اللحن

عبد اللطيف النيلة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد اللطيف النيلة

ما زلت لحد الآن، رغم مرور أكثر من خمس سنوات، ألهث خلف اللحن الذي جرفتني إيقاعاته المتدفقة من الغرفة الموصدة، في تلك الليلة المذهلة.

كان الكمان قد استعصى على أناملي طيلة شهور، حتى استبد بي اليقين بأن قريحتي الموسيقية قد أضحت جدباء، وغمرني شعور طاغ بالقلق. «فلأغير الجو لعل وعسى..»، قلت لنفسي. لم أشعر إلا وأنا أنهب المسافات باتجاه منتجع أوريكا…

ركنت سيارتي بجانب الطريق الإسفلتي. نزلت عبر درب مترب إلى ضفة النهر المعشوشبة، وعبرت جسرا خشبيا إلى الضفة الأخرى حيث ينتصب منزل عتيق من حجر. كان الماء الرقراق يشف عن أحجار صغيرة بألوان مختلفة ترقد في القاع. رحت أطوف حول المنزل. كان بسيطا وجميلا ومهيبا بجدرانه العالية ولبناته الحجرية العارية وأبوابه ونوافذه ذات الأقواس. شبابيك نوافذه من حديد، شُكلت بمهارة في صورة قلوب وأزهار متناظرة.

مشرعا كان بابه الحديدي. وقفت بالعتبة واشرأببت برأسي أتطلع إلى الداخل صائحا:

«هل من أحد هنا؟».

كررت النداء مرات، فلم أحظ برد. التقطت عيناي صحنا فسيحا تزين قلبه نافورة ينساب الماء من فمها المعدني، وفي كل زاوية من زواياه شجرة وارفة الظلال، وعلى جوانبه تقوم غرف بأبواب ونوافذ من خشب منقوش. دفعني الجمال المنبعث من داخل المنزل إلى الخطو باتجاه النافورة، وحين كنت أهم  بغطس يدي في ماء حوضها، باغتني صوت انبعث من ورائي:

«سيدي، هل تبحث عن بيت للكراء؟».

التفتُّ فوقع  نظري على شاب يرتدي ثيابا حال لونها: كنزة صوف وسروالا قصيرا. «من فضلك، هل تعرف صاحب هذا المنزل؟»، سألته.

«نعم، إنه خالي موسى».

«هل يؤجره؟».

«نعم، لكن في النهار فقط، أما في الليل فلا».

«وما المانع من تأجيره ليلا؟».

أشار بيده إلى الباب المشرع، وقال:

«قد يغزو السيل الوادي على حين غفلة، فيجتاح كل ما يعترض طريقه على الضفتين. يستطيع المرء أن يتصرف نهارا، لكن الأمر متعذر بالليل؛ تصور نفسك غارقا في النوم ثم دهمك السيل قويا جارفا..».

شعرت بالخوف، لكني قلت له مركزا عينيّ في عينيه:

«لدي رغبة أكيدة في تأجير منزلكم لأسبوع، ليل نهار. فماذا قلت؟».

«لدينا منزل للكراء في الأعلى، حيث ركنت سيارتك».

دنوت من نافذة إحدى الغرف، وهو يتبعني، وتطلعت من خلف قضبانها الحديدية إلى الخارج. «لا أبغي منزلا غير هذا»، أجبته فيما أنا أمتع النظر، تحت شمس الزوال، بغابة أشجار الصفصاف النابتة وراء المنزل. ثم التفتُّ نحوه لأرى رد فعله. للحظة بدت الحيرة على وجهه، ثم قال بعد أن ألقى نظرة إلى الخلف:

«هناك أمر آخر أرجو أن يبقى سرا بيننا».

«سرك في بئر».

«البيت مسكون!» ، قال بنبرة واثقة.

«هل تقصد ال..؟».

«نعم، العفاريت والأشباح».

تحاشيت التعليق على كلامه، واكتفيت بالقول:

«رغم ذلك أريده».

«سأحدث خالي موسى في الأمر»، أجابني وانطلق خارجا من المنزل.

