السيوفي

أشرف الصباغ
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أشرف الصباغ

لم يكن أحد يعرف أي شئ عنه، ولا حتى اللقب أو الاسم، أو مكان الإقامة. كل ما في الأمر أن الجميع كانوا واثقين تماما أنه من الوايلي الكبير، وابن الوايلي.. لا شئ أكثر!!

اسمه “السيوفي”، لا أحد يعرف هل هو الاسم أو الكنية أو اسم الأب أو مجرد اسم شهرة: يشبه الممثل المصري عادل أدهم بالضبط وأطول منه قليلا. لكن “السيوفي” كان قد حصل في زمن ما وفي ظروف ما على جرح قطعي (يطلق عليه المصريون بلغة اللصوص: البشلة) في وجهه يبدأ من تحت حلمة أذنه ويمر بخده الأيسر ووسط أنفه ليصل إلى خده من الناحية الثانية. كان يمتلك ذوقا رفيعا في اختيار ثيابه وتصفيف شعره. البنات في الوايلي الكبير كانوا يعرفونه أكثر من الشباب، لأنه لم يكن يسمح أبدا لأحد أن يتجرأ عليهن أو يعاكسهن. وكان تعيس الحظ هو الذي يعاكس هذه الفتاة أو تلك ويذهب أحد من أسرتها ليشكوه للسيوفي.. وعادة كانت الفتيات يسكتن إذا كانت المعاكسة عابرة أو تتضمن كلمات لطيفة بدون تحرش أو لمس. ولكن عندما كانت الأمور تخرج عن الحدود، كان الأمر يصبح على كل الألسنة. وبالتالي كان الأمر سيان، سواء اشتكت الفتاة، أو اشتكى أحد من أسرتها. فللسيوفي كانت عيون كثيرة في الحواري والأزقة والشوارع، وعلى المقاهي ومطاعم الفول والطعمية والسوق الكبير في شارع الخليج المصري ومحلات الجزارة وبين الباعة الجائلين..

كان “السيوفي” مسجل خطر. رئيس عصابة له شنة ورنة. لكننا لم نسمع أبدا أنه ضرب أحدا من سكان المنطقة، أو اعتدى على أحد من شبابها أو رجالها. حتى قسم النشالين التابع للسيوفي لم يكن يعمل في المنطقة. ذات مرة، وقد انهينا للتو الدراسة بالصف الثالث الإعدادي ونستعد لدخول المرحلة الثانوية، كنا نلعب أنا واثنان من أصحابي سعيد سرور وعماد شديد في حديقة القصر الجمهوري في حدائق القبة. كان ذلك في صيف عام 1976، قبل دخول المدارس بشهرين تقريبا. كانت هناك أزمة في الأدوات المدرسية والكراسات والأقلام وفي كل شئ تقريبا. بحثنا أنا وسعيد وعماد عن الكراريس والأقلام والمساطر. وعندما لم نجد ما يمكن شراؤه لبداية العام الدراسي، توجهنا لنلعب عند القصر الجمهوري. لعبنا وجرينا وركضنا وتمرغنا على النجيلة الرطبة، ثم جلسنا لنستريح قليلا. استلقى عماد على ظهره، وجلس سعيد متربعا يحكي حكاية. ونمت أنا على ضهري ووضعت رأسي على قدم صاحبي الذي جلس متربعا يحكي حكاية طويلة لا أذكرها.. أغمضت عيني.. وتدريجيا بدأ صوته يأتي كما لو كان آتيا من أعماق حلم بعيد.. بعد قليل، اختفى الصوت وسحب سعيد قدمه من تحت رأسي. تصورت وأنا أكاد أستسلم للنوم أن قدمه آلمته أو أصابها الخدر، فسحبها ليريحها أو يبدلها بالأخرى.. في نهاية الأمر ومع النوم الذي كاد يطبق تماما علىَّ تركت رأسي يستريح على النجيلة الرطبة. اختفى صوته تماما.. فتحت عيني ونظرت حولي، لم أجد أيا منهما. نظرت إلى أعلى، فشاهدت رجلا طويلا يقف مبتسما فوق رأسي تماما.. نهضت من رقدتي دفعة واحدة بين الخوف والهلع والارتباك وأحاسيس أخرى مختلطة ومتشابكة.. في لحظة واحدة، وبعد أن فركت عيني جيدا، أدركت أنه “السيوفي”. وكان هناك ثلاثة من معاونيه يقفون على بعد مترين أو ثلاث منا.. سألني:

– بتعملوا إيه ياد هنا؟

– بنلعب، يا عم السيوفي.

– بتلعبوا إيه؟ معندكوش حاجة يعني؟ إنت بتشتغل إيه؟

– أنا طالب، يا عم السيوفي

– آآآه، طاااالب! وصحابك جريوا وسابوك ليه؟

– معرفش، يا عم السيوفي. يمكن خافوا منك!

– طيب وإنت مخفتش ليه؟

– ما أنا مشفتكش، يا عم السيوفي..

ضحك السيوفي ضحكة رائعة ورائقة. وضع يده على كتفي، وسأل:

– يعني لو كنت شفتني كنت هتجري زيهم؟

– أيوه، يا عم السيوفي

– ليه، ياد؟ هو أنا باكل العيال؟

– معرفش، يا عم السيوفي.. بس يعني.. أصلهم بيقولوا..

