د.مصطفى الضبع
الفيلم السينمائى نص مبصر والرواية فيلم مقروء، والعلاقة بينهما ليست تتوقف عند حدود اعتماد السينما على النص المكتوب وإنما هى علاقة تبادلية تتقاطع في بعض زواياها وتتشابه في بعضها، في الرواية يتعامل المتلقى مع لغة السارد الذى يتولى تقديم الأشخاص لذا فعملية السرد تقص عن، وفى السينما يقوم المخرج بدور الروائى في تقديمه للأشخاص ولكنه لا يقص عنهم وإنما يجعلهم -عبر أفعالهم – يتحدثون عن أنفسهم وعن الآخرين من أبناء جنسهم، المخرج يقدم أشخاصا حاضرين أمامنا يمثلون لحظة تاريخية تتزامن مع زمننا أحيانا وتتقاطع أحيانا أخرى، لحظة تمثل امتدادا لطموحنا، واستكمالا لخبراتنا وتجريبا لمعارفنا وخبراتنا المدخرة.
في اعتمادها على النص الروائى لا تنطلق السينما من فراغ، أو من درجة الصفر بالمفهوم البارتى ( نسبة إلى رولان بارت ) وإنما يتضمن النص الروائى مبادئ اشتغال السينمائى وكلما زادت نسبة هذه المبادئ بات النص الروائى أكثر إغراء للسينمائى حيث كثير من النصوص الروائية تحمل في باطنها الكثير من الجينات السينمائية التى تجعل عمل السينمائى أكثر عمقا فبدلا من مجهود يبذل في تطويع النص الروائى للعمل السينمائى، يبذل المجهود في تعميق الرؤية السينمائية لتكون قادرة على التعبير عن روح النص الروائى وفلسفة كاتبه.
ما قبل إنتاج بداية ونهاية سينمائيا (1960) بوصفها الرواية الأولى المصورة سينمائيا لنجيب محفوظ كتب نجيب محفوظ سبعة عشر نصا سينمائيا مثلت إسهامه المبكر فى مجال السينما قبل أن تكون انطلاقته الروائية السينمائية المؤسسة على ” بداية ونهاية “، وتتوزع مساحة النشاط السينمائى قبل هذه الانطلاقة على النحو التالى:
- قصة: قدم قصة واحدة ” بين السما والأرض ” من إخراج صلاح أبو سيف 1959.
- قصة وسيناريو: قدم ثلاثة أعمال ( فتوات الحسينية من إخراج نيازى مصطفى 1954- درب المهابيل من إخراج توفيق صالح 1955- احنا التلامذة من إخراج عاطف سالم 1959).
- سيناريو: قدم عشر سيناريوهات وشارك فى إعداد اثنين.
وهو ما يعنى بداءة مساحة الخبرة السينمائية لا بوصفها مجرد عمل يمنح صاحبه بعض قدرات الأداء وإنما بوصفها مكونا من مكونات المبدع فى مرحلة مبكرة من حياة تجربته الإبداعية ومشروعه فى الكتابة فقد كانت الكتابة للسينما خطا موازيا يمثل وجها آخر من وجوه الكتابة المحفوظية، تلك الكتابة التى قامت على عمادين أساسيين: السرد والسينما فإذا كان منجز محفوظ فى السرد معروفا وله شهرته وفق آليات قراءة السرد القائمة على أن اسم الكاتب شريكا أساسيا فى عملية التلقى فعلى خلاف ذلك لا يهتم المشاهد غير المتخصص بمعرفة ما دون الممثل فى العمل السينمائى ( [1] )، فإن الكتابة للسينما والإسهام في نشاطها عبر قناة محددة ( الكتابة ) تبدو غير معروفة بالقدر الذى كان عليه الحال في مجال الكتابة الفردية، للدرجة التى يفاجأ المتلقى خلالها أن أعمالا غير قليلة يعرفها المتلقى وتكتسب شهرة كبيرة في السينما دون أن يعرف علاقتها بنجيب محفوظ بوصفه مساهما فيها ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- ريا وسكينة ( سيناريو) إخراج صلاح أبو سيف
- جعلونى مجرما (سيناريو ) إخراج عاطف سالم 1954.
- درب المهابيل (قصة وسيناريو ) إخراج توفيق صالح 1955.
- شباب امرأة ( شارك فى السيناريو ) إخراج صلاح أبو سيف 1955.
- جميلة بوحريد ( السيناريو الأصلى ) إخراج يوسف شاهين 1959.
وما بعد ” بداية ونهاية ” انفتحت العلاقة عبر خط جديد هو الرواية التى تأخذ طريقها إلى السينما فأنتجت إحدى عشرة رواية خلال تسع سنوات:
- زقاق المدق (1947) أنتجت (1963) من إخراج حسن الإمام.
- اللص والكلاب(1961) أنتجت 1963من إخراج كمال الشيخ.
- بين القصرين (1956) أنتجت (1964) من إخراج حسن الإمام.
- الطريق (1964) أنتجت (1965) من إخراج حسام الدين مصطفى.
- خان الخليلى (1946) أنتجت (1966) من إخراج عاطف سالم.
- القاهرة 30 (1945) أنتجت (1966) من إخراج صلاح أبو سيف.
- قصر الشوق (1957) أنتجت (1967) من إخراج حسن الإمام.
- السمان والخريف(1962) أنتجت (1968) من إخراج حسام الدين مصطفى
- ميرامار (1967) أنتجت (1969) من إخراج كمال الشيخ.
- السراب (1948) أنتجت (1970) من إخراج أنور الشناوى.
- ثرثرة فوق النيل (1966) أنتجت (1971) من إخراج حسين كمال.
وقراءة القائمة تقف بنا عند بعض النتائج ذات الدلالة، منها:
- أن حركة الإنتاج السينمائى لم تسر فى خط زمنى مواز لحركة نشر الروايات فى طبعتها الأولى وهو ما يعكس توالى الإنتاج عبر خط ارتدادى يؤكده الفارق الزمنى بين الروايات فى طبعتها الأولى وتاريخ إنتاجها سينمائيا.