وقفت بعتبة الباب أتابعه يعبر الجسر الخشبي بخفة ويقفز إلى الضفة ليصعد الدرب المترب إلى المنزل الآخر، ثم رفعت رأسي إلى السماء الصافية الزرقة، وجلت بنظري في ما حولي…

انتابتني رغبة في العزف، فانطلقت عبر نفس الطريق التي عبرها الشاب. تناولت حقيبة الكمان من فوق المقعد الخلفي للسيارة، ورجعت من حيث أتيت. دخلت إلى صحن المنزل، اقتعدت كرسيا تحت شجرة خوخ بإحدى الزوايا، ثم أخرجت الكمان من الحقيبة، سوّيت أوتاره، وشرعت في مراودة الموسيقى عن نفسها. استغرقت في العزف بشغف حتى أني لم أنتبه إلى قدوم خال الشاب، حين وقف على بعد خطوات مني يصغي إلى النغم الشجي الذي أرسلته حنجرة الكمان. أخذ يصفق بحرارة لما أنهيت العزف. «أنا موسى صاحب المنزل»، قال لي قبل أن يضيف:

«ما أبرع عزفك، سيدي!».

شكرته وامتدحت معمار المنزل.

«في الواقع، لا أؤجر هذا “الرياض” إلا للأشخاص المميزين مثلك»، رد عليّ وهو يحدق في الكمان الذي كان بين يديّ.

«العفو سيدي، هل أفهم من هذا أنك..».

«بكل تأكيد. لن نجد من هو أفضل منك»، قاطعني.   

اتفقنا على السعر، وأعطيته تسبيقا، ثم ساعدني الشاب على حمل حقائبي إلى غرفة مفروشة بذوق رفيع، تطل عبر نافذتين على مشهد النهر…

نادمت الموسيقى طوال ليال، قبل أن يحدث ما أذهلني. في النهار أستمتع بوقتي، متنزها في ربوع أوريكا، مستغلا دفء الجو للسباحة، متأملا الطبيعة الخلابة. سلسلتان جبليتان تتقابلان، غير أنهما تلتقيان عند موضع يباشر النهر انطلاقه من سفحه، بضفتين غير متساويتي المساحة، إحداهما ضيقة، والأخرى رحيبة إلى حد أن تتصل بغابة تنبسط لأميال عديدة. والماء يجري، مُخَرْخِرا، ملتمعا، قادما من القمم الشامخة حيث تذوب الثلوج، وذاهبا إلى حيث لا أدري. ومنذ هبوط الليل حتى وقت متأخر منه، أتفرغ لترويض أوتار الكمان، مروحا عن نفسي، من حين لآخر، بالاستمتاع بروائع الموسيقى.

في الليلة السادسة، أحسست أن الكمان قد بدأ يطاوع أصابعي أكثر من الليالي الفارطة. وجدت نفسي في البداية أنساق وراء الألحان التي تحفظها ذاكرتي، لكني لم ألبث أن انعتقت من كل لحن جاهز محاولا اجتراح لحن جديد. حاولت مرارا، على امتداد ثلاث ساعات، دون أن أشعر بالرضا عن أي لحن، غير أني كنت أزداد حماسا مع كل محاولة. وفي اللحظة التي شرعت فيها أشق طريق لحن مُغْر، خُيّل إليّ أني أسمع لحنا آخر، بديعا، يصلني خافتا، كما لو كان طيف لحن. أخذ يداعب أذنيّ بهمس حيناً، ويختفي حيناً آخر، فيما أنا أجاهد لبلورة لحني واجف القلب. وأتت عليّ لحظة امتزج فيها اللحنان من غير أن أدرك كيف جرى ذلك الامتزاج، لألفي أصابعي تعزف نفس الموسيقى التي تتناهى إلى مسمعي، بل إن هذه الموسيقى راحت تعلو، رويدا رويدا، حتى ميزت أنها نابعة من بيانو يربض قريبا من غرفتي. تخطيت عتبة الغرفة باحثا بعيني عن البيانو، مواصلا السير في الدرب الفاتن الذي شقه في وَجْهِ كماني. بسرعة اكتشفت أن اللحن يصدر من الغرفة المجاورة التي كانت موصدة بإحكام. روعة اللحن، التي كانت تزداد ثانية بعد أخرى، هوّنت عليّ عجزي عن رؤية الأصابع التي تفجر السحر من مفاتيح العاج والأبنوس، بل إنها لاشت موجات الخوف التي سرت في أحشائي لحظة وعيت أن موسيقى غريبة تقتحم عليّ غرفتي. انساب القوس فوق أوتار الكمان، ذاهبا إلى اليمين راجعا إلى اليسار، مدفوعا بقوة اللحن الساحر. كنت تحت ضوء القمر، أعزف على الكمان، واقفا قبالة الماء المنبجس من النافورة، والبيانو اللامرئي يقودني، مثل دليل، عبر مناطقِ أنغامٍ بكْرٍ هزتني من الأعماق، حتى خيل إليّ أني أحلق بأجنحة من موسيقى، “زاهدا فيما سيأتي، ناسيا ما قد مضى”…  

