كان الطريق الآخر أطول وأكثر مللا من طريق السكة الحديد المختصر..كان من الممكن أن أتخذه في الصباح وأنا ذاهبة, ولكن لم يكن من الممكن أبدا أن أعود منه لأنه الطريق المفضل لدى حسن.. زميلي في الفصل والذي كان يسكن بعدنا بشارعين. كنت أسير معه شارعا منهم وأتركه عند الآخر كي نُزيد قليلا من الوقت الذي نتمشاه معا أثناء العودة..
كنت أنا وحسن نتنافس في داخل الفصل على المركز الأول في كل شيئ.. كنا نتسابق خاصة في حل مسائل الحساب من يحلها أولا فهو الرابح
في مرة امتدحني الأستاذ زكريا موجها له الكلام :
ـ وفاء أشطر منك
فبكى حسن واندهشت يومها. لو كان الأمر معكوسا لربما شعرت ببعض الغيظ ولكني لم اكن لأبكي!!.ولكن اندهاشي لم يمنعني يومها من إخراج لساني له كعادتنا معا.
في الفسحة كنا نلعب لعبة الطيارين ..إما أن يطير الأولاد وتُمسك بهم البنات او العكس, في كل مرة كانوا يطيرون فيها كنت أركض خلف حسن لأمسك به، كنت أشعر بزهوة الانتصار حين أمسك به وأضمه لزمرة الأولاد الممسوكين. كان أحيانا ما يتخابث عليّ ويطلب مني أن أتركه حتى يُعدل من هندامه الذي فسد من سرعة الركض واللعب وحين كنتُ أسمح له بذلك كان يغافلني ويركض مرةً أخرى.
كنا نتشاجر ونتخاصم كثيراولكن في نهاية كل يوم كنتُ ألملم حقيبتي وأنتظره عند باب الفصل لنمضي معا في طريق العودة.
كنا نفترق عند شركة بيع المصنوعات والتي كانت وقتها تعتبر من أكبرالمتاجر الموجودة ببلدتنا.كانت تتكون من خمسة طوابق تقريبا. وهناك في الداخل كانت توجد نجفة كبيرة الحجم, يمتد طولها من الطابق الخامس وحتى الأرضي. كنتُ أتحايل على أمي لتأخذني معها كلما ذهبت إلى هناك. كنتُ أحبُ الفرجة على تلك النجفة العملاقة وأتابع جمالها أثناء صعودي على السلم الذي كان يلتف حولها كحارس.
كانت هناك بعض لعب الأطفال المعروضة في فاترينة الشركة, كنا نقف طويلا أنا وحسن أمامها. أنا أتأمل لعبة العروسة ذات الثلاثة فساتين وحقيبة اليد والمشط, والحذاءين الصغيرين, وهو يتأمل لعبة كرة القدم المثبتة على طاولة يخرج من جانبيها عدة أذرع للتحكم باللاعبين والكرة. كنتُ أصف لعبته بالسخيفة ويصف لعبتي بالساذجة.
كنتُ أحيانا أقف أمام الفاترينة لساعةٍ كاملة أتأمل العروسة وأتخيل نفسي وأنا أغير لها فساتينها وأخذيتها, ثم أمشط لها شعرها الملون, ثم كنت أشعر بالأسى كلما وقعت عيني على الورقة البيضاء الملصوقة على اللعبة. سبعةٌ وعشرون جنيها كان هذا المبلغ أكبر حتى من أن أحلم بالحصول عليه, فلم يكن مصروفي وقتها قد تجاوز الخمسة وعشرين قرشا. وكانت فكرة أن أطلب من أبي أن يشتريها لي هي فكرة مرفوضة تماما ..فقبل ذلك بعامين, حين كنت في السابعة اصطحبنا أبي أنا وإخوتي لأحد محلات لعب الأطفال الكبيرة وطلب من كلٍّ منا أن يختار لعبة على مزاجه. وحين اخترتُ أحد العرائس رفضها أبي بسخرية مدعيا أنني لم أعد صغيرة لألعب بتلك الألعاب التافهة …يومها أعدتُ العروسة لمكانها, وعاودت البحث ولكن هذه المرة كنت أبحث عن لعبة تناسب مزاج أبي.
في أحد الأيام, كانت أبلة خيرية مدرسة الدين توزع علينا نتائج اختبار الشهر …منحتني ورقة الاختبار الذي صححته للتو وهي غاضبة…لقد أنقصتني أربع درجات من عشرة …أصبتُ حينها بالذهول كنت أعرف أنني لم أخطئ إلا في إجابة سؤال واحد…لكنها تعنتت معي في السؤال الخاص بمعجزات سيدنا عيسى . كنت أحفظ المعجزات جيدا, كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخبركم بما تدخرون في بيوتكم…لقد كتبتها هكذا بالضبط لكنها لم تحتسب لي أية درجات …وحين سألتها تجهمت في وجهي وأجابتني في فتور :
مكتبتيش “بإذن الله” بعد كل معجزة
انعقد لساني ولم اتمكن من الرد عليها وشعرت بالحنق والظلم خاصة بعدما عاقبتني بأربعة خبطاتٍ على كفي . لم أبك بعدها كالآخرين كل ما كنتُ أشعر به هو كرهي لتلك المعلمة وتمنيت يومها لو تموت أو لا تدخل ثانيةً إلى فصلنا.
في نهاية اليوم الدراسي انتظرت حسن عند باب الفصل ككل مرة ولكنه ابتعد عني مسرعًا
ـ مش هنروح مع بعض؟
ـ مبروحش مع عيال خايبة
حينها فقط دمعت عيناي وسحبتني قدماي إلى الطريق الأطول الذي لا أفضله كي لا أسير في نفس طريقه. عدة أيام لم نتكلم فيها معا ولو نصف كلمة… حتى في الفسحة كنتُ لا أنزل إلى حوش المدرسة كي لا أشاركهم اللعب…كنتُ أكتفي بالفرجة عليهم من النافذة. وأحمل حقيبتي عند انتهاء الحصص وأمضي مسرعة قبل أن ينتهي هو من جمع كتبه وكراساته. حتى كانت مسألة الحساب التي لم يعرف حلها أحدٌ سواي في الفصل , ليعاود أستاذ زكريا الكَرة وينظر إلى حسن مجددا:
ـ وفاء أشطر منك
لم يبك حسن يومها, حتى لأني اندهشت لما رأيت ابتسامته. انتهى اليوم الدراسي ووجدته قبلي عند الباب
ـ مش هنروّح مع بعض؟
فأجبته في عتاب : ماشي
وحين وصلنا إلى الفاترينة التي سنفترق عندها …نظر إلى مبتسما :
ـ على فكرة لعبتك حلوة.