– بيقولوا إن أنا حرامي، مش كده؟ آه، يا ولاد الوسخة!!

مرر كفه على رأسي، وابتسم ابتسامة خلاقة، وسأل:

– إنت منين؟

– من الوايلي، يا عم السيوفي..

– طيب العبوا وخلوا بالكوا من نفسكوا. ولو حد جه جنبكوا قلولي.. روح بقى انده زمايلك..

 

لو كان السيوفي قد أطال قليلا، لكنت قد تبولت على نفسي.. لا أدري: من الرعب أم من الفرح أم لأنني كنت أريد التبول أصلا؟! كانت المشاعر والأحاسيس مختلطة بشكل غير مسبوق. وهناك شئ ما غريب وجديد.. قد يكون الاكتشاف.. فأنا رأيته مرة واحدة في حياتي، وأنا بالصف الأول الإعدادي،  يسير في شارع صابر الطويل في الوايلي الكبير بمفرده والناس تهمس لبعضها البعض: “السيوفي.. السيوفي.. أيوه هو دا السيوفي”.. كان مشهدا لا ينسى، حيث اصطفت النساء في البلكونات، ورفع الرجال والشباب أياديهم بالتحية والدهشة والإحساس بأنهم ألقوا السلام على شخصية مهمة.. أما الفتيات، فحدث ولا حرج، حيث الهمس والنظر من طرف العين والابتسامات الخجولة.. وربما النظر إلى الأمام في جدية للفت النظر أكثر..

عندما أفقت من تلك الحالة الغريبة، كان السيوفي ومن معه قد تبخروا. توجهت ناحية صف الأشجار القصيرة المحاذي لسور القصر، ورحت اتبول. وعندما نظرت خلفي فجأة، وجدت سعيد وعماد يتجهان نحوي في حذر. وعندما اقتربا، سألا في صوت واحد:

– هو إيه اللي حصل؟

– رددت بسؤال:

– إنتوا جريتوا ليه؟ دا طلع “السيوفي”!

– أيوه ما إحنا عارفين. وعشان كده جرينا..

– بس دا معمليش حاجة. وقالي كمان لو حد جه جنبك، تعالى قولي..

 

ظللنا نحكي هذه الحكاية طوال أشهر عديدة. وفي كل مرة كنا نزيد عليها تفاصيل جديدة مثيرة ورقيقة وبطولية.. وكان كل منا يقاطع الآخر أثناء الحكي ليذكره بتفصيلة ما تدخل في متن الحكاية المقبلة.. كان الأمر يروق لنا أيضا، سواء كنا نسترجع الحكاية معا أو نحكيها لهذا الشخص أو ذاك، بل وحتى عندما كان يحكيها أي منا بمفرده للمرة العشرين أو الخمسين. كانت تروق لنا من زاوية بطولتنا نحن، وكيف التقينا بالسيوفي. وكلما اكتسب هو هالة من البطولة والقوة والجدعنة، اكتسبنا نحن السبق والمعرفة والاطلاع والحظوة..

 

بعد أن تناثرت الحكايات وأصبحت على كل لسان، جاءني صلاح بلحة الذي كان يسكن في إحدى الحواري المجاورة. فعل ذلك وكأن الأمر صدفة. كنا، وعلى الرغم من أنه كان في مثل عمرنا، نتجنبه لأنه كان نشالا ويدخن الحشيش ويروجه. وكثيرا ما كان يشرب أيضا الكحول ويتناول الحبوب المخدرة. كان صلاح، ورغم وجهه البشوش وملامحه الطفولية، يتشاجر كثيرا مع الجميع ولا يترك أحدا يوجه له أي إهانة. وكانت مطواة قرن الغزال في جيبه دائما، والموسي في أحد أكمامه. كانت سيرته على كل لسان بشَرِّه وسرعة حركته في فتح المطواة والضرب بالموسي.

سألني صلاح:

– سمعت أنك قابلت السيوفي! إنت شغال معاه دلوقت؟

– لا.

– طيب ما تيجي تشتغل معانا

– لا. أنا شغال في مصنع الكاوتش

– يعني بتاخد كام؟

– 30 جنيه في الأسبوع

– تعالى اشتغل معانا وممكن تطلع بـ 50 جنيه في اليوم

 

ظل صلاح طوال أكثر من ساعتين يقنعني بالعمل معه. وحكى لي عن المعلم صبحي أبو شرطة الذي علمه الصنعة، وكم هو طيب ولا يظلم أحدا. وأن النشل أسهل بكثير من العمل في ورشة الكاوتش، لأنك ستكون حرا ولن يتحكم فيك أي إنسان. ويمكنك أن تشتري كل ما تتمناه.. كان مسالما ولطيفا. بل وقام بدفع ثمن الشاي الذي شربناه على المقهى. وانتهى الأمر بأن أصبحنا أصدقاء على الرغم من تحذيرات الحاج فتحي صاحب المقهى الذي ظل يراوح أمامنا طوال جلستنا خوفا من قيام صلاح بأي حركة غير محسوبة أخسر أنا فيها عينا أو ذراعا، أو يغرس مطواته في لمح البصر في أي مكان من جسدي.

