الطابق العلوي لمقهى المحطة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

المجد في الأسفل والكآبة في الأعلى... ف.نابوكوف

صديقتي العزيزة،

بين  التحية  والشكر لك،

 أود أن أكتب إليك أيتها العزيزة( وليسمح لي  سي أحمد بوزفور ، ذاك النادر الغالي، بأن أستعير كلام راويه:' العزيزة  هنا بمعنى عزيزة فعلا' *) لأخبرك بأن الطابق العلوي لمقهى  المحطة الذي كنت أرتاده قد حولوه إلى مسجد. كان طابقا واسعا له  شرفة  مفتوحة على ثلاث جهات  و في زاوية  شبه معزولة يوجد صنبور كنت أفتحه كلما وجدت مذاق ماء قنينة Ciel حجم نصف لتر حرّيفا في فمي. أنا رجل مَبْلِيٌّ و عاديٌّ حد البلاهة. لا أحتاج إلى أريكة مريحة لأقرأ أو أكتب. أحتاج فقط إلى 'ماء صالح للشرب'  أضطر، بحكم هذه الرقابة القاتلة اللعينة ، أن أضعه حين أشتريه في ميكة كحلاء سميكة . و أحتاج إلى  صمت، كثيرا من الصمت، و طابق مقهى علوي أقتل فيه الوقت و أقول لي فيه أحيانا:

ضيعت حياتك في هذا القبر يا خالَ الخلاء.

حولوه يا صديقتي إلى مسجد و لم أتمكن هذا المساء من الاختلاء بلوليتا (شرعت في قراءتها البارحة فقط).

   حولوا ذلك المكان الذي كنت  أمارس فيه عادتي المسائية. عادتي العلنية و السرية.  أقرأ و أكتب بينما أرقب العصفور الذي تستهويه المرآة، الحافلة التي تمر في الساعة السادسة و النصف مساء، وتلك التي تتوقف في محطة الوقود في الساعة السابعة و الربع و ينزل مسافروها ليفرغوا مثانتهم في مرحاض الطابق السفلي، و بائعات هوى  يشربن عصير التفاح ، مباشرة من الكأس ، على حساب عمال الضيعات المتعطشين للحب( أقصد شيئا آخر غير الحب) و الزيادة في الأجر دون الانتماء إلى نقابة  خوفا من الطرد.

و لعلمك يا صديقتي فمالك المقهى الذي حول ذلك الطابق العلوي إلى مسجد لا يترك نادلا  يعمل في مقهاه لأكثر من شهر.

 الحربائي، يزعم أن تبْديل الوجوه ، كما تبديل المراقد، راحة.

   أكتب إليك  يا صديقتي  الغالية العزيزة (و ليسمح لي سي أحمد مرة أخرى أن أعود إلى راويه. العزيزة  هنا بمعنى… بأي معنى؟…بأي معنى…**)  لأخبرك ، بيني و بينك، بأنني قد عزمت على أن أصعد  غدا إلى الطابق العلوي لنفس المقهى حيث صور الكعبة  و المسجد الأقصى معلقة على الجدار. هيأت لذلك كل شيء. سروالي الأسود الجديد(حدثتك عن قصة حصولي عليه) قميصي الأبيض ذي الياقتين الزرقاوين، و بين الحزام و البطن وضعت قنينة حقيقية (جربت لأتأكد من بقاء القنينة هناك مخفية دون أن يراها أحد تنزلق  في غفلة مني عبر العانة وصولا إلى الحذاء). قنينة مسطحة تشبه تلك التي يخرجها رجل كاوبوي من جيب سترته الجلدية. ثم يتلمظ مباشرة بعد أن يتجرع شربة خفيفة  منتشيا بالرصاصة القاتلة التي أطلقها على أفعى مجلجلة. .

وسأشرب خلسة نكاية في صاحب المقهى المتدين الحريص على نصيبه في الدار الأولى و الآخرة. نكاية في ذلك الخال الذي له وجهان. سأمسح بظهر كفي  شفتي. سأنظر إلى حجرة التيمم السوداء الملساء الصماء  الموضوعة في الركن الأيمن. ثم أقوم  لتأدية الصلاة . لن أركع  و لن أسجد . ستكون صلاة جنازة فقط أترحم فيها على الشخص الهادئ الرزين الظريف الذي لا يحرك دجاجة من على بيضها، الشخص السوي الذي أبدوه في عين المحيطين بي.

هي بمثابة صلاة خالي. خالي الذي هو ، لعلمك صديقتي، أنا. أنا الذي  علي أن أبحث باستمرار  عن طابق علوي أحتسي فيه  الماء الحريف الذي  يلبس قنينة Ciel صغيرة.

  عن غمد سلاح ربما تكونينه أنت يا صديقتي العزيزة.

ــــــــــــــــــــــ

 أحمد بوزفور، نافذة على الداخل، منشورات طارق، الدار البيضاء. 2013

–        **نفسه، ص:25.

 

مقالات من نفس القسم