محمد فرحات
وخاض سيدي السيد العيساوي بحار الحقائق، بعدما تمكن من بحر الشريعة، فتكشفت له الحجب، واغترف من دوحة القرب، فكان من الحين والآخر يلفظ كلمة أو عبارة تكشف عن عظيم المعاني، ولكنه لم يكن في وسعه البوح بكل ما يتكشف له شفقة بالخلق ومحبة، وكان في اليوم الواحد ينتقل من مكان لآخر مما يستغرق فيه الناس، عادة، أَزْمَانًا طويلة لينتقلوا إليه، وكم كان يكره ويتحرج أن تظهر عليه أمام الناس كرامة ، فكان يقول: يتحرج الصالح من إظهار كرامته، تحرجه من ظهور عورته عَفْوًا أمام الناس. فكان الستر والخفاء من أحب أحواله ، فكان يسلم بالظهور تسليم المكره على خوض غمار مصيبة من مصائب الدنيا… فلا ينقطع من ترديد اللهم سلم سلم …
وهل ينسى كيف أنبه يَوْمًا شيخه محمود البنداري حينما جاء لحضرة البدوي….
-أتكثر الالتفات في مجيئك لحضرته؟
-أوحي بعد رسول الله ياسيدي؟
-بل تلازم الأرواح ياسيد..
فيُغشى على السيد، وبعد يوم يهمهم: انتقلتُ إلى مقام الإحسان بعبارة من الشيخ، فكأني أرى الله في كل لفتة وخاطرة، فإن لم أكن أراه فهو يراني.
وكان اليوم من أيام رمضان القائظة، وكان الشيخ طيلة ليلته عند سيدي أبي جمالة المتدهورة حالته الصحية، يلازمه ويطببه مع ولديه جلال وعتمان، وكلما أفاق الشيخ، سارع في تلاوة القرآن، حتى هدأ الشيخ، وانتظمت أنفاسه، واستغرق في نوم هادئ، ليسارع سيدي السيد للإصلاح من شأنه، ولأخذ حصة ضئيلة من الراحة بعد تلك الليالي الطويلة التي قضاها بجانب الشيخ، ولكنه ما أن ولج عتبة داره حتى أتاه جلال مُسْرِعًا…
-أبي يُحتضر ياشيخ؟
فيسرع معه الشيخ سيد ليسمع تهليل أبي جمالة…
لا إله إلا الله..لا إله إلا الله ..وكأنه يقود حضرة البندارية، فيقترب منه الشيخ فإذا وجه أبي جمالة ينير كالبدر في تمامه، وإذا به يهتف مناديا مُرَحِبًا: “مرحبا برسول الله …ويسلم الروح، كأمانة طال حملها…”
يشرف الشيخ سيد على تجهيزه، ويصل سيدي أحمد الصعيدي بدون إخبار من أحد إلا أنه علم بالخبر منذ فجر اليوم، فأسرع من القاهرة مُسْتَقِلًّا أول قطار…
وتُصَلَّى الجنازة على الشيخ، وتفتح مقبرة عائلته لاستقباله.
وكان من عادة الشيخ الإشراف على أسر اليتامى والأرامل يقضي حوائجهم، ويبرهم ويتولى تربية أبناءهم بنهجه القرآني المنير، وتأبى جنازته السير في المسار المعتاد من الجامع للمقابر مباشرة، فتمر على كل أسرة من تلك الأسر تودعهم، كأنها تطمئن على أحوالهم كما كان يطمئن في حياته، ولا تبارح مكانها إلا بإقامة الحضرة البندارية، وهكذا سار الأمر من أسرة إلى أسرة، حتى سلكت الجنازة طريق سيدي شبل لتزوره…فيقترب الشيخ سيد منها ويخاطبها جَهْرًا…
-ياسيدنا كلنا يعرف مقامك، واليوم صوم فارفق بمشيعيك…
فتنصاع الجنازة، وتسلك نحو المقابر، ولكنها تأبى مقابر الأسرة، وتسير نحو خلوة الحاج حلمي البكري، فيكبر الناس ويجاور سيدي أبو جمالة أحبابه برزخًا كما جاورهم دنيا…لتظل جنازة أبي جمالة مما يُؤَرِّخ به في القرية، فيعدها الناس من أيام الله، لايفتأون يحكونها جِيلًا بعد جيل.