 

لم يكن صلاح يعرف أنني تعرفت على صبحي أبو شرطة الذي قرأ فاتحة بطة ابنة أم بدوي التي تعيش في البيت المجاور لبيتنا في نفس الحارة. وكانت أم بدوي صاحبة البيت وتربي بنتين وولدين بعد أن مات زوجها بأزمة قلبية وهو يبيع البطيخ على عربته بالسوق. وبحكم الجيرة كانت هناك علاقات وثيقة بين أسرتينا، لدرجة أنني كنت أناديها بخالتي أم بدوي. وكانت الابنة الأصغر بطة تكبرني بعامين تقريبا، وكنت أنا طريق صبحي أبو شرطة إليها. فقد تقرب مني في البداية، وهو ما اعتبرته أنا شرفا كبيرا أن يتقرب لي المعلم صبحي أبو شرطة أحد أكبر حرامية الوايلي الكبير وفتواته. كان الجميع يحترمه ويقدره ويتمنى صحبته. ولكنه هو بنفسه تسلل إلى بشكل لطيف، ثم راح يدعوني للجلوس معه على مقهى الحاج فتحي المقابل للحارة. وعندما كانت تمر بطة من أمامنا كان ينظر إليها ويبتسم، ثم يعلو صوته بكلمات ليس لها أي علاقة بالموضوع الذي نتحدث فيه. كانت هي تلقي السلام علىَّ بدلال. وأحيانا كانت تدعوني لسبب ما، فنتحدث قليلا، ثم أعود إليه. بعد ذلك بدأ يسألني عنها وعن أحوالها وعلاقاتها. وكثيرا ما كرر سؤاله عن علاقتي بها. وبمرور الأيام فوجئت ببطة تحكي لي أنها قابلت صبحي في السوق، ثم التقته مرة أخرى في باب الشعرية.. ثم ذهبا معا إلى السينما..

 

أصبحت أنا حلقة الوصل ومركز الاتصالات وكاتم الأسرار إلى أن جاء صبحي وقرأ الفاتحة. وانتقلت جلساتنا من على مقهى الحاج فتحي إلى بيت خالتي أم بدوي. كانت كل بنات الحارة يتمنين الزواج من صبحي. فهو الشهم والجدع وابن البلد الذي لا يؤذي أحدا. وهو أيضا العايق الذي يرتدي أحدث الموضات ولا يراه أحد إلا مبتسما وبشوشا وخدوما.. ولكن بطة كانت مثل كل بنات الحارة والحواري المجاورة تريد الخروج إلى وسط البلد وارتداء الثياب الجميلة والفوز بالشاب الذي يحلم به كل البنات. وفازت به بطه التي كانت تمشي في الشارع فتجبر الجميع على النظر إليها. بل كانت ابتسامتها وخطوتها وطريقة سيرها تدفع الكثيرين لاختراع معاكسات جديدة وكلمات رقيقة. ولكن كل ذلك انتهى بعد أن عرف الجميع أن صبحي أبو شرطة قرأ فاتحتها. أما هي فلم تكف عن أي شئ: نفس الدلال، ونفس الخطوة، ونفس طريقة السير وكأن لا أحد سواها يسير على الأرض. وبعد وقت قصير أظهر صبحي غيرته، وظهرت المشاكل والخلافات. تحول صبحي إلى كائن حزين ومستفز. اختفت ابتسامته وحل محلها قلق وحيرة. بينما كانت بطة تمعن في دلالها وفرض سطوتها لا على صبحي فقط، بل على جميع شباب الحارة والحواري المجاورة. بدأ يضربها، ثم يعود نادما حتى أنني رأيته مرة يبكي أمامها. وفي نهاية المطاف بدأ يتعقبها ويراقبها ويرسل بصلاح بلحة أو بأخيه بلبل النشال وراءها لمتابعة كل خطواتها. وعندما ضاقت الحلقة حولها طلبت منه فسخ الفاتحة والابتعاد عنها. وكان ذلك بداية إعلان الحرب بينه وبين كل أفراد أسرتها. طالت الحرب وتخللتها مفاوضات ومعارك وآثار على وجهها وجسدها وتهديدات بالقتل. لم يكن يجرؤ أحد على مواجهة صبحي وإخوته وصبيانه. وعندما تحدثت معه، اتهمني بأنني أقيم معها علاقة. وفجأة انتهت الحرب بدون أي مقدمات، واختفى صبحي تماما. سمعت، كما سمع الآخرون، أنه سافر إلى العراق أو اليونان. وعرفت بالصدفة أن خالها النشال السابق، والقهوجي حاليا، ذهب إلى السيوفي وحكي له كل التفاصيل. وانتهى الأمر.

 

لم تتغير بطة بعد رحيل صبحي. ظلت كما هي تمثل كل عناصر الجمال والإغراء في خيال شباب الحارة وواقعهم أيضا. وفي يوم من الأيام حكت لي عن السيوفي الذي دعاه خالها إلى البيت ليشكره على مساعدته. قالت أنها رأته، وأحبته على الفور وكم تتمنى أن تتزوجه، فلا أحد غيرها جدير به، وأن بنات المنطقة لا يرقين إلى جمالها أو خفتها.. وظلت أحلام بطة مجرد أحلام مثل أحلام كل بنات المنطقة إلى أن جاءها خطيب ثم ثان وثالث، وانتهى الأمر بزواجها من أحد عمال مصنع النسيج في شارع سكة الوايلي..

