د.خالد محمد عبدالغني
تظهر الأم كثيرا في ديوان “يمشي كأنه يتذكر” للبهاء حسين “لم تكن تفعل شيئا غير الشحاذة والبكاء، لطالما نهرتها أمى” ، وهكذا يظل الحب الأول – الأم – سبيلا للكشف والثقة، بقدر تمثل العلاقة بالآخر باعتباره خير سبيل للتطور السوي الذي يؤدي لإحساس الأنا بشيء آخر غيرها، إنه الأمر الذي يعني الانتقال من عالم داخلي إلي عالم خارجي يلزم بالكشف عما بالداخل والانتقال من اللانضج للنضج والذي يعاش بوصفه جدلاً معرفياً يجعل من تكوين الفرد شيئاً ذا تاريخ، مما يلزم بأن نضع يدنا علي مثالب لا شعورنا فالتاريخ مسؤولية وليس مجرد وجود هامشي. هنا تبرز لنا عبارة أفلاطون “الحب هو المطلع من اللاوجود إلي الوجود”، باعتبار الوجود مكانية وزمانية معاشتين هما نسيج الحياة، فالآنية عملية تزامن بذاتها إذ هناك ماضي وحاضر ومستقبل، فكيف نمسك بالمستقبل، والماضي مكبوت في اللاشعور لا يبوح لنا إلا بما هو هامشي؟!. إن عظمة الأنا – آنئذ – كلبنة أساسية هي أن تفصح لا أن تخفي أو تهرب من مواجهة أمسها ولن أن نعرف الأمس إلا بالتذكر ، وهنا تكمن دلالة العنوان “يمشي كأنه يتذكر ” وهنا تكون الفاعلية الكبرى لتأثير الماضي وهو أمس الشخصية وهو طفولة المؤلف – الشاعر – ، وإذا كان يمشي متعثرا في حاضره ، مستندا إلى عصا – عكاز- فإن تذكره سيكون كالمشي به كثير من الصعوبات وفي عنوان القصيدة : ” أسند ذاكرتى بعكازك” وفي ختامها: ” كأنك عكاز يسندنى كلما أردت أن أتذكر” ، كدلالة على صعوبة التذكر و تعثره كما هي حالة المشي لمن يحتاج لعكاز..
وصورة الجسد هذه تحضر بقوة أيضا في هذا الديوان ولذا فإن التأكيد على صورة الجسم وأهميتها الذى نجده فى كتابات جاك لاكان عن مرحلة المرآة موجودان أيضاً عند فرويد حيث يذكر فرويد فى كتابه الأنا والهو “إن الأنا هو أنا جسمى وليس مجرد كيان سطحى بل أنه نفسه إسقاط للسطح”، ولذا فتأكيد لاكان على التوحد والشخصية الموضوعية للأنا يكرر استنتاج فرويد وبخاصة في أعماله التي أعقبت (الأنا والهو), الخاص بأن الأنا هو نتاج توحدات ويتم شحنه انفعالياً بواسطة الهو كموضوع داخلى متعلق بالحب. وقد يكون الشئ الأكثر إثارة للدهشة هو ذلك التأكيد الموجود فى أحد نصوص فرويد على ما طرحة لاكان بعد ذلك عن دور الإفتتان المرئى فى تكوين الأنا. وفى كتاب فرويد “علم نفس الجماعة وتحليل الأنا” يربط تكوين وشخصية الأنا الفردى بالعمليات النفسية العاملة فى الجماعة. فهذه المقارنة بين سيكولوجية الفرد وسيكولوجية الجماعة هى نفسها ذات مغزى فى علاقتها مع رؤية لاكان, كما تضع نظرية مرحلة المرآة هوية عميقة للأنا والآخر فى أساس الحياة النفسية. فرؤية لاكان لأصل البناء النفسى تجعل من الصعب تميز الفرق بين الذات والآخر، ولذا فهى تميل إلى سد الفجوة بين سيكولوجية الفرد وسيكولوجية الجماعة منذ البداية الأولى. لكن المناقشة فى كتاب فرويد “علم نفس الجماعة وتحليل الانا” تلمس الموضوعات المتعلقة بتصور لاكان عن الخيال، فحقاً إن كتاب فرويد هذا تتبع بين صفحاته ومصطلحات مفهوم لاكان. حيث يقال إن سيكولوجية الجماعات، والتى يسميها فرويد”أقدم سيكولوجية نشرية” تصويرية بشكل أساسى. فالجماعة تفكر فى إطار من الصور… ومشاعرها دائماً تتراوح بين البساطة والمبالغة. لذا فالجماعة لا تعرف الشك أو عدم التأكيد. “فخلال كتاب فرويد كله، فإن الرابطة التى تربط الفرد بالجماعة.. يتم مقارنتها بالتنويم المغناطيسي. وترتبط بحالة “الافتتان” التى يجد فيها الشخص النائم نفسه بين يدي المنوم المغناطيسي. فهذ الإفتتان هو بالرغم من كل شئ وظيفة كون الشخص يَنْظُر ويُنْظَر إليه. – وهى قوة خيال. وهنا نأتي لصورة الجسد الذي يجري وليس لديه القدرة على الجري ، والصديقة التتي تحتاج للعكاز لمساعدتها على المشي ، وكذلك الحاجة لمن يدلك الظهر وهو فعل – حركة التدليك – وكل ذلك اشارة لجسد ينتابه العجز الحركي .
“كل ما عليك أن تنتظر أعداءك
لا تجر وراءهم بالحجارة
وقتها ستحوش خطواتك
لصديقة تمشى بعكاز
تحتاج لأن تبدل ساقها
كما تحتاج أنت لمن يُدلك ظهرك”
وهنا تظهر ملامح الجسد الذي يشبه الأحدب وهو نفسه الشكل الذي تظهر عليه العصا – العكاز- الدائري الرأس الذي يستخدم عند المساعدة في المشي فالأحدب يشبه العكاز والاثنين معا يشبهان الجسد حين يتعب العمود الفقري ويتقوس وينحني.