على غير عادتي، استيقظت متأخرا. تناهى إليّ طرق على الباب لحظة كنت أغسل وجهي. كان الطارق موسى، قال إنه افتقدني هذا الصباح فجاء يطمئن عليّ. «تفضل بالدخول، لقد أتيت في الوقت المناسب»، قلت له وأنا أفسح له الطريق…

أشرت نحو الغرفة الموصدة، وسألته إن كان من الممكن أن يفتحها. بدا الاهتمام على وجهه، إلا أنه خلا من أي علامة استغراب. «لا مانع سيدي نجيب، لكن هل هناك شيء على غير ما يرام؟»، رد عليّ.

«أمر غريب حدث ليلة أمس»، التقطت أنفاسي قبل أن أردف: «دعني ألقي نظرة على الغرفة، وسأروي لك ما وقع».

«آمل أن يكون خيرا».

أخرج من جيب معطفه مفتاحا في حجم الإصبع، أداره في قفل الباب دورتين، ثم أخذ يحرك يد المزلاج الحديدي الصدئ إلى أعلى وأسفل، فيما المزلاج يصدر صريرا مزعجا، حتى انفتح الباب.. شرّعه على مصراعيه، وسارع إلى فتح نوافذه المطلة على النهر من ناحيتين. بدد ضوء النهار عتمة الغرفة، وطرد تيارُ الهواء الرائحة التي كانت محبوسة بين جدرانها. في أقصى الغرفة، من جهة اليمين، كانت تقوم مكتبة من خشب، فارغة إلا من بضعة كتب ودفاتر نوتات غريبة الشكل، كما لو أنها جفت بعد أن غُطست في الماء، وبالقرب من زاويتها اليمنى مكتب من نفس الخشب. في الوسط، تجثم أريكة واسعة متقادمة، وأمامها مائدة بيضاوية الشكل. أما في أقصى الغرفة، من جهة اليسار، فتواجه النظرَ مدفأةٌ بموقدها حطبٌ خامد، وعلى بعد خطوات منها، يستوي بيانو من النوع الكلاسيكي. هرعت نحوه بمجرد أن وقعت عليه عيناي. درت حوله أتفحصه باهتمام مشحون بالدهشة. هممت بلمسه بأصابعي، فانتابني التردد. كان خشبه بلون أسود فَقَدَ بريقه، وقد شابت الخدوش سطح غطائه، فيما الصدأ قد غلّف بدّالاته. واتتني الجرأة، فرفعت عن مفاتيحه غطاءها، وأجريت عليها أصابعي، فانبعث نغم بإيقاع سريع. والتفتّ نحو موسى أسأله:

«لمن هذا البيانو؟».

«أخبِرني أولاً بما وقع لك، وسأجيب عن أسئلتك كلها».

اقتعدنا الأريكة، ورويت له بالتفصيل وقائع حادثة الأمس.   

«ما أعجب هذا!»، عقّب في دهشة، ثم أضاف: «مؤجرون قبلك سمعوا سمفونية البيانو، لكنك وحدك كنت مشاركا في عزفها». أشعل سيجارة، وسحب منها نفسا، وتابع:

«هذا هو بيانو الموسيقار لوساك هوسمان القادم من النمسا. لقد أمضى واحدا وعشرين عاما على ضفة النهر».

«هذا مثير!».

«كان يسكن هنا في “رياضه” هذا».

« وأين هو الآن؟».

شردت عيناه لثانية، ثم أجاب:

«يبدو أن الموسيقى ابتلعته!».

«كيف؟».

«اسمع يا سيدي، ربما سترميني بالتخريف لو رويت لك ما جرى، لذلك سأوكل هذه المهمة إلى كاتب نمساوي أرّخ للحادثة، بعد أن بحث واستقصى. هو أيضا داهمته سيمفونية البيانو ليلة بات في هذه الغرفة. لقد أرسل إليّ ترجمة فرنسية لكتابه، سآتيك بها».

خطا باتجاه الباب، ثم توقف فجأة والتفت إليّ:

«قل لي، يا سيدي نجيب، هل تستطيع تذكر اللحن الذي عزفت بالأمس؟»

«ما زالت روحي مسكونة بأنغامه، وربما أحتاج إلى عون البيانو كَيْ أستعيده».

مساء، رقدت على السرير أقرأ  الفصل الذي خصصه كاتب يدعى هنري فيلدر للموسيقار لوساك هوسمان.

***

مقتطف من كتاب “أنغام عالقة بالهواء”:

“قدم لوساك هوسمان، في جولة سياحية، إلى مدينة مراكش ونواحيها، رفقة صديقيه الحميمين: فْليك وهوشْ. لما وطئت أقدامهم بلدة أوريكا (لابد أن هذا الاسم الأمازيغي قد ذكره بصيحة أرخميدس الشهيرة: وجدتها! وجدتها!)، لاحظ صديقاه أنه لم ينشغل مثلهما بالتقاط صور للمناظر الطبيعية الفاتنة التي يزخر بها المكان. بدا ذاهلا وهو يجيل نظراته في النهر بضفتيه والجبال المحيطة به وأشجار الجوز والخوخ والمشمش والصفصاف والخروب…حتى أنه لم يفتأ يصيح كالمجنون، من دهشة لأخرى: «هنا سأقبض عليها». وحين سأله فْليك: «ماذا تعني»، اكتفى بالنقر بأصابع يديه على الهواء كمن يعزف على مفاتيح البيانو. في الصباح، وهم يفطرون في مقهى النزل الذي باتوا فيه ليلتهم، طفق يسرد عليهما تفاصيل الجولة التي قام بها في الصباح الباكر. وفيما هما يصغيان لكلامه الذي كان يلقيه بحماس لم يعهداه فيه من قبل، فاجأهما بقرار الإقامة في أوريكا. كان تعبير وجهه والألق الملتمع في عينيه يرشحان برغبة قوية في خوض عزلة على ضفة النهر. وعندما ذكّره هوشْ بالعرض الموسيقي الذي اتفق بشأنه مع مسرح النجوم بالعاصمة فيينا، لم يبد عليه أدنى تردد، إذ أحدث بشفتيه ذلك الصوت الذي يعني: طز.

«ولارا؟»، سأله فليك.

أومض الأسى في عينيه وهو يجيب:

«فلتلحق بي إلى هذا السحر إن كان قلبها ما زال ينبض».

… لم تنطلق بهما السيارة مبتعدة، وهما يبادلانه إشارة الوداع، إلا بعد أن اشترى منزلا قديما مشيّدا فوق قطعة أرض تنتمي إلى الضفة الأخرى، ضفة النهر المترامية بعيدا عن الطريق الإسفلتي الضيق المتعرج، وقد تركا بصحبته رجلا من أوريكا يدعى موسى.