 

في أكتوبر أو نوفمبر عام 1976 وصلت الأزمة إلى كل شئ: الأدوات المدرسية، الدواء، الخبز، المواصلات.. لا أدري كيف كان الناس في الأحياء والمناطق الأخرى يفكرون وينظرون لما يجري. كان يكفيني كوكب الوايلي الكبير بمقام سيدي الوايلي المحشور في أزقه تسمح بمرور شخص واحد بالكاد، وبكل شوارعه وحواريه وأزقته ومداخله الكثيرة، وبالشارع الرئيسي (شارع 10) الذي يبدأ من قسم شرطة حدائق القبة ليصل إلى بداية السوق والجمعية الاستهلاكية والمقهى الذي كنا نجلس فيه مع عم أحمد شعبان وعم سعد ندا ومحمود سرور وعلي المليجي وكل الناس الذين كانوا يأتون إلى الوايلي ليتحدثوا في السياسة ويناقشون أوضاع العمال والمهمشين والأحوال الاقتصادية والسياسية، ويشرحون لنا، ونحن بعد صغار، فائض القيمة وظلم أصحاب الورش والمصانع للعمال واستخدامهم الأطفال الصغار والتهرب من التأمينات ومخالفة القانون والحدود الدنيا والقصوى للمرتبات..

 

كان عم سعد ندا في حوالي الخامسة والخمسين من العمر بوجه أسمر وفكين عريضين وشعر يميل إلى الشيب. كان الجميع يحترمه. لا أدري لأنه كان صاحب مصنع نسيج في شبرا أم لأنه يحكي دائما عن حياته وعلاقاته مع كبار الساسة الذين اعتقلوا وعذبوا في السجون ومات بعضهم من التعذيب، وصار البعض الآخر وزراء ومفكرين وشعراء وكتاب!.. كان في كل جلسة يحكي لنا حكايات مثل الخيال عن سنوات الأربعينات والخمسينات ونضاله في التنظيمات السرية. وكثيرا ما فسر لنا أشكال فائض القيمة بطرق بسيطة ومختلفة بداية من ما يجري الورش الصغيرة أو في المصانع الكبيرة. كان يطلب مني أن أحكي عن يوم واحد فقط من عملي في ورشة الكاوتش. وبعد أن أنتهي يبدأ هو في تفسير كل ما حكيته ويربط ذلك بكتب وروايات وقوانين. في هذه الأثناء قام محمود سرور أخو صديقي سعيد سرور بإنشاء جمعية “تنمية المجتمع لأبناء الوايلي الكبير” ومكتبة صغيرة وفريق من المحامين للدفاع عن العمال وصغار الباعة في السوق والفقراء الذين يركضون وراء أبنائهم في أقسام البوليس كل يوم.

 

رغم ما كان يبدو من انشغال عم سعد ندا بمصنع النسيج والندوات والقراءات، إلا أنه كان يقضي معنا فترات طويلة يشتد فيها النقاش ويحتدم عن أوضاع العمال وتفسير المصطلحات، بينما كان محمود سرور أكثر عملية لدرجة أنه فتح بيته الكبير على ناصية شارع 10 لكل أهالي الوايلي الذين يعانون من مشاكل، سواء مع البوليس أو في أعمالهم أو مع أصحاب العمل أنفسهم. عم سعد كان يعرف كل الأخبار. وكان يفاجئنا أيضا بأخبار جديدة نكتشف بعد يوم أو اثنين أنها منشورة في هذه الصحيفة أو تلك. وكان يرشح لنا كتبا موجودة في مكتبة تنمية المجتمع لنقرأها ونناقشها في جلسة المقهى. وعندما حكينا حكايتنا ذات مرة مع السيوفي، لم يعلق عم سعد بأي حرف. اكتفى فقط بابتسامة مندهشة في حين لمعت عيناه. ولما طال انتظار الجالسين لتعليقه على حكاياتنا عن السيوفي، وعن السيوفي نفسه، قال: “سنتحدث في ما بعد عن هذه الشخصيات وعن السيوفي وعن تلك الظواهر المهمة في المجتمع المصري”. شعرتُ بأهمية كل ما قاله رغم أنني لم أفهم بالضبط ماذا يقصد.. وتلك كانت بداية حكاية سعيد سرور مع عم سعد ندا، إذ فاجأنا سعيد بصوته الواضح ولدغته اللطيفة:

– أنا عايز أشتغل عندك في المصنع، يا عم سيد، علشان ميبقاش فيه سيوفي تاني!

ابتسم عم سيد الذي كان يحب سعيد أكثر من جميع الجالسين، وقال له في تحد ومداعبه:

– تعالى من بكرة، يا سعيد!