- أن السينما حافظت على عناوين النصوص الروائية دون تغيير ( سنتوقف عند هذه النقطة لاحقا ).
- أن فترة السنوات العشرة تمثل مرحلة من مراحل نضج عدد من كبار المخرجين المصريين الذين يمثلون أعمدة أساسية في خارطة السينما العربية، تلك المرحلة التى كانت من أخصب المراحل في تشكل العلاقة بين الرواية والسينما سواء في اعتمادها على الرواية العربية في مصر أو في تنبه كتاب الرواية إلى السينما واعتماد تقنياتها في الكتابة الروائية.
تمثل أعمال نجيب محفوظ (الروائية خاصة ) نموذجا فريدا للنص السينمائى أو النص الروائى الذى يعتمد تقنيات السينما ـ إذ تحمل النصوص عوامل النص السينمائى وخصائصه، وقد توافقت آراء معظم دارسى السينما في أدب نجيب محفوظ أو تجربته السينمائية على ذلك مجمعة على أن نجيب محفوظ ينفرد بين كتاب العربية بعلاقة فريدة بالسينما سواء على مستوى الكتابة للسينما أو العمل بها أو صلاحية أعماله للسينما أو كم المنجز من أعماله سينمائيا ( [2] ) وقد أفرد الدكتور عبد التواب حماد أربعة فصول لاستعراض أربعة من هذه المقومات ” جماهيرية المحتوى الفكرى – دقة وصف المرئيات – التعبير البصرى عن المجردات – الإيحاء بالعناصر السمع بصرية “( [3] ) وأضاف إليها نجيب محفوظ نفسه سمات يراها مما يستفيده الروائى من السينما أو ما يراه خلاصة تأثير السينما على الأدب يقول:” السينما تؤثر من ناحية أخرى، الإيقاع السريع والتركيز وهذا تأثير عام للسينما في الأدب ” ([4]):
- جماهيرية المحتوى الفكرى: على الرغم من العمق الفكرى والفلسفى لأعمال نجيب محفوظ فإن محتواها الفكرى يمثل مستويات لا يصعب على المتلقين على اختلاف مستوياتهم الفكرية اكتشاف الرسالة الجمالية التى يطرحها النص، ومع الإقرار بأن للروايات جميعها قضاياها الكبرى فإن القارئ لا يخفى عليه جوانب لا تقلل من قيمة العمل إن لم تكن قادرة على الوصول إلى نقطة العمق، في روايته ” ليالى ألف ليلة ” قد يقف القارئ الباحث عن الحكاية عند مستوى إعادة إنتاج حكايات تتعلق بشهريار وشهرزاد وغيرهما ممن يعتمد القارئ في متابعتهما على حكايات الليالى الشهيرة، وقد ينجح المتلقى المتعمق في الوصول إلى الوجه الآخر لليالى المحفوظية ممثلا في رصد الكاتب لليالى خارج قصر شهريار بوصفه الحاكم والمسؤول عن نظام حكم وشعب انشغل عنه بحكايات شهرزاد مجيبا عن تساؤل يطرحه المستوى الأعمق للنص: ماذا كانت عليه أحوال مدينة شهريار حال انشغاله بحكايات لم يعرفها الشعب إلا بعد أن فض الملك بكارة الحكايات بوصفه المستمع الأول لها، وفى “زقاق المدق ” قد يقف القارئ عند حكاية محاولة الصعود التى أفضت إلى سقوط حميدة في الفخ دون أن يرى فيها جوانب اعمق بكثير مما يقتصر رؤيته عند مستوى الحكاية في جانبها البسيط، إن المحتوى الفكرى لكثير من الروايات يطرح هذه الأبعاد المختلفة والمتنوعة التى يصعب الوقوف على نص واحد لاكتشافها لكونها سمة أساسية في إنتاج نجيب محفوظ عبر مراحل تجربته السردية ولكنه محتوى متعدد الأبعاد للدرجة التى تجعل المتلقين على اختلاف أفكارهم ومشاربهم يكتشفون في الروايات ما يؤكد أفكارهم أو ما يرونه ينتمى إلى أيدلوجياتهم، وما ينطبق على القارئ ينطبق على النقاد على اختلاف مذاهبهم ( [5] )، ويعرض الدكتورعبد التواب حماد لأربعة أفكار يراها محققة جماهيرية النص المحفوظى ومدللا عليها من تلك الأعمال التى عرفت طريقها إلى السينما: “فكرة الظلم الاجتماعى – فكرة عدم التوافق مع المجتمع- فكرة الصراع بين الأجيال – فكرة السلوك المتناقض للسلطة والقيادات ” ( [6] ) وهى أفكار من شأنها الوقوف على مساحة كبرى من تاريخ المجتمع المصرى والعالمى كاشفة عن جماهيرية النص وقدرته على إنتاج جماهيريته عبر خطابه المميز.
- دقة وصف المرئيات: ما الذى يضيفه الوصف لما هو مرئى ؟ سؤال أولى يطرح نفسه في سياق الوصف الواقع على ما هو واضح وظاهر. فإذا أضفنا إلى ذلك أن من معانى الوصف الإظهار و الكشف ( [7] ) أصبح من الأهمية بمكان أن ندرك أن الوصف ينسحب على المرئيات المنظورة، والمرئيات تشغل حيزا دلاليا من فضاء النص وتشكل حيزا جغرافيا من مكانه، ولكنها تتجاوز دورها في تشكيل جغرافية المكان إلى تشكيل جملة العلامات التى تتأسس عليها قراءة النص والتوصل إلى خطابه الجمالى.