كَذَا بِأَبِي جَمَالَةٍ رَقِىَ الْعُلَا
بِما قَرَاَ الْقُرْآنَ سِرًّا وً مُعْلَنَا
فَيَا ذَا العُلَا نَدْعُوكَ أَكْرِمْ نُزُولَهُ
وَبَلِّغْهُ مَا يَرْجُوهُ مِنْكَ وَ عُمَّنَا.
***
هي رحلة الحج المأمولة من زمن طويل، واستغرق سيدي السيد العيساوي بكليته في العبادة، لا يفرغ من عبادة حتى يشرع في الأخرى، لتنتهي مناسك الحج، وكان الإنهاك قد أخذ منه مَأْخَذًا عَظِيمًا.
يستعد للرحيل من مكة إلى المدينة حيث موطن الجمال والرحمة، تنسيه أشواقه ما ينتابه من تعب وإرهاق، وما أن تلوح المآذن من بعيد حتى يطير القلب بأجنحة من حنين.
تقف بهم الحافلة أمام مستقرهم، فيسلم حقيبته لأحد مرافقيه، ويسرع مُتَّخِذًا القبة الخضراء دَلِيلًا، وما أن يصل للروضة حتى ينشد…
“في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي.”
فتلاحقت المشاهد تَتْرَى أمام ناظريه…
” سافر سيدي أحمد الرفاعي ومعه جم غفير إلى مكة ثم المدينة، ووقف عند الروضة وقال: السلام عليك يا جدي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام يا ولدي. فتواجد الرفاعي وقال:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه دولة الأشباح قد حضرت فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي
فانشق التابوت ومد النبي يده إلى الرفاعي ليقبلها أمام جمع كبير من الناس يزيدون على التسعين ألفا وكان من بينهم عبد القادر الجيلاني وعدي بن مسافر وحيوة بن قيس الحراني.”
فسبح في بحر الأنوار، وكانت لحظة بعمر، وعمر بلحظة، فأغشي عليه، ولما أفاق انتابته الحُمَّى لاتفارقه إلى حين رجوعه الوطن.
***
وما كانت الحمى في باطنها إلا شوقا مستبدا لا راحة، ولافكاك من لهيبه المشتعل، ومنذ حادثة الحجرة النبوية المنيرة، تبدل حال سيدي السيد العيساوي فما كان يخرج من خلوته إلا للجامع الكبير لإلقاء باب من مسلم يعقبه بابا من البخاري، وكلما قال” قال سيدي رسول الله صلى اللهم عليه وآله”، إلا ولاكت ألسنة لهيب الشوق فؤاده، ففاضت حرارتها، وتهادت جداول عشقه دموعا تسيل من عينيه، فغلب حال البكاء معظم أيامه، وساعاته…
لم يطق سيدي أحمد الصعيدي البقاء في القاهرة فهرع مسرعا لشمياطس، لا يبارح شيخه في تنقله، أو مستقره، يكاد يذيبه الأسى فقد طال أمد مرض شيخه غير المتوقع…
وها قد تخرج سيدي الشيخ الحسيني في كليته، وجاء تعيينه معلما للغة العربية في مدينة الأقصر، فرح سيدي السيد، وأوصاه بصحبة الصالحين،” عليك يا ولدي بالساحة الرضوانية بإسنا الغراء بصالحيها، ولاتنس الفاتحة بروضة سيدي أبي الحجاج الأقصري رضي الله عنه…” ثم غلبه البكاء، وبكى المحيطون لبكاء الشيخ. شعر الجميع أن الشيخ يودع ولده الحبيب.
