الجنازة

الجنازة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبدالهادي سعدون

(إلى صاحبي وصاحب تشيمو.. أحمد يماني)

مات منذ سنتين رجل عراقي في مدريد.

كنت قد سمعت بالخبر وأنا في محل طارق (عراقي آخر) في وسط المدينة، عندما مررت للسلام وشراء أغراض من محله لصديقتي الإسبانية التي اكتشفت أن محل طارق لبيع الجملة، يبيع بضائعه بنصف سعرها في المحلات الأخرى. فكانت ما أن تتذكر شيئاً حتى تبعث بي. كنت أغلب المرات أرفض بشدة بعد أن قطعت علاقتي بالعراقيين وأخبار العراق. لم يعد هناك ما يهمني في بلدي، لا صديق ولا أهل، فهل أحن إلى تراب معفر بالدم والبارود فارقته منذ أكثر من عشرين عاماً؟

بالطبع كل أعذاري لا تقنع صديقتي، وعدم أرضائها، يعني ما يعنيه، حرمان من الفراش و زعل لا أول له ولا آخر قد ينتهي بطردي من جنتها، وهذا يعني شهور حرمان طويلة حتى أعثر على من ترضى برفقتي. لذا تعلمت أخيراً أن لا أناقش طلباتها وأمضي مثل خروف مقاد من حبله حتى منصة ذبحه. لا تظنوا أنني أبالغ في الوصف، فالحقيقة أن التعذيب أفضل لي من الوصول بقدمي حتى محل طارق.

الواقع أن المعضلة ليست في طارق ولا في الآخرين، فأنا أعترف انني لم أعد أطيق لغو الآخرين، خاصة أبناء بلدي. ما أن يروني حتى يبدأون بفتق خاصرتهم الحكائية ويرموني بكل ما عرفوه وسمعوه وقرأوه أو شاهدوه. مرة اعترفت أمام مجموعة من العراقيين أنني لا يهمني سماع أي شيء عن البلاد، كما أنني لا أتابع ما يدور في العراق. فقد نبذت التلفزيون منذ فترة طويلة، ليست القنوات العراقية والعربية على الستلايت، بل جهاز التلفزيون نفسه لم أعد أقترب منه في بيت صديقتي وكنت قد تخلصت منه ومن الردايو في غرفتي المتواضعة التي استأجرتها مع عائلة تايلندية لا أفقه منهم حرفاً ولا هم يهتمون بوجودي سوى في يوم دفع الأيجار الشهري. ولكن أن تعترف لهم، كنت أتصور أنهم سيعتقوني و يدركون عدم اهتمامي بكل هذا. لكن الحال انعكس وبدأت ما أن التقي بأحدهم حتى يفاجأني بكل تفاصيل الشهور الماضية، مفصلاً رأيه وما سمعه وقرأه وشاهده. كل واحد منهم (لا يعطي فنتك) كما يقال عندنا، أي لا يمنح متنفساً للتساؤل أو إبداء الرأي أو الهروب حتى.

لأكن صادقاً في وصف لقائي الأخير هذا بطارق. لم أره على عهده، كما كان منشغلاً بمكالمة هاتفية مع شخص آخر عراقي من اللهجة التي كان يتكلم بها، ثم بدى حزيناً وساهماً. ما أن انتهى حتى رأيته يسلم علي بعجالة ثم يأمر عماله ببعض الأشغال ويخبرهم أنه سيغيب حتى العصر لأنه سيمضي خارج مدريد، مضيفاً أنه سيحضر عملية دفن عراقي في مقبرة البلدية. وقبل أن يخرج ناداني ( هي ساعتين وتفض، ومن الله الثواب)، قلت له ولكن من هو هذا العراقي، أنا لا أعرفه؟ وقف بوجهي وقال: الله يخليك يا صديقي، هو الموت له صاحب.. كلها ساعتين نؤدي الواجب ونرجع، لا تقل لي عندك شغل، ترى اعرف سوالفك؟!.

