الفقدان

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

1994، أسفي، حي المستشفى.

كان يوما حزينا وقاسيا.

منذ لحظات اكتملت التدابير المتعلقة بتفاصيل الجنازة، وانطلق الموكب من بوابة المسجد الكبير هادئا ومهيبا، يبدو الحزن مهيمنا على الجميع، فالمتوفاة سيدة كريمة، ولها مكانة خاصة في نفوس العائلة الكبيرة والصغيرة (الأهل والأصدقاء)، ولكن الفاجعة بالنسبة ل(سي محمد) كانت أكبر، والفقدان أقوى، والحزن أعمق، فعندما مات والده منذ سنوات، أصبحت أمه سنده الوحيد في حياته، أو ما تبقى من حياته، ثم عندما فقد عمله، فقد معه جزءا من توازنه الداخلي الهش.

الموت أمر مفجع دائما، ولكنه بالنسبة ل(سي محمد) مأساة حقيقية.

يسير الموكب، يمضي في اتجاه المقبرة.

– لا إلاه إلا الله …مولانا نسعاو رضاك …

مشى هو في مقدمة الموكب، بدا غائبا، محطما وحزينا، إلى يساره يمشي شاب ملتحي، يبدو متحمسا، يحث المشيعين.

– أسرعوا بالجنازة…أسرعوا بالجنازة !!

بالنسبة ل(سي محمد)، كان جرحه كبيرا وعميقا، استعاد الجملة بداخله مرات ومرات دون أن يفهم مغزاها، بدت له الجملة غريبة، قاسية وبلا معنى!!

– لم يسرعون بالجنازة؟

هو يريد أن يبقى إلى جانب الفقيدة، يريد أن تبقى الفقيدة إلى جانبه!!

– أسرعوا بالجنازة، أسرعوا بالجنازة !!

ينظر (سي محمد) إلى الشاب الملتحي بغضب، يفكر، يخاطبه في صمت.

– اسكتنا، حتى تموت العوراء ديال أمك، وديها أنت فالهيليكوبتير!!

(اخرس، عندما تموت أمك العوراء، احرص على نقلها بالهيليكوبتير)

يبكي (سي محمد) مثل طفل صغير، ينظر للفراغ، يمتزج نحيبه بكلام غير مفهوم.

– واهيا الميمة…لمن خليتيني؟ خليتيني بوحدي!!

عندما وصل الموكب إلى المقبرة، كان القبر جاهزا، ولم يبق إلا التفاصيل الأخيرة، تقدم الأهل خطوات إلى الأمام، وتأخر الغرباء خطوات إلى الخلف في مشهد مؤلم وحزين.

انخرطت أنا في نوستالجيا قوية، أفكر، أمضغ هواجسي، وأخاطب نفسي بصمت.

الموت أمر غامض، غريب، حزين ومفجع، ولكنه في النهاية أمر مفهوم تماما.

يذكر الموت في قريتنا، فيردد الرجال بلسان واحد.

– الله أكبر…

يذكرون الفقيد، يسألون عن السن، والمرض والزمن والظروف، يستعملون عبارات يمتزج فيها الإيمان بالقدر والعجز بالاستسلام أمام الموت كوضعية نهائية.

– تلك الطريق سالكة ومملوءة… (يقصدون طريق الموت)

– نحن لها…

– هي لنا…

– كلنا لها…

ولكنهم سرعان ما يعودون إلى أحاديثهم الدنيوية عن الأرض والمال والنساء والأبناء، أحاديث يمتزج فيها الحرص والجشع والرغبة في التملك بنوع من الورع المزيف.

أتذكر، كان والدي يوصيني دائما بحضور الجنائز والمناسبات الحزينة، ينبغي أن تمر سنوات لأكتشف العبرة، كان يتصور أن فكرة الموت وحدها كفيلة بتكسير غروري، والتخفيف من نرجسيتي المزمنة، كانت دعوته تلميحا إلى حالة التمرد المستعصية التي عشتها بفعل المراهقة وفورة الشباب وعدوى الكتب.

آنذاك، كان الموت، موتي أنا، أمرا مؤجلا، ولا يعنيني.

كنت حاضرا في جنائز كثيرة، جنائز قبله، وأخرى بعده، ولكنني لم أحضر جنازته هو، أهي صدفة؟ أهي جرثومة التمرد؟ أهو الصراع الأبدي بين الأجيال؟

لا أدري.

أتساءل دوما.

– أكان ينبغي أن يغيب، لكي يحضر في حياتي باستمرار؟ أكان ينبغي أن يموت لكي يتعالى هكذا مثل قديس؟

يهيمن الصمت، صمت رهيب.

عندما عدت إلى نفسي، كان الجسد المسجى بالبياض قد نزل إلى اللحد، وعندما استقر تماما في مثواه الأخير انهال عليه الرجال الأقوياء يردمونه بالتراب.

انخرط (سي محمد) في نوبة من البكاء القاسي، يهتز جسده النحيل بعنف.

ثم، فجأة، يحدث شيء عجيب، ينطلق (سي محمد) مثل سهم، يلقي بجسده النحيل على القبر، يتعالى صوته، يرتفع، يتردد في أرجاء المكان.

– واحشومة عليكم…خليوها مازال شوية…

– ديني معاك ألميمة…لمن خليتيني؟

بدا المشهد مأساويا، قاسيا، ومفعما بمشاعر غامضة.

انقسم المشيعون، بعضهم يبتسم بحزن، البعض يبدو منزعجا، والبعض الآخر ينظر بصمت.

– خليوني…بغيت نمشي معها!!

– الرجوع لله أولدي، العن الشيطان، الموت راها حق علينا كاملين!!

ينهض (سي محمد) وفي قبضته حفنة من تراب القبر، امتدت إليه الأيادي القوية، ترفعه، تمنعه من العودة إلى القبر، كان جسد والدته المسجى بالبياض قد اختفى، والقبر قد استوى تماما.

يرتفع صوت الفقيه بالدعاء، ويتوارى نحيب (سي محمد) ليصبح مجرد خلفية بعيدة، حزينة ومنكسرة.

– الحمد لله الذي قصم بالموت رقاب الجبابرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، وقصر به آمال القياصرة، الذين لم تزل قلوبهم عن ذكر الموت نافرة، حتى جاءهم الوعد الحق، فأرداهم في الحافرة، فنقلوا من القصور إلى القبور…

يهيمن الصمت مرة أخرى، أهو الخوف؟ أهو الموت؟ أهو الخوف من الموت؟

– اللهم اغفر لها، وارحمها، ولا تفتنا بعدها…اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ونعوذ بك من عذاب القبر، ونعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، ونعود بك من فتنة المحيا والممات…

في المساء، أقيم حفل العزاء (عشاء الميت)، كان الموت قد فقد سطوته، استعادت الأنفس هدوئها، وتلاشى الحزن تدريجيا مثل سحابة عابرة، بفعل قطع الحلوى وكؤوس الشاي المسكرة.

وحده (سي محمد) بقي حزينا يفكر بصمت.

– وحدها كانت تحبني، كان يجدر بي ألا أتركها ترحل!!

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون