الله… الوطن… الهُوَ

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد سمير سعد

منذ وُلِد وهو يُقاتِل، لم يعش يومًا واحدًا في هدنة، حتى في الأيام الكثيرة التي تكف فيها الطائرات عن الأزيز والأشجار عن الانفجار والمساكن عن الاحتراق، كان يقاتل، يستعد لمعركةٍ جديدة أو يلعق الجراح، يستمر في حياكة حذائه وترقيع ملابسه ودهن وجهه بالشحم والتدرب على معركته التالية.

الأكيد أنه بلا أبٍ أو أمٍ أو عائلة، لكنه لا يعرف إن كان قد فقدهم في قذفٍ مدفعي قام به العدو في العام الخامس للحرب كما يشيعون، أم قذفت به الأرض وفقط، كما تقذف بأشجارها وسحاليها ودودها بلا آباء أو أمهات وقبل أن يحرق رحمها النابالم.

في العام السادس عشر للحرب وفي عيد مولده الثاني عشر احتفل بنفسه على طريقته الخاصة، كان يعشق الوحدة وقد بدأ يدرك مهاراته الخاصة، يستطيع أن يكتم أنفاسه لأيام وأن يخفض من حرارة جسده وأن يصمت للأبد، يصبح تمامًا كحجرٍ جامد أو كسور الملجأ أو كحائط أو دشمة أو منضدة أو حفرة، يستكين تماما فلا يشعر به أحد.

أول مرة أدرك موهبته كانت في العام الحادي عشر للحرب، يومها ضربه الأولاد في الملجأ أو ربما ضربهم هو، لا يذكر، عاقبوه فغضب أو لم يردوا له حقه فتملك منه الحنق، أراد أن يختلي بنفسه، اختفى ليومين متتاليين، بحثوا عنه في كل مكان، داخل الملجأ وخارجه، أبلغوا دوريات العسكر، وسألوا الأهالي المقيمين بالقرب.

الصغير لم يغادر المعسكر ولم يختبئ في حفرة أو خلف أنقاض أو مجموعة من الكراكيب، كان أمامهم طوال الوقت، فقط تعمد أن يختفي عن الأنظار، جال بينهم ومر من خلف حجراتهم، بل ومكث لساعتين في مكتب المديرة العجوز، لم تدركه عين أو تعثر عليه أذن أو يشتم رائحته أنف.

ربما لذلك السبب أو لأسبابٍ أخرى جهلها أو أعلموه بها اختاروه للمهمة.

في مكاتب القادة أوقفوه بالساعات بينما يجلس صاحب الرتبة على كرسي المكتب أو يمل الجلوس فيجول من حوله وهو يكرر نفس العبارات، يرددونها على أذنيه كصلوات أو كقراءة من كتابٍ مقدس، يحدثونه عن القضية والجهاد والوطن والحرب والرجال والبأس والشجاعة والطهر والنصر المؤزر وعناية السماء التي تحفظهم والحق الغالب في صفهم، غير أنهم ومن شهرٍ واحد قرروا أخيرًا إضافة بعض الحقائق التاريخية عنه وعن أصله وشجرته إلى خطبهم، يقف بين أيديهم منفوخ الصدر، جامد النظرات، مشدود الملامح، مرفوع الهامة، منتصب القوام، لامع الملبس، جامد العينين.

ينصت ويرتجف للكلمات.

في ذلك اليوم البعيد من العام السادس عشر للحرب وبعد حفل مولده الثاني عشر خرج في أول مهمة تجريبية لاختبار مهاراته التي بدأت تفصح عن نفسها، كانت محاولات رفاقه النمطية الصبيانية لسرقة مطبخ المعسكر  أو للتسلل لغرف الأكبر سنًا وسرقة مجلاتهم الفاضحة أو حتى تدبير بعض الحيل لإيقاع البعض كالتسلل والصراخ في آذانهم أو التسلل وشد الكراسي من تحتهم، كل هذه الأنشطة لم تكن لتسليه، وجيب قلبه لم يرتفع أو تتوتر أعصابه عند القيام بها، يفعل كل ذلك وكأنه يتنفس بلا أدنى شعور بروح المغامرة.

في العام السادس عشر للحرب وبعد عيد مولده الثاني عشر قفز من فوق سور المعسكر وقرر أن يخرج للحياة، لا يعرف كيف وجد نفسه على الجبهة وكيف تسلل يوما إلى أرض العدو وكيف عاد وبلا خدش وبحكايات وروايات وأساطير كثيرة.