في السينما يقوم الديكور بصياغة مكانية يكون على الكاميرا أن تسحب المشاهد لتكون عينه في استكشاف التفاصيل، وفى الرواية تعمد اللغة إلى تشكيل التفاصيل وتصويرها معتمدة المبدأ البلاغى القائل: أن البلاغة قائمة على مبدأ حرية الاختيار فما يطرحه الروائى يندرج في أبسط تركيباته فيما يسمى قصد المؤلف، هنا تتحول المرئيات إلى علامات لغوية تنافس المفردات اللغوية فإذا كان لكل لفظ وظيفته الدلالية التى لا يمكن الاستغناء عنها، فإن المرئيات من أشخاص و أشياء وأمكنة داخلية خاصة وممتلكات وغيرها يصبح لوجودها أهمية يصعب تجاوزها كما يصعب الاستغناء عنها، ومع كثرة ما يمكن طرحه والوقوف عنده من مقاطع وصفية إذ يستحيل الإحاطة في مثل هذه السطور بكل ما أبدعه نجيب محفوظ من مساحات وصفية فإن الوقوف عند مشهد يمكن أن يكون عينة عشوائية دالة على حركة كاميرا السارد:” الوجوه تتطلع إليه مستفسرة.. حتى قبل أن ترد تحيتك.. حنان رقيق مخلص ولكن ما أفظع الضجر.. الحموضة التى تفسد العواطف الباقية.. ولاحت من ورائهم الشرفة الكبيرة المطلة على النيل من الدور الرابع.. وتبدى عنق زوجك من طاقة فستانها الأبيض غليظا متين الأساس.. واكتظت وجنتاها بالدهن، وقفت كتمثال ضخم ملئ بالثقة والمبادئ، وضاعت عيناها الخضراوان تحت ضغط اللحم المطوق لهما أما ابتسامتها فمازالت تحتفظ ببراءة رائقة ومحبة صافية……………………….. واعتمدت بثينة بكوعها على كتف تمثال برونزى لامرأة باسطة الذراعين في هيئة مرحبة وتطلعت إلى أبيها في تشوق بعينيها الخضراوين، وهى تكرر صور أمها عندما كانت في الرابعة عشرة، بقامتها الرشيقة، ولكن يبدو أنها لن تتعملق مع
الأيام ولن تسمح للدهن بأن يغطى على صفائها ” ( [8] )، زمنيا يرسم المقطع الذى تتخلله جملتان حواريتان مساحة زمنية تمتد بين الماضى والمستقبل، وسرديا يجمع السارد بين الوصف والسرد، ووصفيا يجمع السارد بين الوصف السردى والصفة النحوية ( [9])، ويعمد إلى تفكيك الصفة إلى أوصاف لها قوة التأثير على السياق، فالصفات النحوية ( النعوت ) التى تمثل بنية صوتية قصيرة المدة لكونها تعتمد مفردة واحدة يمكن اختزالها سينمائيا في واحدة من عناصر اللون أو الحجم أو المساحة يعمد السارد إلى تفكيكها في أوصاف كما في جملة الوصف لابتسامة الزوجة ” فمازالت تحتفظ ببراءة رائقة ومحبة صافية” التى كان من التقليدى أن يكتفى بصفات نحوية متعددة ابتسامتها البريئة الرائقة، غير أن دخول الفعل ” تحتفظ ” شأنه شأن الأفعال الأخرى التى تنحو النحو نفسه تعمل على تضفير ما يمكن تسميته بالسرد الداخلى، داخل الوصف وفى إحالة الفعل أيضا إلى مسند إليه ( شخصية يكشف الفعل عن طبيعتها الداخلية ويتضافر مع غيره من الأفعال في تقديم صورة دالة للشخصية )، الأوصاف والصفات هنا تقوم بدور مجازى يقارب دور التشبيه في توجيهه المتلقى إلى عناصر من شأنها أن تصور الشخصية وتطرح فاعليتها بصورة أعمق، ويبلور الدكتور عبد التواب حماد فكرته عن الدقة في الوصف من خلال ثلاثة عناصر أساسية: وصف المكان – وصف الحدث – وصف البعد المادى للشخصية ( [10] ).
- التعبير البصرى عن المجردات: وهى تقنية يعتمدها نجيب محفوظ لتجسيد المعانى والمشاعر والانفعالات والمشاعر الباطنية ومساحات الزمن، جاء على لسان عثمان بيومى في “حضرة المحترم” مجسدا سلطة الدولة وهيبتها: ” إن الدولة هى معبد الله على الأرض، وبقدر اجتهادنا فيها تتقرر مكانتنا في الدنيا والآخرة ” ( [11] )، ومجسدا طبيعة الوظيفة:” الوظيفة حجر في بناء الدولة، والدولة نفحة من روح الله مجسدة على الأرض ” ( [12] ) ولا يمتد الأمر إلى التعبير عن الزمن:” فإن محفوظ يعمد إلى التعبير عن ذلك مستعينا بمجموعة من المظاهر البصرية تتجمع في النهاية لتؤكد على مرور الوقت، كما فعل مثلا في السكرية إذ يقول في وصفه:” بيت غشاه الزمن بالكآبة ” وهو يؤسس بهذه الجملة لتبدل الأحوال مع مضى الزمن، ثم لا يلبث أن يعود بالسيد احمد عبد الجواد من سهرته في التاسعة لينام في العاشرة ويقرر له طعامه من خلال تذكرة الطبيب واختزال عشائه إلى سلطانية زبادى وإلباسه الملابس الصوفية في وقت يشيع فيه الجو اللطيف.. فيدلنا باجتماعها على تبدل الأحوال مع الزمن ” ([13] ) .