لم تفد احتجاجاتي ولا قسمي بأن صديقتي تنتظرني في البيت، فكان أن أمسكني من يدي ومضى بي حتى سيارته، هناك وجدت سيارات أخرى لعراقيين ينتظرونه، دفعني لأرافقه في سيارته، شغل كاسيت قرآن ولم يسمح لي بأي تساؤل سوى التنصت والإستماع لصوت عبدالباسط عبدالصمد وهو يتلو سورة يوسف الذي أكله الذئب ظناً أو حقيقة.

أفضل شيء في الموت، أو عملية المشاركة في الدفن هذه، أنني لم أسمع أي كلام ولا تعليقات ولا تساؤلات من طارق ولا من أي عراقي آخر سلم علي قبل أن يمضون بسياراتهم الشخصية على أمل أن نلتقي جميعنا في مدخل مقبرة (المودينا) المدريدية.

عندما وصلنا بعد أكثر من ساعة، طلب مني طارق أن أنزل وأنتظره قرب الإستعلامات حتى يركن السيارة في الكراج الغاص بالسيارات. جلست عند دكة قرب شجرة كانت بمثابة علامة للمدخل، دخنت سيكاراً أحمله معي عندما أخرج كي اعاقب نفسي بعدم تدخين الغليون الذي لا ينزل من فمي. حاولت التفكير طوال الوقت بمن يكون هذا العراقي، وحاولت مع نفسي أن أصنع له تاريخاً طالما أن طارق لم يحدثني عنه، كما أن تساؤلي عنه لم يحظ بأي إجابة سوى أنه عراقي وصل قبل أشهر عن طريق المغرب في قوارب الموت، الذي أهداه موتاً مؤكداً، لأنه مرض فجأة ما أن حطت قدماه أرضاً أسبانية ولم يجدوا علاجاً له، وأشاروا في أوراق وفاته بأنه أصيب بنوبة تشنج غريبة لم يألفوا مثلها أطلاقاً، سببت له تخشباً جسدياً وتحنطاً دون العثور على أية مواد غريبة في معدته. مات وحيداً في غرفة في مستشفى مدريدي. أخبرني أيضاً أن الوحيد الذي صلى على روحه، قس عجوز كان هناك بالمصادفة وظن به مسيحياً، يبدو أن الممرضة أخبرت القس بأن الرجل عراقي ومسلم أيضاً، لكن القس كما حكوا لهم (اقصد لطارق نقلاً عن آخرين، وبدوره اخبرني بذلك) لم يجب الممرضة بشيء، بل هز رأسه وبقي بصلاته خاشعاً لخمس دقائق قبل أن يربت على صدر العراقي ويمضي خارجاً.

طال انتظاري ولم ألمح أثراً لطارق ولا أي عراقي آخر. فكرت أن أمضي للبحث عنه في الكراج، ولكنني بتجوالي فيه لم أر أي منهم ولا عثرت على سيارة واحد منهم، فكان أن عدت من جديد لمدخل المقبرة وقررت الإنتظار لخمس دقائق. لم يأت أحد، فكرت أن أعود للبيت لوحدي ولكن موظف الإستعلامات في المقبرة أخبرني أن علي المشي لربع ساعة أو أكثر حتى أقرب محطة وحيدة، وهناك علي أن أنتظر باص المساء. قررت إذا الدخول والبحث عنهم في المقبرة، طلبت معلومات من الموظف، وعندما دقق أوراق دفتر (واردات الموت لهذا اليوم) أشار إلى الجهة المقصودة وترك بيدي مخطط بأسهم ليقيني الوصول السليم لهدفي ودون ضياع في عالم القبور المتراصة.