رغم أنه الآن قد نضج عقله تمامًا، ورغم يقينه الكبير في ذاكرته القوية إلا أن العام السادس عشر للحرب كله ما يزال ملتبسًا عليه، حياته كلها ما تزال ملتبسةً عليه فيما يبدو.

لا يعرف في ذلك العمر الصغير والتاريخ البعيد إن كان قد خرج لمغامرته في أرض العدو بسبب الملل أم بأمر أم بخدعة وترتيب، الأمر مختلط في عقله، وإن جال هناك بنشوة صبي مغامر وبروح طليقة جريئة وبسعادة بمهاراته وبنعمته السماوية وتفرده.

في البداية سار شديد التمهل والحرص، يكثر من التلفت والتصنت، ينتظر أن يرى أشباحا وعفاريت وزومبي وموتى بلا رؤوس وأسنانا حادة ضخمة بلا أجساد وغيلان وبشرًا مغطون بالشعر، تسيل من أفواههم الدماء واللعاب وأصوات عظام تتكسر على أنيابهم وشرًا مطلقًا، مجونًا ورائحة دمٍ مسال ودمٍ متخثر.

راعه أن يجدهم يتحدثون بنفس لسان أهله، يرتدون نفس الملبس ولهم نفس الشكل والتاريخ والآمال والآلام والجزع والرغبة والشهوة والنقمة والبشارة.

لكنه بقى يكرههم، تسللوا ليلًا وذبّحوا عائلته وحرّقوا أرضه، وعليه أن يحذرهم ويتسلل ويذبحهم ويريق دمهم ويحرق كل أراضيهم وزروعهم والنسل وينتهك العرض ويمثل بهم وسيرهم وتاريخهم وآثارهم وما بقي منها.

منذ شهرٍ واحد كثّفوا من لقاءاتهم به، ترديد تاريخ عائلته الحافل على مسامعه، يشدُّون صوان أذنه حتى يستطيل وتتسع فتحه الأذن ثم يهمسون فيها بصوتٍ مؤثر ورتيب، يحفر في خلايا مخه ويندمج بها وينسطر عليها ككتابةٍ على حجرٍ بشاكوش وأزميل لا تنمحي ولا تبلى.

أخبروه أن المملوك جابر كان جده الأكبر، عندما ضاقت الدنيا على الملك وكادت مملكته أن تسقط وباتت رهنًا برسالته التي وجب أن تصل لحلفائه ليعاونوه، قدّم رأسه للملك، كتب رسالته على جلد الرأس؛ لتكون سريةً حتى عليه  ثم ترك الشعر لينمو فيخفي الرسالة المكتوبة ثم رمى بنفسه في حضن الأعداء؛ ليخترق أرضهم ويتسلل من بين أصابعهم ويصل لحلفاء ملكه، قُبِض عليه وعُذِب. عندما كان الألم يجتاحه ويستعر في كل عظمةٍ فيه حتى أصغرها وتتبدى الدنيا أمامه بلون الدم وتصم أذنيه الصرخات، عندها كان يهتف فيهم صادقا: “أنا الرسالة”.

يفتشونه ويعذبونه ولا يجدون شيئا، أطلقوا سراحه بعد أن أيقنوا من جنونه ومن تهافت كلامه واعترافاته، نجا وأوصل الرسالة.

أخبروه أن جدوده هم مَن درّبوا الحمام الزاجل ومَن ابتدعوا الشفرة وطوروها والحبر السري والاتصالات اللاسلكية والانترنت، تاريخ طويل من المجد والعمل الوطني وخدمة الملوك والوطن.

وجب عليه أن يُوصِل الرسالة، أن يستكمل تاريخ المجد ويعبِّد الدرب، الإنترنت سيعترضونه والسماوات يراقبونها والشفرة سيكتشفونها والأقمار الصناعية يتحكمون بها ويفحصونها ويتسللون إليها والحمام الغريب يصطادونه والمتسللون يكتشفونهم.

إن كتبوها على فروة رأسه فأول ما سيفعلونه أن يحلقوا رأسه ويسلخوا جلده ويَطَّلعوا عليها.

أخبروه أن جده الأقرب قد شق جلده بسكين، كَوَّر الرسالة ودسها تحت الجلد حتى التأم الجرح عليها وصارت قطعةً منه ثم خرج لإيصالها، عذبوه وضربوه واشتعلت النار في رأسه والهياج في عينيه وكادت دماغه تنفجر، عندها خففت عنه الصراحة.

اعترف لجهاز كشف الكذب: “أنا الرسالة”.

فتّشوه وفحصوه، فمه ودبره وفتحتي أنفه وأذنيه ولما لم يعثروا على شيء أقروا بجنونه، تركوه فنجا وأوصل الرسالة.