- الإيحاء بالعناصر السمع بصرية: وتتجلى من خلال تقنيتى التصوير والمونتاج معتمدا زوايا ذات دلالة خاصة ليس بإمكان زوايا غيرها أن تطرح رؤية الكاتب وتقديم عالمه ويمكن للمتلقى المتابع للمسافة التصويرية بين رصد المشاهد الكلية للمكان بما يعنى انفتاح الكاميرا على مشهد ما، وبين اعتماد الضوء بوصفه موسيقى خالقة إيقاعا بصريا في المشهد، ما بين الاثنين تتشكل عناصر لها قوة الإيحاء الدال، في القاهرة الجديدة: ” ووجد نفسه في شارع الفسطاط مرة أخرى ولفحته ريح باردة عاتية لم يدر متى هبت، تهز الأغصان فيضج الطريق بحفيفها وتصفر بين الجدران فيصم الآذان زفيفها، فسرت إلى جسمه المتعب رعدة تمشت في مفاصله ” ( [14] )
تصوير داخلى
فى رواية ” حضرة المحترم ” يعتمد السارد على التصوير الداخلى غير أن نوعين من الداخل يتجسدان إزاء المتلقى: داخلى فى المكان، وداخلى فى النفس، الأول متعدد التفاصيل ولكنه يكاد يكون أحادى الدلالة، والثانى أحادى المشهد ولكنه متعدد الدلالة، الأول يتمثل فى مجموعة الأحياز المكانية التى تتحرك الكاميرا عبرها حركتها المؤسسة ويمكن اختزالها فى: منزل البطل – مكان العمل – بيت قدرية – بيت راضية.
والثانى يكتسب أحاديته من كونه يترسب فى نفسية البطل عثمان بيومى ويتصف أول ما يتصف بالثبات حيث الكاميرا تكون ثابتة على لوحة واحدة تصور طموح عثمان وحركته الهادفة للوصول إلى هذا الطموح، هنا يكون الهدف نقطة فى العمق والبطل يشبه الكاميرا فى حركتها للقيام بحركة زوم لتجعل المشاهد قادرا على استكشاف أبعاد المشهد أولا والسمات المشكلة لنقطة الوصول ثانيا والكاميرا فى حركته الزومية هذه تلتقط مشاهد ثانوية تمثل مكونات تفضى إلى النقطة الأساسية، وتتجلى فيما يستجد من أحداث لا يعرفها المتلقى ولكنها تفضى إلى الهدف، لقد كشفت الرواية لمتلقيها منذ الصفحة الأولى هدف البطل مما يجعل الهدف نهاية متوقعة ومكشوفة للمتلقى المتسائل وماذا بعد ؟، هنا يكون العبء واقعا على التفاصيل التى تمر بها الكاميرا مفضية إلى نهاية إن سمحت الرواية لنا بمعرفتها أو توقعها فإنها لم تسمح لنا بمعرفة هذه التفاصيل أو توقعها بدرجة ما، هنا نحن إزاء مشهد سينمائى تتحرك فيه الكاميرا من أعلى فى ممر طويل نسبيا – زمنيا بالأساس – وفى حركتها تقوم الكاميرا بعملية مسح للممر وصولا إلى النقطة الثابتة هذه
تقنية الاستديو
فى السينما تصور آلاف الأفلام فى استديو واحد، يعد الاستديو لتصوير آلاف الأفلام وهو ما يعنى أنه قد يكون هناك ديكور واحد لفيلم واحد ولكن ليس هناك استديو واحد لفيلم واحد، وقد جعل نجيب محفوظ الحارة المصرية تقوم بدور الاستديو الكبير لعدد من الروايات، ولكنه استديو منفتح يتيح مساحة من الحركة داخل القاهرة بحيث كانت الحارة بمثابة مساحة الاستديو الذى يحتضن التصوير الداخلى وتكون القاهرة خارج الحارة بمثابة استديو خاص بالتصوير الخارجى، ويمكن رصد ثلاثة أمكنة عامة تمثل ثلاثة استديوهات كبرى وضعها نجيب محفوظ لتكون مسرحا لأحداث رواياته:
- المرحلة التاريخية: وتضم الروايات الثلاثة عبث الأقدار – رادوبيس – كفاح طيبة ولا يبتعد الأستديو كثيرا عن الحارة الشعبية التى ظهرت فى المرحلة اللاحقة فقد انحازت الروايات الثلاثة فى جانب منها إلى الشعب بوصفه مصدرا للسلطة تلك السلطة التى منحها الكاتب للحارة الشعبية الأكثر شهرة فى أعمال الكاتب
- المرحلة الواقعية داخل القاهرة: وهى المرحلة التى بنى فيها نجيب محفوظ أكبر استديو روائى عرفته الرواية العربية، فلم يكن أى من المخرجين الذين قدموا أعمال نجيب محفوظ الروائية للسينما ليغير من طبيعة الحارة المصرية أو لنقل الحى الشعبى الذى شكل نجيب محفوظ تفاصيله وتجلى فى معظم أعماله إن لم يكن كلها على اعتبار أن النسبة القليلة جدا من أعماله تمثل استثناء للقاعدة.
- المرحلة الواقعية خارج القاهرة: وتمثل ” ميرامار ” النموذج الأوفى والأوضح لهذا الجانب حيث الخروج عن القاهرة إلى الإسكندرية.
العنوان السينمائى والعنوان المتحول
مابين الرواية والسينما يقطع العنوان طريقا يصاب فيها بالتغيير أحيانا، وعلى الرغم من أن الأمر يخضع لرؤية المخرج أو السيناريست من قبله روايات نجيب محفوظ السينمائية لم يتغير عنوانها ولم يصبها التحول الذى يحدث فى العنوان ما بين الرواية والسينما فما بين الوسيطين ( المكتوب والمصور ) قد يتحول العنوان بأن يعمد المخرج أو السيناريست إلى تغيير العنوان ( مالك الحزين والكيت كات ) غير أن رؤية الكاتب التى تتطابق مع رؤية المخرج أو السيناريست تقف دون محاولة الطرف الأخير تغيير العنوان وعلى الرغم من أن تغير الوسيط يعنى غالبا تغير الرؤية ومن ثم تغير أوضاع التلقى فإن التغير الحتمى فى مجريات الرؤية لا يفرض مطلقا تغير العنوان من النص المكتوب إلى النص المنتج سينمائيا، وقد سارت السينما على نهج المؤلف الروائى دون أن تجرى تغيراتها التجارية مثلا تأثرا بما تفرضه ظروف الإنتاج والتوزيع والشباك من عوامل لها تأثيراتها السلبية على الفن وجمالياته فى كثير من الأحيان.