تطوع موسى لخدمة هوسمان، فنسّق مع فليك وهوش لجلب أشيائه الخاصة من مسقط رأسه “اشتاير”: بيانوه الخاص وخزانته الصغيرة التي تضم كتبا من كل لون وأشرطة موسيقى لكبار الموسيقيين العالميين. ثم أشرف على هدم المنزل القديم وبناء آخر على أنقاضه، عندما اشتكى هوسمان من غرفه الضيقة وتصميمه العديم الجمال، ورغب في تشييد منزل على طراز “رياضات” مراكش التي قُدر له أن يدخل بعضها ويطوف بانبهار في أرجائها.

خلال الشهور الأولى بأوريكا كان يعزف قليلا، لكن بمجرد أن قطن في “الرياض”  أخذ جلوسه إلى البيانو يزداد يوما تلو الآخر. كان يأذن لخادمه، عند منتصف الليل، بالانصراف إلى غرفته بالدور العلوي. فموسى يخشى مداهمة النهر، إلى درجة أنه حذر سيده من السكن على ضفته، ولما لم يلق منه أذنا صاغية ترجاه أن يقيما في الدور العلوي الأكثر أمانا، لكن هوسمان اختار غرفة سفلية تطل نوافذها مباشرة على النهر، وكان يردد على مسمع موسى، في كل مرة: «دع النهر على راحته، فليغضب كما يشاء». وفي إحدى رسائله إلى لارا كتب: «أي تجربة أعمق من أن تطل من نافذة على نهر ثائر هادر، وتنظر إليه وجها لوجه وهو يندفع صوبك يروم أن يجرفك، أن يأخذك معه غصبا؟ أي موسيقى ستندلع من بين ضلوع البيانو بعد أن تكون قد أفلتّ من بين فكّيْ هذا النهر؟».

يقفل موسى رتاج الباب ومصاريع النوافذ، فتتسلل نغمات البيانو إلى أذنيه – كأنما من تحت الباب – واضحة في الهدوء المطبق على المنزل وإن كانت خافتة. أحيانا كان يطير النوم عن جفنيه في الهزيع الأخير من الليل، فيكتشف أن سيده لا يزال يضرب على مفاتيح البيانو كما لو كان مسكونا بأرواح.

في ذلك اليوم، جلس هوسمان، وقت الضحى، على حافة الضفة، ودلى رجليه في ماء النهر الذي لم يتخط ركبتيه، وانغمس في الـتأمل طويلا. كانت الريح تُموّج الماء الجاري وتضاعف خريره، وتهب على الأشجار فتتمايل أغصانها المحملة بالأوراق الخضراء وينبعث حفيفها. لقد كتب إلى لارا – التي لم ترد عليه قط – في رسالة أخرى: «تمتلئ روحي بالموسيقى التي تعزفها الطبيعة، عبر هارمونيا ساحرة من الأشكال والألوان والأصوات… فأحس بإجلال للموسيقار الكبير».

ظل شارد البال وهو يتناول وجبة الغداء، كما لو كان يواصل الاستماع إلى سمفونية الطبيعة. غلبه النوم حين كان مسترخيا، بعد الغداء، فوق أريكة غرفة المكتبة. لم يستيقظ إلا بعد العصر بقليل، فشرب قهوة سوداء جالسا إلى طاولة وسط الصحن، مدخنا غليونه، وتابع أغصان الأشجار وهي تتمايل وترسل حفيفها، بينما أومض البرق وقصف الرعد قبل أن يبدأ المطر هطوله. وبمجرد أن شرب آخر جرعة من فنجان قهوته، وجّه إلى موسى أمرا فاجأه:

«أخرج البيانو إلى الصحن».

