الخروج من أسر العام واليومي.. التمرد علي الكل

كيرياليسون.. رواية عن الهامش المنسي والأحلام الغاربة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد عامر

تعتمد رواية "كيرياليسون" علي تجميع الأحداث والمواقف المتقاربة والمتباعدة لخلق عالم جديد مليء بالسحر والدهشة رغم عادية الاشياء المهملة الا ان الروائي ينجح في تطويع الاحداث والقضايا الصغيرة جداً المهملة ليبرهن ان الكيانات الصغيرة التابعة - التي تتأثر بالايجاب او السلب بما يصدر عن الكيانات الكبيرة الفاعلة - قادرة علي خلق عالم جديد يفرض قوانينه الخاصة التي ربما تتعارض مع مجموع القيم او تتخلي عن هذه القيم التي اخلصت لها يوما، ان العالم الجديد المستقل عالم مزدحم ايضا فليس معني خلق عالم بديل هو الاخلاص لقانون هذا العالم.

 سوف نجد ان الاشياء المألوفة هنا لاتعلن عن فاعليتها وسحرها ودهشتها ورؤيتها العميقة من خلال المشهد الفردي ولكنها تعلن عن ذلك من خلال التلاحم والمزج والتوازي بين مجموع المواقف والافكار والثقافات والازمات، فهذه الاشياء هي المشكل الاساسي والعامل الفاعل لكشف العالم وفض غموضه، نلاحظ ان الرواية تبدأ بالهامش وبحالة من الصراع بين الجهل والوعي.

 (المجد للشيطان معبود الرياح.. من قال: “لا” في وجه من قالوا “نعم”)

– شيطان يابن الكلب يا بايظ.. دي كتب تقراها.. الناس تقول إيه؟ ابن الشيخ تيسير من عبدة الشيطان؟! “صدي صوت”

ونلاحظ أيضا ان هذه الهوامش التي اعتمد الكاتب علي وضعها أعلي الصفحة كمدخل لكل فصل ولحظة تنوير تلعب عدة ادوار مهمة، فبتجميع المداخل نستطيع أن نمسك بحالة كاملة تكشف فكر وفعل وانهيار الشخصيات، فالبطل الذي يقرأ العظيم »أمل دنقل« متحمساً نجده في الرواية قارئا غير فاعل او مؤثر رغم عمق فكره ووعيه الا انه شخصية مستسلمة سالبة، والأب الرافض لكل ما هو ضد الدين في العلن يفعل ما هو ألعن مما يرفضه في السر.. الخ.

“الحق يالا!!!

الواد ناجح ميعرفش أن أبوه بيروق شريفة في المخزن”. “صدي صوت”

“ماهي البلد مليانة ناس بتعرف تطبطب وتداري، وتعمل مش شايفة.. محدش قال عليهم معرصين ليه؟!”. “صدي صوت”

عنوان الرواية أيضا نجح في الحفاظ علي المنطقة الوسطي بين المباشر والرمزي “كيرياليسون” أو “ارحم يا رب” هي مباشرة لفئة ومجهولة لفئة اخري، الرواية ايضا تحافظ علي هذا الموقع المتميز بين المباشر والرمزي، هي رواية ترتكز علي أعمدة قوية وتقيم جدرانها من مادة تناسب البيئة والشخصيات لتمنح للقارئ دفئا وصدقا يفتقده، هي أيضا رواية جادة تنبش في جوف المسكوت عنه وتزيح الغبار عن أحداث مهملة جديدة وهواجس وعذابات جديدة تخص انسان هذا العصر، وتتفاعل مع القارئ الذي مل من البحث عن ذاته داخل أعمال تعتمد علي الماضي، والمكان هنا رغم وجوده “حي الزرايب” إلا أن الروائي نجح في الزوج من أسر المكان لصنع عالم متكامل فاستطاع ان يخرج من تقديم خصوصية للمكان وإظهاره بشكل مختلف جذاب الي هم انسان ورؤية ثاقبة واعية، راصدة التحولات الاجتماعية والعمل علي كشف الشخصية من الداخل وتحليل شخصيات الرواية لبعضهم كل وفق رؤيته للآخر ويحاول البطل ان يلقي باللوم علي الماضي أيضا.

“أهذا كل ما اذكره عن حياتي؟!

ضفادع، وخال ضعيف لم يتمسك بموهبته، يبغض زوجته، ويظهرها كجان علي مستقبله بطمعها ومطالبها الكثيرة.. أهذا كل ما اذكره؟!

جدة قوية تسببت في خلق جيل من الضعفاء، بعض الهيافات الجنسية والشخصيات المبتورة، والأب المتلون الذي لا اعرف حقيقته حتي الآن..”