وعبر رواياته لم يعمد نجيب محفوظ فى عنونته إلى تلك الصيغ المعقدة ولا الصيغ المركبة وإنما جاءت العناوين الروائية تنتظمها ثلاث صيغ أساسية:
- صيغة اللفظ المفرد: رادوبيس – المرايا – الكرنك – الحرافيش – السكرية – السراب – الشحاذ – ميرامار – الطريق – قشتمر.
- صيغة التثنية: سواء بالإضافة (عبث الأقدار – كفاح طيبة – زقاق المدق – بين القصرين – قصر الشوق – قلب الليل – حضرة المحترم – خان الخليلى – أفراح القبة – عصر الحب )أو بالعطف (اللص والكلاب – السمان والخريف ) أو الصفة والموصوف ( القاهرة الجديدة ).
- صيغة التثليث: الحب تحت المطر – ليالى ألف ليلة – ثرثرة فوق النيل – يوم قتل الزعيم – الباقى من الزمن ساعة- حديث الصباح والمساء ).
وهى صيغ شديدة الإحكام تعتمد نهجا يقوم على بناء من الأسماء لا الأفعال مما يؤكد فكرة كون العنوان مبتدأ خبره النص، كما أنها تطرح صيغة سينمائية شديدة التركيز لها إيقاعها الدال تشبه الرصاصة الموجهة إلى مقصدها دون مواربة، وهو ما يؤكد حرص السينما على عناوين الروايات دون تغيير باستثناء حالات لا يقاس عليها ( الشحاذ تغير عنوانها فى الفيلم إلى الشحات، والحكاية السابعة من حكايات الحرافيش ” جلال صاحب الجلالة ” تغير عنوانها إلى ” أصدقاء الشيطان ” ) ومن الملاحظ أن الأعمال القليلة التى جرى التغيير فى عناوينها لم تحقق شهرة تنافس شهرة الأعمال الأخرى التى حافظت على نسق العنوان المحفوظى.
الاستهلال السينمائى
منذ عتباتها الأولى (لوحة الغلاف – اسم المؤلف – العنوان ) تطرح روايات نجيب محفوظ بعدا بصريا يتمثل فيما يطرحه العنوان أولا ولوحة الغلاف ثانيا من تصور يتجسد فى لوحة الغلاف التى تكون عزفا على عنصرين أساسيين: مضمون الرواية، وأبطالها، وأغلفة الروايات فى مجملها تخضع لمنطق القارئ الأول ( الفنان التشكيلى ) إذ هى أغلفة أنتجت خصيصا للنص، وهى تمثل تأثيرا للنص الذى يسبقها بمرحلة الإنتاج، وتأتى الأغلفة تجسيدا لرؤية سابقة على الغلاف، رؤية استوعبت قدرا كبيرا من معطيات النص / النصوص لذا يكون من المنطلقى أن تجسد لوحات الأغلفة معظم شخصيات الروايات، حاملة تصورا يحمله المتلقى بوصفه نموذجا بصريا للشخصية يحكم عملية التلقى، ويمكن التمثيل بنوعين من الأغلفة:
- الأول: تمثله “قصرالشوق” التى يقتصر غلافها على وجه السيد احمد عبد الجواد وصورة لجليلة والشخصيتان فى وضعيتهما يطرحان مساحة من التناقض بين جدية السيد أحمد عبد الجواد( فى حدود الصورة ) ومرح جليلة الظاهر والسيد أحمد عبد الجواد الذى كان قد ترسخ وجوده فى الجزء الأول من الثلاثية (بين القصرين ) فإنه هنا يقوم بدورين ذى طبيعة سينمائية، أولهما: كونه الشخصية السابقة المتجسدة فى ذهن المتلقى سابقا مما يجعله هنا الشخص المعروف ويقوم بدور جديد فى سياق الجزء الثانى من الثلاثية، وثانيهما: كونه نموذجا معروفا من قبل يمثل وجوده هنا نوعا من الترسيخ لوجوده السابق.
- الثانى: تمثله ” اللص والكلاب ” التى خرج غلافها عن النسق التقليدى السائد لأغلفة روايات نجيب محفوظ فلم يكتف الغلاف بتصوير ملامح لشخصية اللص مثلا كما يتجلى فى الروايات الأخرى التى تطرح أغلفتها فى الغالب ملامح أبرز الشخصيات (راجع بداية ونهاية أو المرايا أو ميرامار أو الطريق أو السراب أو غيرها من أعمال نجيب محفوظ ) وإنما جاء الغلاف متضمنا ثلاث علامات أساسية أولاها وأبرزها يدان يمثلان الجزء الفاعل فى الإنسان، ذلك الجزء الذى يختزل فى يد تطلق الرصاص من مسدس موجه نحو الكلاب، وثانيها امرأة تحمل صندوقا بيد وحقيبتها فى اليد الثانية وتنظر فى قلق كأنها تتابع ما يحدث، وثالثها فى الخلفية تبدو صورة سلويتية لكلاب وشواهد قبور.
وفق المنظور السينمائى يمكن تقسيم أغلفة روايات نجيب محفوظ فى طبعتها الأكثر شهرة (طبعة مكتبة مصر ) إلى قسمين أساسيين:
- أولهما: الغلاف الأفيشى: وهو الأفيش المتضمن تصويرا لحدث أو حركة تعبيرية تشى أو تقدم رؤية القارئ الأول (الفنان التشكيلى منتج الغلاف تأثرا بقراءة الرواية قبيل طباعتها ونشرها ) وهو غلاف له طبيعته البصرية والتعبيرية ويمثل واحدا من الطرائق المتكررة فى روايات نجيب محفوظ تلك الطرائق الجاذبة والمؤثرة فى عملية التلقى ويأتى وفق هذه الطريقة أغلفة روايات:(عبث الأقدار – رادوبيس – كفاح طيبة – اللص والكلاب – الطريق – الشحاذ – المرايا- الحب تحت المطر – الكرنك- حضرة المحترم – عصر الحب – أفراح القبة – الباقى من الزمن ساعة – رحلة ابن فطومة – العائش فى الحقيقة – يوم قتل الزعيم – حديث الصباح والمساء – قشتمر) للغلاف هنا مستويان أولهما يتصدر اللوحة ويتضمن صورة أقرب للبورتريه، وثانيهما فى خلفية اللوحة وهو أقرب للتعبير عن حدث ما أو معنى ما يجسده الفنان التشكيلى مستخلصا إياه من خلال الرواية وأحداثها المتعددة مما يجعل من اللوحة أفيشا مكتمل الأركان الفنية من لون وتصوير ومحاولة اختزال الكثير من المضامين والسعى لتوظيفها فى التأثير على المتلقى بصريا لجذب انتباهه بالقدر الذى يدفعه إلى تلقى النص أو محاولة الاقتراب من عالمه، وسيميولوجيا
- ثانيهما: الغلاف البورتريهى: وهو غلاف يميل إلى اعتماد ملامح شخصية أو أكثر بطريقة الكلوز أب close up بمفهوم السينما ( [15] ) حيث يطرح الغلاف صورة بورتريهية لشخصية أو أكثر من شخصيات الرواية كما فى أغلفة الثلاثية وقلب الليل والمرايا وغيرها من أغلفة تشكل النموذج الأكثر ظهورا فى مشروع الكاتب.
ينتظم الرواية عدد من الاستهلالات الأساسية يمكن ترتيبها تنازليا:
- الاستهلال الوصفى: وهو استهلال بصرى بالأساس، يعمد إلى طرح مجموعة من التفاصيل الذهنية التى يروح ذهن المتلقى فى تركيبها للوصول إلى صورة تمنحه قدرا من الدخول فى طقس عالم النص، حيث الاستهلال يحرك الكاميرا على مساحة محددة من المكان منتجة مشهدا يشكل سمات المكان وأبعاده ومنتجة وظيفة تأهيل المتلقى لما سيحدث فيما بعد كما نجده فى “القاهرة الجديدة “:” مالت الشمس عن كبد السماء قليلا ولاح قرصها من بعيد فوق القبة الجامعية الهائلة، كأنه منبثق منها إلى السماء، أو عائد إليها بعد طواف، يغمر رؤوس الأشجار والأرض المخضرة وجدران الأبنية الفضية والطريق الكبير الذى يشق حدائق الأورمان بأشعة لطيفة: امتصت برودة يناير لظاها، وبثت فى حناياها وداعة ورحمة….فى السماء دارت حدآت حيارى: وعلى الأرض انطلقت جماعات الطلبة.. ” ( [16] ).
- الاستهلال السردى: حيث التركيز على الحدث والدخول فيه مباشرة وهو استهلال أقرب إلى طبيعة السينما التى تميل إلى الدخول فى الحدث مباشرة وتراهن على حرص متلقيها على اكتشاف الحدث مبكرا بثا للقدر الأكبر من التشويق اللازم لاستمرار التواصل مع المتلقى، فى الثلاثية بأجزائها الثلاثة يأتى الاستهلال مباشرا فى طرح الحدث:
- فى ” بين القصرين”: عند منتصف الليل استيقظت، كما اعتادت أن تستيقظ فى هذا الوقت من كل ليلة بلا استعانة من منبه أو غيره ” ( [17] ) “
- فى “قصر الشوق“: “أغلق السيد أحمد عبد الجواد باب البيت وراءه، ومضى يقطع الفناء على ضوء النجوم الباهت فى خطوات متراخية وطرف عصاه ينغرز فى الأرض التربة كلما توكأ عليها فى مشيته المتثائبة ” ( [18] ).
- فى السكرية”:” تقاربت الرءوس حول المجمرة وانبسطت فوق وهجها الأيدى، يدا أمينة النحيلتان المعروقتان، ويدا عائشة المتحجرتان، ويدا أم حنفى اللتان بدتا كغطاء السلحفاة، وأما هاتان اليدان الناصعتان البياض الجميلتان فكانتا يدا نعيمة وكان برد يناير يكاد يتجمد ثلجا فى أركان الصالة ” ( [19])، تجمع الاستهلالات الثلاثة على عدة أمور، أولها: الاستهلال السردى فى اعتماده على حدث أولى يمثل المادة الخام لما تطرحه الرواية من نظام سردى خاص تتشكل منه الأحداث الروائية، وثانيها الاستهلال السينمائى بتقديم الشخصية بوصفها النظام الاستراتيجى للسرد فالمتلقى حال متابعته لمشهد ما يبحث أول ما يبحث عن الشخصية من حيث هى محركة للحدث أو يحركها الحدث، وعندما تنفتح عدسة الكاميرا عن مشهد ما يروح المتلقى يبحث عن الإنسان فإن وجده فإنه يبحث فى طبيعته وما سيكون عليه دوره فى نطاق المشهد وإلى أى مدى يمكن لملامح فعله أن تقدم مادة أولية من شأنها أن تنتج عناصر سردية ذات أهمية فى سياق السرد
- الاستهلال الحوارى: وهو استهلال صوتى بالأساس لا يقوم على حوار بين شخصيتين بالمعنى التقليدى للحوار فقد يكون حوارا صامتا تقوم الشخصية فيه بمحاورة العالم من حولها فى لحظة ما، و حيث يعمد النص إلى محاولة التقاط التفاصيل لاستكشاف العالم عبر الحوارى الذى يعتمد خاصية الإخبار الكاشف عن المتحاورين أولا وعن طبيعة النص وعالمه ثانيا، فى “قلب الليل ” يبدأ النص بصوتين تتوسطهما مساحة من السرد والوصف:” قلت وأنا أتفحصه باهتمام ومودة: – إنى أتذكرك جيدا.