وككل ليال التوعك المؤلم لازم سيدي أحمد الصعيدي شيخه ، وكلما وضع خرقة مبللة بالماء على رأس الشيخ، سرعان ما جفت رطوبتها فيبدلها بآخرى يراوح بين خرقة مبللة و أخرى ملتهبة بالتهاب جبين الشيخ، وحينما لم تخمد الحرارة غلب البكاء سيدي أحمد شفقة وحزنا على سيده الحبيب، فانتبه الشيخ على نحيبه …
-يا أحمد صل على من لم تبارحه الحمى شهرا وعشرا …
فمسح دمعه مسرعا، ونطق بصوت تخنقه العبرات..
-صلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وآله.
-يا أحمد …هي رحلة لا تتوقف، ولا يملك الراحل حيالها غير الإذعان، حينما نسمع صافرة القطار، ننتفض من مجالسنا، يختلج القلب حينما يعاين بدايات المغيب، ولكن الأمل يحدوه فينسيه اختلاجه، وتغيض دموع الشوق حين معاينة المعشوق، والذي ذاب الفؤاد دهورا بتمنعه، ويحه كم ملك، وكم استبد بعلوه، وحضوره الغائب، وغيابه الحاضر، وكلما اقترب ابتعد، وكلما ابتعد اقترب، حار العقل فيه، ولما حار سلم، ولما سلم ذاق، ولما ذاق ذاب، ولما ذاب غاب، ولما غاب فنى …بكلمة تنحدر من سطور اللوح يغشانا الفرح السرمد، حينها تصالحنا الأيام، لنغيب عن الأيام، وتسيل مرارة اللوعة رحيقا، أبدا نرتشفه، ولايفرغ الكأس مادام الكأس، ومادام الساقي…
– ليس بعد ياشيخ، مازلت في ميعة فتوتك، كيف تطيب الحياة بعدك..
– قلنا لافراق، مقامي في قلبك، ورحلتك في عيني، أراك الآن هناك في السبيل..!
-أي سبيل يا شيخ؟
-هناك عند الحرم الزينبي، هناك ولي عصره يتنكر في صورة عسكري…
-من ياشيخ؟
-ورده الصلاة على النبي، وشيخه النبي…
-أين…؟
-قلنا في السبيل مقامه، ابحث عنه ولازمه….
تزيد الحمى على الشيخ الجليل، ويغشى عليه…يصرخ سيدي أحمد ” الطبيب…”
***
وكان يوما كدهر، ارتجت الشهداء كلها لانتقاله، واستعدت القرية كلها لوداعه، حتى مدارس القرية وأجوارها قد غلقت أبوابها، وهرع تلامذتها ومعلموها ناحية دوار العيساوية وساحتهم الكبرى، يذكرون أيامه، وكيف عانى بعد مجيئه من رحلة الحج حمى لم تنقطع، منهم من يحكي عن حادثة الحجرة النبوية، وأن نفسه النبيلة الكاملة لم تحتمل وثبة روحه المتقدة عشقا، منهم من يزيد على الأحداث ما ليس منها، ومنهم من ينقص، ومنهم من يصحح، ومنهم من ألجمته الصدمة فسكت، ومنهم من يكبح جماح دموعه، ومنهم من أطلق عنانها، إلا أن يافعا نحيلا، أسمر اللون، دقيق القسمات، من طلبة العلم قد انغمس بكليته بقراءة عذبة واضحة لآي القرآن الكريم، يكفكف دموعه من آن لآخر، هو سعيد سليم، من شباب البندارية المبشرين، وأخلص أبناء جيله لتراثها وأورادها، يقرأ كل مايصادفه بنهم لكل ورقة قد سطر بها حرف.