“مع ذلك دعينى أستبدل عجزك بعقدى
بقربة الماء الساخن أسفل الظهر
وأحيانًا تحت العنق
حيث أبدو مثل أحدب”
وتكتمل صورة الجسد باليدين الذين تفقدان وجودهما فيكون الجسد أكثر تشوها وأكثر ضغفا .
“لماذا تركت يدك
مقطوعة إلى جوارك فى الشارع
هل كنت مضطرة
أم أن يدك ّ أرادت أن تتطفل على الموت ّ
أن تغير هيئتها ربما صارت أصابعها ضفائر”
ثم صارت الساق التي تشبه العصا والعكاز وتشبة يد الفأس ليس لها فائدة في اللعب الرمزي و اللعب الحقيقي
“جعلت من ساقك فأسا تحرث بها الشوارع
ساقك التى تصلبت الآن من الأملاح
ولم تعد قادرة على إحراز الهدف”
وفي قصيدة بعنوان “أصطاد أعضاءها بصوتى” نعود لصورة الجسد لدى الآخر المحبوب حين يقوم بالتعرف عليه من خلال الصوت الذي يصبح كسنارة أو شباك محكم الصنع والأداء .
“غريب أمر جسدى
يماطل المسرّات فى الشارع ”
إذن الشاعر يعترف بغرابة جسده وبالتالي بانشغاله بذلك الجسد ويعشق امراتين واحدة منهما تستخدم العكاز المعبر عن الجسد .
“أتعلق بامرأة تغسل ملابس زوجها من أجلى
وأخرى تمشى بعكاز
ليس من السهل أن نفهم الساق العاجزة
ولا الخطوة.”
ولأن العصا كالجسد فقد يكبر ويهرم ويشيخ
“كبر عكاز صديقتى
ترمل معها
حتى إن أحدهما لا يجرؤ على اجترار ماضيه دون الآخر.”
وهنا حدث التماهي بين العكاز والجسد وكانهما شيء واحد. ثم تتأكد دلالة الساق على الجسد كأنه جزء من كل وكأن العكاز ايضا دلالة على الجسد فيقول :
“أن تصبح لك ساق سليمة
تتجول عنك فى الماضى
تقطع المشاوير التى لم تقطعيها
أو تلبس كعبا عاليا، تمشى بلا عكاز
أو خجل
قد نعرف خطة الله بشأن سيقاننا
وقد لا نعرف”
وتتأكد العلاقة الثلاثية بين العكاز والجسد والساق مرة أخرى
“المؤكد أن العكازَ لديه أحزانه
فهو ليس بساق معوقة
حتى والقطط هى الأخرى
تشكو لنا حني تتمسح فى أرجلنا
دون تفرقة بني عكاز وساق”
ولأن أمر الجسد والعكاز ودلالتهما على الأنا فقد جاء وفق “آلية إجبار التكرار ” الحديث عن ذلك كله في ختام الديوان وما هذا التكرار إلا للتأكيد على أهمية صورة الجسد الذي أصبح يعتمد على العكاز في مشيه وفي تذكره أيضا .
“وأنا أتملص من جسدى
وكل أعضائى توشك على التذمر
لا أريد أكثر من عكاز لا يجتر خطواته
لا يعرق عقب التذكر
مثل يدى”.
فالإنسان بدءا من ميلاد نفسي تتراكم معطياته ما بين صورة جسم تبدأ وئيدة الخطي فم – يد وخبرة انفصال مع مشارف الشهر الثامن وتوحد الطفل مع نفسه للمرة الأولي ، والذي يطلق عليه لاكان الفطنة الأولية إبان المرحلة المرآوية (ما بين الشهر الثامن إلي الثامن عشر) وقبيل التموضع في دياليكتيك التوحد بالآخر بل وقبل أن تأتي اللغة وتعطيه قيمة الذات ، حيث سبق المجتمع علي الفرد ، ودور الأم المانحة شرعية الوجود ، ورغبات الطفولة الأولي وتثبيتاتها ، وتمزقات صورة الجسم التي تعطي الخلفية الأساسية لكل متخيل ، وتتتابع دينامية الصورة عبر مراحل النمو المختلفة ، وعالم المكبوت وميكانيزمات الدفاع في متصل مختلف الدرجة من السوية – اللاسوية وذلك في مستوي معرفي لا نظن أن يستقيم في المتخيل ومستوي الواقع دون اكتمال لصورة جسد هي أمل مرجو . وفي ديوان “يمشي كأنه يتذكر” تظهر تلك الذكريات الخاصة بالطفولة وكذلك التوحد بالآخر وهي الأم والحبيبة منذ القصائد الأولى للديوان وطوال الديوان نفسه :
“كنت صغيرا
ويداى تساعدان جدى فى السقاية
أو تقلده، وهو يرفع الأذان،
إذ تحيط بفمى مثل قوسين
وأحيانًا تجس معى الهاوية
أقول: يا جدتى لا تبكى فوق البئر
كى لا تمّسك
فيرن صوتى فى القاع
ويرتد لى، متشنجا أكثر”
ويظهر الحنين لمواقف في الطفولة سواء كانت محبطة أو مفرحة أو مؤلمة وهي كثيرة أيضا منها :
“ليس مهما أن تطل من نافذة
كونك يتيما إلى هذه الدرجة
لا يعطيك الحق فى أن تجعل من طفولتك مناحة
يكفى أنك عرفت نفسك
أنه عليك أن تلعب َ ليربح الآخرون الجائزة”.