انحنى قليلا فوق مكتبى وأحد بصره الغائم. وضح لى من القرب ضعف بصره، نظرته المتسولة ومحاولته المرهقة لالتقاط المنظور وقال بصوت خشن عالى النبرة يتجاهل قصر المسافة بين وجهينا وصغر حجم الحجرة الغارقة فى الهدوء: حقا ؟؟ لم تعد ذاكرتى أهلا للثقة، ثم إن بصرى ضعيف ” ( [20] ).
الاستهلال هنا يعمد إلى توظيف الأصوات لتقديم المعلومات الأولية فى سياق المشهد السينمائى قبيل تشكله، وهى تقنية استثمرتها السينما الحديثة فى نطاق تجريبى يتجاوز التقنيات التقليدية ( [21] )
رسم الشخصية
عبر تجربته الروائية وعلى مدار مشروعه السردى، نجح نجيب محفوظ فى رسم عدد غير قليل من الشخصيات التى لم تكتف بوجودها الورقى داخل النصوص الروائية أو القصصية، وإنما تجاوز بعضها هذا الوجود إلى وجود يقارب الوجود التاريخى خارج النص، وفى مقدمة هذه الشخصيات السيد احمد عبد الجواد بطل الثلاثية ونموذجها الجماهيرى، أو ” سى السيد ” النموذج الذكورى لعالم الثلاثية بكل ما يطرحه من تفاصيل ذات طبيعة تصويرية للشخصية الاجتماعية ( لاحظ أن الجميع يتعامل مع سى السيد عبر صيغة خطاب تسند إلى أمينة المرأة / الزوجة بكل ما يحمله الخطاب من دلالات الطاعة والاعتراف بسيادة الرجل، ولسنا هنا بصدد مناقشة جوانب السيادة ومساحات سيطرتها وإنما للتأكيد على جماهيريتها على الرغم من كونها شخصية ذكورية ليس لها جاذبية الأنثى مثلا كما هو الحال عند شهرزاد وكلاهما ( سى السيد وشهرزاد ) تجمع بينهما سمة أساسية كونهما شخصية ورقية أخذت قوة الوجود التاريخى وبات كل من يتعامل مع أى منهما يقاربها من منظور اجتماعى يطرحها بوصفها شخصية كانت هنا يوما وتحركت على الأرض فى لحظة تاريخية ما، وقد كان للاختيار المناسب لممثل من نوعية ” يحيى شاهين ” دوره فى ترسيخ الشخصية عبر تجسيدها على شاشة السينما .
إن تصور الروائى للشخصية يفضى إلى المعنى المجرد / القيمة، وتصور المخرج يفضى إلى تجسيد الشخصيات القادرة على تجسيد القيمة، ومن ثم يهتم المخرج بدقة اختيار الممثل المناسب للوصول إلى تصور الروائى ممررا بتصور المخرج الذى يكون عليه ترجمة لغة المؤلف فى إشارات وحركات يوجه من خلالها الممثل وصولا إلى مستوى أعلى من ترجمة اللغة السردية، وهو ما يجعل الممثل يبدو علامة سينمائية لها قدرتها فى إنتاج الدلالة كما بثها الروائى وتصورها المخرج وترجمها الممثل، وكثير من حركات الممثلين تكون شديدة الدلالة على قدرات المخرج فى تصور الشخصية كما تطرحها اللغة السردية، يؤكد هاشم النحاس فى مقاربته رواية “بداية ونهاية ” سينمائيا للمخرج القدير صلاح أبو سيف:” أبرز ما يستخدمه صلاح ابو سيف من عوامل الصورة السينمائية هو الممثل………..ولا يرجع ذلك إلى قدرة صلاح أبو سيف وحدها على اختيار الممثل المناسب للدور، ذلك أنه من الممثلين من يقوم بنفس الدور تقريبا مع مخرج آخر ولا يصل إلى نفس النتيجة وإنما يرجع أيضا إلى قدرته على توجيه الممثل فى حركاته وإشاراته بما يتفق والشخصية التى يقوم بها…… ولأنه يختار الممثل جيدا وفقا لمفهوم الشخصية الواضح فى ذهنه ويعرف كيف يوجهه وكيف يختار ملابسه وكيف يوظف بقية العناصر السينمائية الأخرى لتدعيم دوره، نجد من الممثلين من وصل إلى أرقى مستوياته وقدم أفضل أدواره فى أفلام صلاح أبو سيف ” ( [22] ).
ولا يعتمد نجيب محفوظ طريقة واحدة فى رسم الشخصية عبر أبعادها الثلاثة وإنما يعمد إلى تنويع الطرائق التى تبدو ألوانا فى ريشة الرسام، ويكفى الإشارة إلى واحدة من طرائقه الفذة فى رسم البعد الجسمانى لشخصية عم كامل بائع البسبوسة فى ” زقاق المدق ” حيث يرسمه جسمانيا قياسا للكرسى الذى يجلس عليه:” ومن عادة عم كامل أن يقتعد كرسيا على عتبة دكانه – أو على الأصح – يغط فى نومه والمذبة فى حجره، لا يصحو إلا إذا ناداه زبون او داعبه عباس الحلو الحلاق، هو كتلة بشرية جسيمة، ينحسر جلبابه عن ساقين كقربتين، وتتدلى خلفه عجيزة كالقبة، مركزها على الكرسى ومحيطها فى الهواء ذو بطن كالبرميل، وصدر يكاد يتكور ثدياه، لا ترى له رقبة فبين الكتفين وجه مستدير منتفخ محتقن بالدم………..” ( [23] ) ومع متابعة الملامح التى يرسمها السارد تتجسد صورة الشخصية فتترسخ فى تصور متلقيها وتمثل نوعا من الدافع لاختيار المخرج ممثليه وفق مقاييس الشخصية المرسومة سرديا، وهو ما ينطبق بدرجة ما على وصف السارد للمكان فى علاقته بالشخصية ( راجع وصفه لصالون الحلاق عباس الحلو بعد رسمه للصورة للملامح الأولى لشخصية عم كامل ).
إن الدراسة المتأنية التى يتوفر لها الوقت والمساحة لقادرة على الكشف عن كثير من العناصر السينمائية فى أعمال أول أديب يكتب للسينما وأكبر روائى مثلت أعماله زادا ثريا للشاشة الفضية، إنه نجيب محفوظ وإنها رواياته الخالدة التى تستجيب لأى منهج نقدى ولكن استجابتها لا تعنى أنها تبوح بكل أسرارها وإنما تبقى تتضمن جواهرها من الأسرار وإن تعددت المقاربات واتسعت رؤاها وادعى أصحابها أنهم أحاطوا بجوانبها وتفاصيلها.
………….
هوامش وإحالات
[1] – لأن الكتابة عمل فردى والسينما عمل جماعى يختلف أمر التلقى ففى القراءة تكون فردية الكاتب عاملا فاعلا فى معرفته وقد يكون دافعا للقراءة فى المقام الأول عملا بالقاعدة القائلة إن المعرفة بالفاعل تدعو لمعرفة مدى جودة الفعل فالكاتب العظيم صاحب الإنجاز يجعل اسمه محط ارتحال القراء الباحثين عن السرد وفيه، خلافا لذلك لا ينشغل المتلقى بالكاتب بوصفه المنجز الأول للعمل وإنما ينشغل بالعضو الأخير فى فريق الإنجاز، نعنى الممثل / الممثلين فكم من أعمال سينمائية عظمى لا ينشغل متلقيها بمعرفة كاتبها ولكنه يعرف الممثل / الممثلين.
[2] – راجع في ذلك على سبيل المثال:
– سمير فريد: نجيب محفوظ والسينما – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 1990.
– د. عبد التواب حماد: السينما في أدب نجيب محفوظ – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2003.
– محمود قاسم: نجيب محفوظ بين الفيلم والرواية – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2011.
– هاشم النحاس: نجيب محفوظ على الشاشة، المشكلة الجمالية للإعداد السينمائى من الرواية إلى الفيلم – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1975.
– ـــــــــــــــــــــ: نجيب محفوظ في السينما المصرية – وزارة الثقافة – القاهرة 1988.
[3] – د. عبد التواب حماد: السينما في أدب نجيب محفوظ – مرجع سابق – ص 24وما بعدها.
[4] – جمال الغيطانى: نجيب محفوظ يتذكر – دار المسيرة – بيروت 1980– ص 99.
[5] – راجع خالد عاشور: البحث عن زعبلاوى – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2008، حيث يعقد الباحث خمسة فصول هى على التوالى: الناقد الأول – الناقد الأيدلوجى – الناقد النفسى – الناقد النصى – إشكالية مراحل الإبداع، مستعرضا تنوع أشكال التلقى ومستوياته بين النقاد المختلفين أو بين نقاد المذهب الواحد ومقدما شهادة على ثراء النص المحفوظى وتعدد مستوياته.
[6] – راجع: د. عبد التواب حماد: السينما في أدب نجيب محفوظ ص 24-30.
[7] – راجع: لسان العرب: مادة وصف.
[8] – نجيب محفوظ: الشحاذ – مكتبة مصر – القاهرة ص 15.
[9] – نفرق بين المصطلحين: الوصف والصفة، فالأول يمثل الجملة الوصفية المقابلة للسرد والتى تشكل عنصرا يتضافر مع السرد في تشكيل بنية النص، في حين يأتى الثانى محددا مستوى أدنى من الصفات النحوية التى قد يشعر المتلقى أنها فقط لتحديد أنواع متعددة من العناصر التى يفصل بينها النعت في إشارته للتعدد والتحديد في آن واحد، وكثيرا ما يقع الروائيون وكتاب السرد في فخ الصفات غير الموظفة لمجرد أنها تطرح سمة قد لا يحتاجها النص، خلافا لجملة الوصف التى من النادر أن تطرح نفسها بالطريقة نفسها .
[10] – راجع: د. عبد التواب حماد: السينما في أدب نجيب محفوظ ص 31-35.
[11] – نجيب محفوظ: حضرة المحترم – مكتبة مصر – القاهرة ص 167.
[12] – السابق ص 191.
[13] – د. عبد التواب حماد: السينما في أدب نجيب محفوظ ص39.
[14] – نجيب محفوظ: القاهرة الجديدة – مكتبة مصر – القاهرة ص 59.
[15] – close up ( أى جعل صورة الوجه تغلق أو تغطي كل مساحة الإطار وهي كلمة مستعارة من الإنكليزية تعني الصورة المضخمة لوجه ما بعكس “أدرج(insert) ”
لصورة مضخمة لشيء ما(راجع: مارى – تريز جورنو: معجم المصطلحات السينمائية – ترجمة: فائز بشور )
[16] – نجيب محفوظ: القاهرة الجديدة – مكتبة مصر – القاهرة ص 5.
[17] – نجيب محفوظ: بين القصرين – مكتبة مصر- القاهرة ص 5.
[18] – نجيب محفوظ: قصر الشوق – مكتبة مصر – القاهرة ص 5.
[19] – نجيب محفوظ: السكرية – مكتبة مصر – القاهرة ص 5.
[20] – نجيب محفوظ: قلب الليل – مكتبة مصر- القاهرة ص 3.
[21] – في فيلم شيرين (2008) للمخرج الإيرانى كياروستامى يقوم الفيلم على مجموعة من اللقطات لنساء تشاهدن فيلما لا نراه نحن ونظل طوال الفيلم نتابع تعبيرات وجه النساء الصامتات فقط نستمع إلى قصة شيرين المعروفة في التراث الفارسى، مستثمرا قدرات الصوت في طرح مضمون الفيلم.
[22] – هاشم النحاس: نجيب محفوظ على الشاشة – مرجع سابق – ص ص 149-150.
[23] – نجيب محفوظ: زقاق المدق – مكتبة مصر- القاهرة ص 6.