هذه الفقرة تكشف عن رؤية البطل لمعظم شخصيات الرواية وأيضا سوف نجد ان “الشيخ ثابت” فسر الجملة التي خطها البطل بداية جواب غرامي لحبيبته “ريم” فسرها علي أنها جملة مدح وتقرب وابتهال وأضاف هو اليها فحولها من “جسدي شمعة تذوب بمحبتك” الي “جسدي شمعة يا مولاي. جسدي يذوب يا الله” أيضا الرواية تخرج عن آلية الكتابة المألوفة وتسعي لخلق اسلوبها الخاص في التوصيل عن طريق هذا التكامل المحكم بين اللغة والحدث والشكل مثل مثلث، فالروائي يرسم باللغة القاعدة والاحداث ضلع ويشكل الضلع الثالث الشكل من خلال تفاعل القارئ ليفرض الشكل المثالي الذي اختاره فيمكن اعتبارها رواية تقليدية بتجاهل مداخل الفصول والفلسفة والنظريات والمعادلات وتنظيم الحدث وتأويل الأشياء مجردة من تعدد أبعادها، ويمكن ان نعتبرها رواية تحليلية بالتركيز علي فضفضة الشخصيات وتتبعها ولكنها رواية حداثية اضافة للرواية الجديدة، والاضافة هنا اضافة فارقة في تاريخ هاني عبد المريد وللجيل الجديد من كتاب الرواية، فالرواية محكمة متعددة المستويات ويفصل بين كل مستوي خيط رفيع جداً وتعتمد الرواية التقطيع والمشاهد البصرية وتداخل الازمنة وتفاعلها وتفاعل العلوم مع المجتمع “مجتمع الرواية” الجاهل، تخلط بين الواقعي والخرافي، بين السياسي والاجتماعي، حقيقة هي تخلط بين هذه الاشياء دون مباشرة، فالروائي يحرك شخصياته بدقة لتؤدي كل شخصية دورها كما هو بالواقع، ولكن بخبرته لينتقي ما هو انساني معبر ليستخلص منه تفرد الشخصية وتعبيرها عن اكبر فئة من المجتمع، لذلك نجد ان الرواية مهتمة بتقديم قضية، والقضية هنا تبتعد عن مسماها الصادم او الذي يبدو كذلك وايضا نستطيع ان نضيف للكاتب نجاحا آخر في الحفاظ علي هذه المنطقة الوسط فهو يقدم قضية موقعها وسط بين الاهتمام بالحدث واهمال اللغة والشكل لصالح تصدير هذا الحدث، فبعد القراءة الدقيقة نستطيع ان نجد هذا التكامل، فنجد القضايا الكبري تتواري، او بالادق تظهر فقط من خلال الكيانات الصغيرة المتأثرة بايجابيات او سلبيات هذه القضايا، وسوف نجد ذلك في رصد ما يحدث داخل احدي كتائب الجيش بالصعيد، كتيبة المشاة التي يرأسها “عجينة”، ووظيفة ناجح كحارس أمن وتعاملاته مع العاهرات.. اصطدامه دون قصد مع احداهن، اكتسبت سلطة من أهمية زبونها الذي تصعد اليه.

“أتذكر صوتها الواثق يرن في اذني، لكنني تمسكت بموقفي..
ذهبتْ، وان كانت وقفتْ عن بعد ترهبني، حدثته من تليفونها المحمول، لكنني ادرك انه – أيا كان – لن يفعل شيئا، فمن بأعلي لايريد أي خسائر، يود ان تصله البيضة مقشرة، يأكلها وينكر بعد ذلك أي صلة بها”.

كما نجد بعض الفقرات المنقولة من الصحف والاذاعة وتأملها ومحاولة تفسيرها او فك غموضها، ولكنها فقرات خادعة في أصلها وفي رصدها، فهي امور خارجة عن المنطق وبعيدة عن الصدق “الجمهورية 18 مارس/ بوش يوجه في الثالثة صباحا خطابا تحذيريا لصدام، لمغادرة العراق، وإلا فالحرب بعد مهلة 48 ساعة”، “19 مارس/ أعلن المتحدث الرسمي باسم البيت الابيض، أن القوات الأمريكية ستدخل العراق سواء غادر الرئيس العراقي البلاد أو تمسك بالبقاء في السلطة.. الخ”. ثم “وجدت نفسي أفكر هل مصر أنثي أم ذكر؟!
أنثي جميلة.. دافئة، كما تصورها الاغاني لذا فالدول القوية يفعلون بها علي جميع المستويات، بل والمسئولون بالداخل يفعلون بها ويواقعونها بالتناوب ليل نهار”!

هي رواية تقدم شخصيات مختلفة وثقافات مختلفة لذلك تجد ان اللغة متغيرة صعودا وهبوطا، هي رواية صادقة تحافظ علي وضع الشخصية المنتقاة، وتحافظ للشخصية علي البيئة الأصلية المستدعاة منها مما خلق العديد من المواجهات “ضمة” وسكان حي الزرايب.. الاحداث الكبري المنقولة، والفتاوي والتفاسير المصنوعة.. الاحداث الفرعية المهملة، والفلسفة والحكمة.. إنها رواية تحاول فض غموض العالم وتعريته، لذلك نجدها تمر علي جميع المدارس النقدية ولا تتوقف امام نظرية او مدرسة، هي رواية تريد الخروج من اسر الثوابت القيمية التي تخلي عنه الانسان وبدأ يلهث خلف المتغيرات التي حولت الاشياء الي ان وصل العالم كما تكشف الرواية الي مشارك في صنع الخدعة وتضليل الكل، وتغييب الذات والآخر من اجل الوصول الي سراب صنعه الآخر الذي لايختلف عن الاول، هي منظومة يحاول “هاني عبد المريد” تقديمها من خلال “كيرياليسون”.

………………….

نشر بجريدة الوفد بتاريخ 29 إبريل 2008

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم