعنع. كان الزقاق خاليا تماما, يسوده سكون مطبق. مر به كلب نحاسي اللون, بقوائم بيضاء تميل إلى الصفرة, إحدى أذنيه منتصبة, و أخرى مدلاة. يدب بشكل متعجل أقرب إلى الهرولة, دلت هيئتة على ثقة و قوة. وتوحي حركته بالاعتقاد أنه تأخر عن موعد العمل, أو عن موعد يخشى التخلف عنه ..
تبادلا نظرة عابرة, و إستمر كل منهما في الطريق. أفضى به الزقاق إلى نهايته عند تقاطعه مع الشارع الرئيسي للحي, كما لو أنه سلك جدولا ساقه إلى مجرى النهر. هناك وجد الجلسة على غير عادتها: الحارس الليلي, يقابله الغرباوي, خريج كلية الإقتصاد. كانا منهمكين في لعبة الورق, فلم يزيدا على أن يردا عليه السلام باقتضاب. إلتقط لنفسه قطعة من الورق المقوى, إفترشها غير بعيد منهما, ووضع كأس الشاي في وسط الجلسة .
عندها فقط خرج الحارس عن صمته, فأخذ الكأس ورشف منه رشفتين بلذة و هو يرفع حاجبيه إلى الأعلى, و كأن الشاي صعد إلى دماغه:
ـ أووه !!
و تحسس بشفتيه أثر السائل فيهما ثم أضاف:
ـ لو كانت أم العيال تصنع شايا كهذا لما طلقتها !!
فضحك الثلاثة دون تعليق, و استأنف الإثنان لعبهما, بينما فتح هو كتابه , واندس بين سطوره و غاب..
كان يتابع أفكار إيفان بافلوفيتش بدهشة و إعجاب كبيرين .
هو الذي صال و جال بين الروايات, أو هكذا كان ظنه بنفسه, أصبح أمام هذا العمل العظيم كطفل محروم دخل ناديا للألعاب… يتابع بتركيز شديد, حوار إيفان كارامازوف مع الشبح الذي يزوره إبان إصابته بالحمى. و في غمرة تتبعه لذلك النقاش العميق, لم ينتبه لصوت محرك سيارة الشرطة, رغم قوته’ مما أثار حفيظة الشرطي السائق. فصاح بصوت أقوى من صوت المحرك :
ـ هوو..هوو.. ما الذي يجري هنا؟
في نفس الوقت, إنفتح الباب الجانبي العريض للسيارة, وقفز منها شرطيان بالزي المدني .. يملك الأول جسما قويا, وممتلئا, مع قامة قصيرة نوعا ما. ضاعت رمانة كتفه وسط كتلة من اللحم تصاعدت نحو أعلى الرقبة, فضاعت هي الأخرى, و بدا مظهره كمن لا رقبة له, و أعطاه شكلا مربعا جعل حركته تبدو آلية تبعث على السخرية. بينما ظهر إلى جانبه شاب مستقيم الجدع معتدل القامة متناسق البنيان. يتمتع بوجه قمحي اللون, بتقاسيم دقيقة و أنف حاد. ينظر محدقا عبر نظاراته الطبية, بعينين بنيتين أقرب إلى لون العسل. يذكر منظره بالضباط الألمان في الحرب العالمية… وقف جانبا و دس يمناه في جيب سرواله, و تدلت الأخرى إلى جانبه, تتلألأ على معصمها ساعة ذات إطار ذهبي وحزام جلدي أسود.
رشم الصفحة التي توقف عندها, وأغلق الكتاب, إتكأ على الأرض بيمناه, و هب واقفا. ضم الكتاب إلى صدره بساعدين متشابكين وهو يتابع حركة الشرطيين “الإحترافية” بنظرات هادئة متسائلة. في تلك الأثناء كان الشرطي القابع خلف المقود يتفحصه باستغراب و فضول. ثم ما لبث أن صاح به :
ـ إي !! أنت .
التفت إليه واستجاب بتعبير من وجهه وعينيه دون أن ينبس.
ـ أين تسكن ؟
أشار برأسه إلى نهاية الزقاق المتفرع من الشارع, بينما ساعداه لا زالا متشابكين على صدره :
ـ هناك
بدا واضحا أن الشرطي كان يريد قول شيء فعدل عنه واكتفى بالقول :
ـ اذهب ! إلى بيتك…
نظر مليـا إلى موطئ قدميه, ثم قصد الزقاق المؤدي إلى البيت وهو يحدث نفسه سرا بما لم يستطع قوله جهرا …عندما اجتاز نصف المسافة, تناهى إلى سمعه هدير المحرك معلنا عن ابتعاد رجال الشرطة, فقفل راجعا إلى مجلسه إذ لم يكن معتادا على النوم في تلك الساعة ولن يأتيه النوم على كل حال لأن شرطيا أمره بذلك.
لاحظ من بعيد كتفا الحارس يهتزان من الضحك. و لما أقبل عليه صاح هذا الأخير مقهقها:
ـ لقد سألني عنك الشرطي السائق
ـ و ماذا قال؟
ـ سأل إن كنت عاقلا أم ….
ولم يكمل جملته، بل اكتفى بحركة من يده.
ـ وكيف أجبته؟
ـ قلت له إنه شاب متعلم