 

وبدأ سعيد يحكي لنا يومياته في مصنع نسيج عم سعد ندا. كانت التجربة جديدة بالنسبة لسعيد أصغر أفراد أسرته والمدلل كثيرا، والمحب أيضا للقراءة والنقاش بتحريض مباشر من أخيه الأكبر محمود. كانت حكايات سعيد تزداد تعيقدا كل يوم. وتتضاعف انتقاداته لعم سعد وشكل إدارته للمصنع. وفي يوم جاء سعيد غاضبا وثائرا كما لم نره في يوم من الأيام. قال:

– أنا تركت العمل في مصنع عم سعد ابن الوسخة

ضحك عماد، وسأله:

– إيه اللي حصل؟ اتعاركت مع حد هناك، ولا عم سعد طردك؟

– محدش يقدر يطردني. أنا تركت بمزاجي، لأن عم سعد ابن كلب ظالم ومفتري

 

وبدأ سعيد يحكي عن معاناته منذ اليوم الأول. فقد كانت فترة التدريب والتعليم صعبه ولكنه تحملها بكل رجولة وقوة. ولما بدأ يعمل على إحدى الماكينات، بدأت المشاكل الحقيقية مع رئيس الوردية المخبر ابن الكلب الذي كان يبلغ عم سعد بجميع تحركات سعيد. فسعيد يحب تناول القهوة في الصباح. وبالتالي كان يخرج لتناولها على أحد المقاهي المجاورة. وعند عودته يجد أن جميع الماكينات والأنوال تعمل ما عدا ماكينته هو فقط. وفي ساعة الغداء كان يدخل الحمام فيطيل قليلا، أو تستغرقه قراءة الصحيفة، فيخرج ليجد رئيس الوردية غاضبا وممتعضا. وبعد ذلك يأتي عم سعد ليوبخه بعدة كلمات من قبيل: “يا سعيد، لماذا تتأخر؟ يا سعيد، الكل يعمل وجميع الماكينات تدور ما عدا ماكينتك!”. وبعد ذلك تطور توبيخ عم سعد: “يا سعيد، العمال بياخدوا مرتبات، وشركات الكهربا والمياه بتاخد فلوس، والمصنع لازم ينتج”. لكن سعيد بدأ يوجه انتقادات خطيرة: “عم سعد دا نصاب ابن وسخة. يمنع الحليب عن العمال. يسرق قوتهم ولا يعطيهم أي زيادة على الأعمال الأخرى التي يقومون بها داخل المصنع”.

 

وكان اليوم الأخير لسعيد في مصنع عم سعد. كان الكيل قد فاض من الجانبين. فتعمد سعيد أن يبدأ هو المعركة. تأخر ساعتين في الصباح. ولما قلبله رئيس الوردية قائلا في غضب أن هاتين الساعتين ستخصما من مرتبه في نهاية الأسبوع، شخر له سعيد واتجه إلى دورة المياه في يده الصحيفة، وجلس هناك إلى أن حانت ساعة الغداء. وبمجرد خروجه وجد عم سعد واقفا على باب دورة المياه وعيناه تقدحان شررا. وبادره متسائلا في حدة:

– كنت فين، يا سعيد؟

– زي ما إنت شايف، يا عم سعد! كنت بشخ..

– يا سعيد، دا مصنع مش مكتبة أو قهوة.. حرام عليك، يا سعيد

– حرام عليك إنت، يا عم سعد.. هو إحنا عبيد عندك يعني؟ فيها إيه لما آجي متأخر أو أقرا الجرنان في الحمام؟!!

– فيها إن الماكينة واقفة وأنا بدفع لك فلوس، يا سعيد!

– أنا بشتغل وبعمل المطلوب مني. إنت عاوزني أشتغل بزيادة ليه، يا عم سعد؟!

– إنت لازم تشتغل زي بقية العمال وتحط الجزمة في بقك..

– إزاي يعني، يا عم سعد؟ العمال لهم حقوق. وبعدين مفيش حليب ولا تأمينات ولا زيادات في المرتب! دا ظلم، يا عم سعد

– لو حاسس بظلم، امشي، يا سعيد. هو فيه حد بيجبرك تشتغل هنا؟ روح شوف لك مصنع تاني، ولا روح اقرا الجرنان على القهوة!

فوجئ سعيد بتهديدات عم يعد وقراراته المبطنة، فقرر أن يسير على نفس خط التصعيد:

– مش فاهم، إنت بتطردني يعني؟

– لا. بس مخصوم منك يومين، يا سعيد..

– دا ظلم. إنت مفتري وظالم وبتقهر العمال..

– إنت مفصول، يا سعيد..

– وفلوسي؟!

– ملكش عندي أي فلوس من دلوقت

– ماشي.. عموما كس أمك على كس أم فلوسك، يا عم سعد..

 

خرج سعيد غاضبا من مصنع عم سعد. وجاءنا ليحكي وهو يناقش في نفس الوقت المرتبات والظلم والتأمينات. لكن عماد قلب الأمر إلى مزاح:

– نفهم من كده إن هناك سيوفي تاني اتولد في الوايلي الكبير!!

ورحنا نضحك ونسترجع حكاية السيوفي..