تسلل النهر إلى “الرياض”، ليلتئذ، واختبر موسى تجربة اختلط فيها الهول بالروعة، وهو مقيد اليدين إلى قضبان الدرابزين المشرف على الصحن. ارتقى به سحر الموسيقى إلى ذروة منحته انتشاء أنساه هول المياه المتلاطمة التي طفقت تطوف حول النافورة، ثم أسلم أجفانه لنوم عميق… 

ولم يستيقظ  إلا على أصوات تلغط من حوله، ورائحة شاي منعنع تغزو خياشيمه. فتح عينيه، فرأى نفسه راقدا فوق سرير، والغرفة غاصة بأفراد عائلته، وخاله الأكبر سنا متربع على الأرض وبين يديه صينية بها إبريق فضي من الحجم الكبير وأكواب من زجاج. كان يسكب الشاي في الأكواب، فتوزعها أمه على الحاضرين…

علم أنهم بادروا إلى إنقاذه عندما سكن ثوران النهر وانحسرت المياه، وقد عثروا، قرب جذع شجرة التفاح، على جثة رجل أشقر، تعرف موسى في وجهه على ذلك النمساوي المجهول الذي تسلل إلى “الرياض” في ذلك المساء، لاختلاس أوراق الموسيقار، وربما لاغتياله. لكنهم لم يجدوا  أثرا  لهوسمان.

وفي اليوم التالي، غادر الفراش، رغم اعتراض أمه، ونزل الجبل رفقة بعض أقاربه لإلقاء نظرة على “الرياض”. كان الصحن ملطخا بالطمي وقد تبعثرت فيه بقايا كتب وأوراق ودفاتر نوتات، والبيانو ساقطا على الأرض، والأشجار الأربعة المعرشة في الزوايا محطمة الأغصان، وقد ارتمت الطاولة وكرسيها ومقعد البيانو وسط الغرفة المطلة على غابة أشجار الصفصاف الممتدة خلف “الرياض”. أما في غرفة المكتبة المطلة على النهر، فقد كان المكتب والأريكة مقلوبان رأسا على عقب، وقد غيرا موضعيهما، والمكتبة الخشبية شبه خالية من محتوياتها، والجدران عارية، وثمة كتب مشوهة بالماء ولوحات فنية تتناثر هنا وهناك…

يسترجع موسى ما حدث، كما لو كان حلما.

«أخرج البيانو إلى الصحن»، يأمره سيده.

يضغط موسى على زر سقيفة الصحن إلى أن تختفي السماء وينقطع هطول المطر، ويوصد مصاريع النوافذ. ثم يرفع مكابح أرجل البيانو إلى أعلى، ويدفعه على مهل باتجاه الباب، وهوسمان يلاحقه بعينين تومضان بالخوف، كما لو أنه يدفع بيضا على عجلات.

«ببطء ورفق يا موسى».

يفتر ثغره عن ابتسامة مفعمة بالرضا وهو يرى موسى يُعدّل وضع البيانو، بحنو أم على طفلها، ليصبح مواجها لمنظر المياه التي تنبجس من فم النافورة وتنساب نازلة لتملأ حوضها الحجري. يرفع الغطاء الخشبي الصقيل عن الأوتار الفولاذية ويثبِّته، يأتيه موسى بمقعد البيانو المنجد، فيجلس ويبدأ العزف، فتتعالى الموسيقى لتغطي تدريجيا على صوت نقرات المطر على سطح السقيفة.

يصعد موسى إلى المطبخ بالدور العلوي لإعداد العشاء. وبينما هو منهمك في تقشير البصل، يحس فجأة بملمس معدن بارد في قفاه، وصوت خشن يأمره، بلغة سيده، أن يرفع يديه فوق رأسه. حين يستدير يجد رجلا أشقر يشهر في وجهه مسدسا. يقوده خارج المطبخ، ويختم بلصاق على فمه، ويصفد يديه وراء ظهره، ويجلسه بمحاذاة إفريز الدرابزين قبل أن يقيده إلى قضبانه الحديدية. الموسيقى تصدح منداحة في أرجاء “الرياض”، وهوسمان منغمر كليا في الضرب على مفاتيح البيانو.