الآن يملكون أشعة سينية وفوق صوتية ورنين مغناطيسي وأشعة مقطعية وبالصبغة وجزيئات مشعة وثلاثية الأبعاد، سيكتشفون أي رسالة تحت الجلد أو حتى مدسوسة بين العضلات أو محفور لها قبو في العظام، سيرون أي رسالة حتى وان ضُغِطت في ميكرو شريحة إلكترونية.

عَبَر الحدود في ليلةٍ بلا قمر، كان غير مرئي أو مرصود، خطواته أخف من أن تُسمع ورائحته أوهن من أن تشتمها الكلاب، سار كشبح بلا ظلٍ أو أثر.

تحصَّلوا على خليةٍ من خلايا جسده، بتقنية صارت معروفة للجميع، شَفَّروا الرسالة للغةٍ عضوية، لغة الخلايا والحياة، دَسُّوا الشفرة بين معلومات الخلية وبرنامجها الطبيعي؛ لتندمج معها وتصبح جزءً منها.

دَسُّوها لتعيش معها وفيها ثم أكثروها لتنقسم وتصير ككرة، ورمٌ صغير، دَسُّوه في جسده، ورمٌ من خلاياه أبدا لن يشك فيه أحد، حتى وإن وجدوه، ورمٌ من أصل جسده ومكوناته.

لا يدرك ولا يعلمون أنه ومن بين جنود العدو كذلك من تطورت أنفه لتصير أنبه من تلك التي لكلب، أذن أدق من تلك التي لوطواط، عين أفتك من تلك التي لصقر، اعترضه وتشممه وفتَّش روحه ونظر في قلبه واخترق سرائره وكشفه ثم كَوَّمَه وقبض عليه.

تجمعت الدماء في رأسه من الألم وتداخلت الصور والحكايات وأوامر القادة والعطش والعذاب وأظافره المخلوعة وحروق الكهرباء على صدره وعذابات عدم النوم واختلال وظائف رأسه واعتلال جسده، عندها صرخ صادقا فيهم، صرخ بنفس صراخ كل أجداده كما أخبروه، صرخ في وجه جهاز كشف الكذب: ” أنا الرسالة”.

ثم قاء دماً.

فَتَّشوه وعَرَّضوه لكل أجهزتهم، اكتشفوا الورم ولم يشكوا فيه، بحثوا تحت كل شعرة من جسده وخلف كل ظفر وأمام كل نتوء. قاء دمًا من جديد، فأطلقوا سراحه، رموه في الشارع ليموت.

تحامل على ألمه وزحف، جزَّ على أسنانه وضغط على عرجة قدمه المكسورة، تجاهل خيوط النار التي تنبعث شرارتها مع كل احتكاك، الجرح المتقيح في رأسه والحروق الملوَّثة في صدره، حرارته المرتفعة والدوار وسقطاته الكثيرة.

ملامحه ابتلعها الألم، تغضنت وتقلصت، شحب وهزل لكنه عبر الحدود ووصل وأوصل الرسالة.

كان مذويًا في جانب يهذي، يقيء الدم، مفتوح العينين على اتساعهما، كانتا جافتين منزوعتي الحياة، كلماته غير مفهومة عن أجداده والنجاة والمجد والانتصار وقدراته وباعه والقائد والرسالة والحلفاء.

جروح ساقه ورأسه وحروق صدره عفنة، رائحتها كتلك التي لميتة تركت لتتحلل في الشمس ويقتات عليها الذباب والدود، رغم الضمادات النظيفة الجديدة والمطهرات التي ألقيت عليها في بذخ.

يبللون شفتيه بقطرات الماء ويوصلونه بعشرات الأسلاك وشاشات تحمل العديد من القراءات، كانت أنفاسه كتلك التي لميت.

خلاياه التي تحمل الرسالة تحوَرت، اختل برنامجها الطبيعي، الرسالة المُشَفَرة التي دسُّوها فيه أفسدت معلوماتها الوراثية، طفرت واختل نظامها، استحالت لورمٍ استفحل في جسده، الرسالة كذلك تشوهت، طفرت وتغيرت معلوماتها، الورم كبر وتمرد على جسده، انتشر فيه، يقتله ويهلكه ويسبب قئ الدم…

حاولوا فك شفرة خلايا الورم لإيجاد الرسالة، طفرت، تشوهت وتغيرت تمامًا، باتت بلا معنى، رغم كل محاولاتهم لقراءتها…

يحاولون إسعافه بينما يقئ الدم ويحلم بالنصر، ويهذي كميت، يصرعه الورم.

 

 

مقالات من نفس القسم