 

الوايلي له مداخل عديدة من عزبة الجزارين ومن ناحية شارع الشركات وبورسعيد الذي يبدأ من الأميرية ويصل إلى السيدة زينب، ومن ناحية شارع سكة الوايلي وأرض التوم ومصنع النسيج حيث يعمل أحد الذين كانوا يجلسون معنا على المقهى طبيبا هناك وكثيرا ما حكي لنا عن سرقات الأدوية وسوء صحة العمال في هذا المصنع الضخم ومخالفة كل قوانين وشرائع الإنسانية. كان هذا الطبيب بالذات هو الذي ساعد بطة في العمل بمصنع النسيج حيث قابلت زوج المستقبل هناك.. كان يعالج الفقراء بالمجان، ويمنح تخفيضا لمعارفه وأصحابه من عمال المصنع وأقاربهم. وكان أيضا يكتب مقالات عن الفساد في أحد صحف المعارضة أنذاك. كان طبيبا وسياسيا، ثم تطورت الأمور ورشح نفسه في انتخابات مجلس الشعب وخسر مرتين. وفي كل مرة كان يعول على عمال مصنع النسيج الذين يعالجهم سواء داخل المصنع أو خارجه، ويعول على الفقراء الذين يتعالجون عنده بالمجان تقريبا.. ولكن كان مرشح الحزب الحاكم هو الذي كان يفوز دائما..

 

للوايلي مدخل من ناحية قسم شرطة حدائق القبة أيضا حيث مقام سيدي غراب ومبنى المخابرات والقصر الجمهوري ومدرستي النقراشي الابتدائية والثانوية. والوايلي الكبير مثل شبرا والمغربلين والسيدة زينب وبقية الأحياء الشعبية التي يرقد كل منها على رصيد من الحكايات والأساطير. غير أن وجود عدد من أضرحة ومقامات أهل البيت وأولياء الله الصالحين في مثل تلك الأحياء يجعل الحكايات والأساطير أكثر من حقيقية. ويضفي عليها هالة من السحر والعراقة والقدم. هكذا كان مقام سيدي الوايلي ومولده السنوي المتواضع الذي ينعش سكان المنطقة ويأتي إليها بزوار من المتصوفين وأحباب سيدي الوايلي، حتى أننا كنا ننتظر المولد من العام إلى العام بأحلام لا تقل عن أحلامنا في انتظار مولد النبي، حيث العرائس والأحصنة وأقراص السمسمية والفولية والحمصية والملبن والزمامير.. والذكر وأناشيد الصوفية، والمراجيح..  

 

الأزمة تشتد وتستفحل.. خبز ومواصلات ومجاري طافحة ولا أدوات مدرسية، والناس يقتلون بعضهم البعض أمام الأفران والمجمعات الاستهلاكية.. وكان الترامواي الأحمر الذي يمر علينا من المطرية والأميرية وشبرا متجها إلى باب الشعرية والعتبة والسيدة زينب، لا يزال يعمل. في يوم ما طفح الكيل ونحن بالقرب من محطة الوايلي من ناحية شارع بور سعيد، كنا ما نزال نبحث عن الكراريس والأقلام والأساتيك والمساطر، وفجأة رأينا بشر يحطم الأوتوبيسات ويهشم زجاج التراموايات ويحرق أكشاك الملاحظين والمراقبين التابعين لهيئة النقل العام.. اشتعلت النيران وتصاعد الدخان.. لدرجة أن أحد المراقبين من شده خوفه فضل عدم الخروج من الكشك الخشبي، فأغلقه على نفسه. ولكن الغضب دفع المتظاهرين إلى إحراق الكشك وهو بداخله، فتطوع البعض لإنقاذه، وأنقذوه بالفعل.. كان مشهدا غريبا ومثيرا وبداية لأشياء ستحدث في ما بعد..

 

في تلك الليلة جاءت سيارات الأمن المركزي وحاصرت المنطقة. اعتقلوا الكثيرين بتهمة إثارة الشغب. وكان معظم المعتقلين من أبناء الوايلي الكبير. ولكنهم قالوا إن المعتقلين من النشالين والحرامية والمسجلين خطر.. وظل الوايلي الكبير قيد الحصار لعدة أيام. وبدأ المخبرون يمشطون الحي من الداخل. والضباط وأمناء الشرطة يتجولون بسياراتهم ليقبضوا على الجالسين على المقاهي، وعلى بعض الأشخاص من بيوتهم، ومن لم يعثروا عليه، أخذوا زوجته أو اخته أو ابنته إلى أن يسلم نفسه.. زالت الغمة بعد ثلاثة أيام وبقيت الأزمات وطوابير الخبز وزحام المواصلات والاقتتال أمام الأفران والمجمعات الاستهلاكية..

 

وفي 18 يناير 1977، ربما كانت عطلة منتصف السنة، رحنا نلعب في حديقة قصر القبة كالعادة.. كان الوقت صباحا.. العاشرة أو الحادية عشرة قبل الظهر.. وفجأة رأينا مظاهرة ضخمة مقبلة من ناحية كوبري القبة ترفع لافتات وتهتف بشعارات ضد أنور السادات وسيد مرعي.. وتطالب بالخبز.. وتهتف ضد فساد الحكومة.. انضممنا إلى المظاهرة. سرنا معها في شارع مصر والسودان.. توقف المتظاهرون عند التقاء شارع ولي العهد مع شارع مصر والسودان.. هتفنا معهم.. وكان الناس ينضمون بشكل خرافي حتى صارت المظاهرة ضخمة.. طلاب جامعة عين شمس.. بنات وصبيان.. عمال.. وناصريون وشيوعيون وشباب ملتحون كانوا يرتدون ملابس رياضية كتب على ظهرها “شباب الإخوان المسلمين”.. وعند دير الملاك تعبنا من المشي والهتاف والزحام. كنا صغارا، نتعثر تحت الأقدام.. فقررنا العودة..