ولأن الموسيقى راحت تعلو أكثر فأكثر، فإن موسى لم يستطع التقاط وقع خطوات الغريب، ليعرف هل هو بصدد النزول إلى الدور السفلي أو الصعود إلى السطح، أم أنه يتجول في غرف الدور العلوي. يأخذ قلبه في الخفقان بشدة، شاعرا بتعثر أنفاسه. اللصاق الذي يكمم فمه، يجهض سعيه إلى إصدار صوت ينبه سيده إلى الخطر القادم. هوسمان بسنواته التسعة والخمسين وشعر رأسه ولحيته المجللين ببياض الشيخوخة، مستغرق في النقر على مفاتيح البيانو، كمن يؤدي صلاة في خشوع تام. لا يشعر موسى إلا وهو يجد نفسه منجذبا إلى موسيقى البيانو التي كانت تختلف، في كل لمسة أصابع، مع أي موسيقى سمع يوما سيده يعزفها، بل مع أي موسيقى استمتع يوما بسماعها. عندئذ، يلمح الرجل الأشقر يقف بالقرب من إحدى السواري، وهو يتقلد مسدسه الأسود بيد ويحمل دفاتر نوتات هوسمان باليد الأخرى. كان يرنو إلى الموسيقار مبهورا إلى حد أنه ترك فمه فاغرا ويديه متدليتين إلى جانبه.

من مكانه البارد خلف الدرابزين، يرى موسى ماء النهر يغمر الصحن تدريجيا، متسربا، دون شك، من بين قضبان باب “الرياض” وكواته المفتوحة، فيما سيده يعزف بانخطاف جلي. لا تتوقف مياه النهر عن غزو الصحن، بل إنها تأخذ في الاندفاع بقوة، فيما أصابع هوسمان تنقر، في خفة ورشاقة، مفاتيح البيانو، ورأسه يهتز باتساق مع إيقاع الموسيقى. تتسلق المياه قدمي هوسمان وبدّالات البيانو وعجلاته. لكن الموسيقار غارق بجماع كيانه في اجتراح هذه الموسيقى المختلفة التي لم تفتأ ترق وتعذب نقرة عقب نقرة. وبانسياب إيقاعي، تقفز الموسيقى إلى لحن راح يشتد شيئا فشيئا حتى غدا ثورانا يتجاوب مع هياج النهر وهطول المطر في الخارج.

وحين يصطخب الصحن بالمياه، تُجن أصابع هوسمان وتبدأ في استخراج أنغام ساحرة من جوف البيانو، حيث تسكن مطارق تضرب الأوتار، أنغام كأنما يتضافر في نسج إيقاعاتها الرقة والقسوة، الهدوء والصخب، الشهوة والعفة، الغبطة والشجن، الحيرة والطمأنينة، الماء والنار… يفقد موسى الإحساس بأنه مقتعد أرضا باردة، مغلولَ اليدين مكممَ الفم بلا حول ولا قوة. واقعاً تحت سحر اللحن، يرى موسى البيانو يطوف بهوسمان حول النافورة بسرعة جعلت المياه تدور صانعة دوامة تكبر دورة بعد دورة. يرتفع منسوب المياه، لكن البيانو والموسيقار يطفوان فوق قلب الدوامة. يصّاعد اللحن باطراد مع ازدياد سرعة دوران المياه، حتى يبلغ الذروة، حيث لا يعود موسى يبصر غير طيف يدور بسرعة فائقة، فيما أصداء اللحن الساحر تنداح في الهواء، وتتردد في دواخله. يشعر أنه خارج حدود المكان ومدار الزمان. يشعر بتجمع العمر كله في لحظة واحدة كثيفة عميقة مشحونة، تقذف به خارج نفسه وخارج العالم. يغمض جفنيه شاعرا بمتعة تأخذه إلى تخومها القصوى..”

***

    قبل أن أغادر السرير، في الصباح، أشرق في ذاكرتي حلم رأيت فيه نفسي جالسا إلى بيانو لوساك هوسمان أوقّع بأصابع بارعة لحنا لا يقل سحرا عن اللحن الذي جرفتني إيقاعاته المتدفقة من الغرفة الموصدة، ليلة أمس. وألح عليّ السؤال:

«هل أسْمَعَ البيانو مؤجري “الرياض” اللحن نفسه؟».  

مقالات من نفس القسم