ليظهر الجثمان محمولا خارجا من المندرة لمستقره، حيث يجاور إخوانه وأحبابه البندارية حيث خلوتهم؛ خلوة الحاج حلمي طولان البكري حيث يرقد وخادم المقام سيدي محمد البسيوني، وسيدي محمود أبو جمالة، وكان آخرهم لحاقا سيدي السيد العيسوي، وبجوارهم خلوة سيدي العيساوي الكبير…ليجتمع الخمسة الأوائل حيث بشرهم شيخهم سيدي محمود البنداري بالرفقة في الدنيا والبرزخ والآخرة…
لم يتكلم الشيخ أحمد الصعيدي كلمة، كانت دموعه تترجم ما يزاحم قلبه من آلام … حمل
آلامه على عاتقه وانصرف في صمت لايلوي على شئ، ولا يلتفت لشيء، كل صور الدنيا وعلامات الطريق المسرعة الملوحة له بنافذة قطاره كانت صورة شيخه، كل كلمة من مجاوريه، كل نداء عابر، كل ضحكة مسافر، كل بكاء طفل لم يكن غير صوت شيخه، ينزل من قطاره لا يدري أين يذهب، لا يعلم وجهة، سقطت كل العناوين من ذاكرته، استوت الأماكن في منظرها الكالح العابس، استحال الفراق نارا تلتهم فؤاده المكلوم، إلى أين؟ أخذ البهجة والأنس وذهب، وهل سترفق به الساعات كرفقه، ومن يحتضن فؤاده بعده ومن يربت على كاهله إثر كل صدمة وضربة تسددها غارات الدنيا…
يسير ويسير على قدمه يتجاوز المحطات وبجوار الجامع الزينبي يلوح له من بعيد السبيل الأثري، لم تقع عيناه عليه إلا الآن وكأنه نبت من الغيب، ومع مرور القرون الطويلة على جدرانه ونوافذه وعتباته ، كأنه ولد بعينيه لتوه…يتجاوز عتبته العتيقة، وحضرة متسعة مكتملة إلا فسحة قد خلت، وكأنها تنتظر من يجالسها، وإذا بالشيخ يناديه …
-يا أحمد قد انتظرناك كثيرا…!
…ويعطي إشارة البدء…وتتلى الصلوات ترددها أنفاس أرقها العشق…
”
الصَّلاةُ والسَّلامُ عليكَ ياسيِّدى يارَسولَ اللهِ. يانَبىَّ اللهِ. يا عبدَ الله ـ وكفاكَ شَرفاً أن تكونَ عَبداً لِله. الصَّلاةُ والسّلامُ عليكَ ياأمانَ الدَنيا ومَلاذَ أهلِها، ياحِصْنَ الأمةِ ومَعقِدَ رَجائِها. يارَحمةَ الإنسانيةِ وكعبَةَ آمالِها. الصّلاةُ والسّلامُ عليكَ أيها النّبىُّ الرَّءوفُ الرّحيمُ العَطوف، يامَن يَتوسّلُ بكَ إلى الله تعالَى كلُّ مُستغيثٍ ومَلهوف ـ وهَأنَذا يارَسُولَ اللهِ مُستغيثٌ ومَلهوف. أَنتَ لها إذا نَزلَ البلاءُ واشتَدَّ العنَاءُ، أنتَ لَها عِندَ المُلِمَّاتِ واشتِدادِ الأزَماتِ، أنتَ لَها عِنَد احتدامِ الكُرُباتِ وانسِدادِ أبوابِ الفَرَجِ مِن كُلِّ الجِهات.(أنتَ وَسيلَتى قَلَّت حِيلَتى، أدرِكنى يانبىَّ اللهِ. أنتَ وَسيلَتى قَلَّت حِيلَتى، أدرِكنى يانبىَّ اللهِ. أنتَ وَسيلَتى قَلَّت حِيلَتى، أدرِكنى يانبىَّ اللهِ).عليكَ ياسَيّدى يارسولَ اللهِ مِن صَلواتِ اللهِ وتَسْليماتِهِ وتحِيَّاتِه وبَركاتِهِ فى كُلّ لَحظةٍ ما يُناسبُ قدرَكَ العظيمَ، ويَليقُ بِمقامِكَ الكريمِ، ويَجمعُ لك أَعْلى دَرجاتِ الفَضلِ والتكريمِ، وأقصَى غاياتِ القُربِ والتعظيمِ، وعلى آلكَ وأصحابِكَ وأزواجِكَ وذُرّيِتَكَ وأمَّتِك أكملُ الصلاةِ وأتمّ التسليم .”*
====
*(أنوار الحق للشيخ عبد المقصود سالم 102)
أنوار الحق فى الصلاة على سيد الخلق سيدنا ومولانا محمد ﷺ