 

عدنا من طريق أقصر. بدلا من السير في شارع مصر والسودان أو ولي العهد، انحرفنا يسارا في اتجاه سينما هونولولو. وعبر الحواري وصلنا إلى بداية أرض التوم. توقفنا أمام مصنع النسيج في شارع سكة الوايلي. سمعنا الناس يتحدثون عن معارك عند قسم شرطة حدائق القبة وفي الحواري والشوارع داخل الحي. قررنا دخول الوايلي من ناحية مدرسة عبد العزيز عشماوي والسير بجوار المعسكر المواجه للمساكن الشعبية التي بناها عبد الناصر على عجل لإيواء المهجرين من مدن القنال بعد نكسة 1967، لكي نشاهد المعركة من بدايتها. ومن بعيد رأينا جيشا من المخبرين وأمناء الشرطة يقف على ناصية شارع 10 ويطلق الحجارة والخرطوش بداخل الشارع نفسه. أدركنا أن الطرف الآخر يقف بداخل الشارع من الناحية الأخرى. وقفنا قليلا نتفرج من بعيد. حذرنا المخبرون وأمناء الشرطة ونصحونا بالابتعاد. ومن جديد تركني أصحابي واتجهوا إلى أرض التوم ومنها إلى شارع الساقية للدخول إلى الحي من طريق آمن. وقفتُ أتفرج. وتدريجيا رحتُ أقترب من بداية الشارع حيث الحجارة والخرطوش.. وفجأة تكومت على الأرض تحت أقدام المخبرين وأمناء الشرطة. لا أدري، هل كانوا يضربونني أن يحاولون الهروب من هجوم الأهالي وحجارتهم.. وبعد أن جمعوا أنفسهم مرة أخرى تحت ضغط سباب الضباط وأوامرهم، اقترب مني أحد المخبرين وعلى وجهه إمارات الشر:

– بتعمل إيه هنا، ياد

– باتفرج

– بتتفرج على إيه، يا بن الوسخة

– خلاص، يا عم، همشي

– تمشي فين، يا بن الكلب

– طيب أروح فين؟

– دا إنت تلاقيك معاهم!

– مع مين، يا عم؟!

 

وفجأة نزلت على رأسي الكفوف والقبضات. ولم ينسوا الركلات والشلاليط.. حتى وجدت نفسي أركض ناحية أرض التوم والدماء تسيل من أنفي والرؤية مضببة تماما. فجأة أمسكتني امرأة من ذراعي واتجهت بي إلى أقرب حارة جانبية. أدخلتني بيتا مدخله مظلم تماما، وراحت تصرخ: ميه يا ولاد، هاتوا ميه.. ضربوك، يا بني؟ مين اللي ضربك؟ الحكومة بنت الوسخة مستقوية علينا.. دا عيل صغير.. ماله ومالكم؟ عمل لكم إيه يا ولاد المتناكة.. هاتي يابت الميه هنا..

 

في هذه الأثناء كانت حاسة السمع هي الوحيدة التي تمارس مهامها بالكاد.. سمعت واحدة تقول للثانية:

– أيوه السيوفي هو اللي بيحاربهم. جاب رجالته وواقف مع الغلابة الجعانين.. لو مش السيوفي كانوا دخلوا علينا ناكونا.. ما هم ولاد وسخة كفرة.. مبيرحموش..

ردت الثانية:

– طيب وإنتي شفتي السيوفي؟ شكله إيه؟ بيقولوا إنه واد جدع قوي، وحليوه كمان..

ردت المرأة التي رافقتني إلى هذا البيت:

– إحنا في إيه ولا في إيه، يا بنت إنتي وهي؟ شوفوا الواد اللي دمه سايح ده وبعدين اتمايصوا زي ما إنتوا عايزين!!

فجأة وجدت نفسي أسأل:

– بجد عم السيوفي هو اللي بيحارب الحكومة؟ فين؟ هو واقف فين؟

– هو إنت تعرفه، ياد؟

– أيوه. دا جدع قوي

سألت إحداهن:

– هو شكله حلو بجد؟ وطويل؟

– أيوه. شبه عادل أدهم.

 

كانت الدماء قد توقفت. فنهضت متوجها إلى المرأة الكبيرة:

– شكرا، يا خالتي.. أنا ماشي بقى.

– رايح فين، يا واد.. هو إنت ساكن فين؟

– في آخر شارع عزام

– طيب ادخل من شارع الساقية. متروحش من شارع صابر الطويل، أصلهم واقفين بيحدفوا طوب هناك..

سألت إحدى الفتاتين:

– هو عم السيوفي واقف فين؟

– واقف عند دكان أبو سنة بتاع الفول

– بس أبو سنة دا ابن وسخة مرشد.. شغال مع الحكومة

– هو إنت معرفتش؟ دا خد له طلقتين خرطوش واحدة في وشه وواحدة في طيزه.. هئ هئ… قاعدين بينقوا له الرش دلوقت هناك..

– مين اللي ضربه؟

– اللي واقفين الناحية التانية.. الحكومة والمخبرين.. بس السيوفي مطلع دين أبوهم وهو والطلبة والعمال بتوع مصنع النسيج.. أنا أخويا معاهم هناك..

 

كان دكان أبو سنة في شارع 10. وكان أبو سنة نفسه يعمل مرشدا. وكثيرا ما كان الناس يتجنبونه تفاديا لأذاه. وكان البعض يبدي له احتراما شديدا لمكانته لدى المخبرين وأمناء الشرطة. وكان أحيانا يتوسط لإخراج هذا أو ذاك من الحجز.. وكان أيضا يبلغ عن الآخرين..

توجهت إلى هناك. شاهدت جيشا من البشر كبارا وصغارا.. نساء ورجالا يقذفون بالحجارة.. معركة حقيقية تسيل فيها دماء.. وكل له وظيفته ومهمته.. كر وفر.. صراخ وبكاء.. فرح وانتصار.. سألت أحد الرجال الكبار:

– هو فين السيوفي؟

– كان هنا من شوية. بس خد الرجالة ولف من الناحية التانية عشان يخفف الضرب علينا..

– هيجي تاني هنا؟

– معرفش.. وبعدين إنت واقف مبتعملش حاجة ليه؟ روح هات طوب ولا مية.. اعمل حاجة بدل ما إنت واقف زي خيبتها كده..!!

 

لم أر السيوفي في هذا اليوم. ظللت أتجول في المنطقة التي يحارب فيها الأهالي حتى المساء.. ثم توجهت عبر الحواري إلى البيت. كان الوضع متوترا والناس في الشوارع غاضبون وناقمون على كل شئ.. يتحدثون بصوت عال عن الحرب الدائرة وينشرون أخبار الواقفين على الجبهة في شارع 10، يسبون أنور السادات والحكومة والمخبرين والضباط..

 

تلقيت وجبة التقريع المعتادة في مثل هذه الظروف من الأب والأم. ونمت وأنا أحلم بأن أرى السيوفي غدا وأحارب الحكومة معه. ولكنهم حجزوني بالبيت ولم يسمحوا لي بالخروج. أعطيتهم الأمان إلى ما بعد الظهر. ثم تسللت غير عابئ بما سأتلقاه عند عودتي..

في 19 يناير كانت المقاومة قد بدأت تضعف. عساكر الأمن المركزي والجيش والمخبرين وأمناء الشرطة ضغطوا المتظاهرين بشدة وحاصروهم.. قالوا إن السيوفي ظل للحظات الأخيرة يقاوم دخولهم الحي. ولكنهم كانوا كثيرين ومعهم أسلحة وعربات مصفحة ولهم أعوان بين المتظاهرين. حكوا أيضا في هذا اليوم أن السيوفي توجه إلى الصعيد ليأتي بسلاح ورجال لمقاومة الحكومة ومواصلة الثورة ضد أنور السادات وسيد مرعي..

طوال الأيام التالية، وخاصة في تلك الأيام السوداء التي تلت دخول قوات الأمن المركزي والجيش إلى الحي، حكى الناس الكثير عن بطولات الطلاب وعمال مصنع النسيج، وعن السيوفي ورجاله. كانوا يتحدثون عنه بفخر وينفون عنه كل التهم الموجهة إليه.. ويؤكدون أنه كان يحمي بنات المنطقة، ولا ينظر أبدا لأي منهن أثناء سيرها في الشارع.. بل كان يعاقب كل من يتجرأ على أي منهن أو يجرحها..

أما الحي نفسه فقد عاش حصارا وذلا ومهانة طوال 5 أيام. كانت الشوارع والحواري والأزقة خالية إلا من المخبرين وأمناء الشرطة وعساكر الأمن المركزي.. قاموا بحملات عشوائية واعتقلوا الكثيرين وضربوهم في قسم شرطة حدائق القبة وفي البيوت والحواري.. اعتدوا على البنات والنساء.. أهانوا الأمهات وتعمدوا إذلال الآباء أمام زوجاتهم وأبنائهم وبناتهم. وبعد أيام قليلة سمعنا أنهم قتلوا السيوفي في الصعيد.. تعقبوه وحاصروه هو ومن معه.. قتلوهم جميعا.

تناثرت الشائعات عن مقتله وعن المعركة الحاسمة وأن الكثرة تغلب دائما الشجاعة.. حكوا روايات كثيرة.. وفي كل يوم كانت الحكايات تكتسب تفاصيل جديدة مثيرة وبطولية مثل السيوفي نفسه.. كبرنا قليلا وكبرت معنا الحكايات وتكاثرت.. وطالت.. كنا نتحدث ونحكي ونروي وكأننا في كابوس سرعان ما سينتهي وسنستيقظ لنجده يتجول بيننا في شوارع الوايلي الكبير وحواريه بابتسامته الرائقة.. يحمي البنات ويعاقب كل من يجرحهن.. يرتدي أحلى الثياب ويحارب معنا ضد الحكومة والمخبرين.

……..

*من المجموعة القصصية “صمت العصافير العاصية” الصادرة عن دار “العين” عام 2014

مقالات من نفس القسم