كأي تلميذ نجيب اتبعت تعليمات الخريطة حتى وصلت النقطة المشار لها، وهناك عثرت على الجمع الذي فاق أكثر من مائة شخص. أقتربت وجمدت حركتي احتراماً لطقوس الموت، ولكن من زاوية متاحة لي حاولت تصفح الوجوه المحيطة بي لأرى أين يكون طارق أو أي من العراقيين الآخرين. ولكن زاويتي كانت ضيقة لم تتح لي سوى متابعة حركات الدفان وتأوهات الأقرب مني. كانت تند بين حين وآخر تنهدات نسوية مما جعلني بشك من أنني عند قبر العراقي لأنني لم اعلم بحضور امرأة معنا. خمنت أنها لا بد وأن تكون زوجته او ابنته أو امرأة أحدهم. لكن مكاني في الخلف وعدم قدرتي على رؤية الوجوه والتمعن بها جعلني خانساً في مكاني. ركزت كل طاقتي على التأكد من حركات الدفان والتوصل لمعرفة إلى أية مرحلة من الطقوس قد وصل. لم يكن لي من مخرج حتى الإنتهاء من المأتم كاملاً لكي أستطيع العثور على طارق ومرافقته في العودة. في الوقت نفسه كنت اشعر بحضور آخرين من الخلف، بعضهم يقف أبعد مني بمتر أو اقل. بدربكات واصوات متنافرة سمعت صوت رجل يأمرنا بالخشوع وبدأت صلاته مردداً جمله الأولى باللاتينية وبعد لحظة صمت أخرى سمعته يردد صلات مريم العذراء والجمع من ورائه. في تلك اللحظة وحسب عرفت أنني لم أكن عند النقطة الصائبة، والقبر الذي أنا بقربه ليس بقبر العراقي، والجمع المحيط بي لا يعرفون عن العراق أكثر من معرفتهم بالعربية.

حسبت وانا أتابع العملية كاملة متأملاً العثور على فرصة للتراجع والهرب، ولكننني بعد فترة التفات لأراقب عملية انسلالي بأنني في الواقع كنت في وسط الحشد تماماً ولا مجال لخروج دون أن اضايق الجميع واثير انتباههم، فقررت الإستمرار حتى النهاية.  مع مرور الوقت كنت أشعر بتدافع الناس من خلفي وكلهم يرغب بالإقتراب أكثر، بينما آخرون قد اتخذوا مكاناً قصياً لهم وصمتوا مثلي في انتظار التالي. بينما كنت أتابع ما اعتقدت انها حركات الدفان أو أحد مساعديه، سمعت من ناحية كتفي الأيمن أحدهم يقول (البقاء لله) ، صاح بها باعلى صوته بإسبانية لا غبار عليها. بعد صمت لفترة، أعاد الرجل جملته بصوت أعلى. حينذاك التفت لأرى وجه صاحب الجملة. لم أتعرف عليه. بعد حين صرخ بصوت اعتقدت انه قد خرج من مكبرة صوت لأن الجميع قد التفت أما ليرى مصدر الصوت أو ليؤنبوه بالنظرة الصارمة. حينذاك وحسب لمحت أكثر الوجوه الحزينة ولم أعرف أي واحد منهم. لكن بعد ذلك لم يعد الرجل الذي على يميني على الصراخ بل خنع قربي حتى أنني لو كنت في موقف آخر كنت سأظن بأنه يرغب باحتضاني.

بصوت أقرب للهمس سألني: رجاء، هل هنا مأتم السيد تشيمو؟

قلت له: الحقيقة انني لا أعرف أسمه، ولكنني لا أعتقد بان اسمه تشيمو فقد سمعت القس يردد أسماً آخر.

زفر الرجل في أذني وخرجت كلماته ممطوطة: يا للكارثة!

ـ عذراً؟

ـ لا شيء، فقط ألعن ساعة حضوري، هذا هو المأتم الثالث الذي أحضره، دون نجاح بأن أصل لغايتي.. لا بد أنهم قد دفنوا السيد تشيمو منذ فترة طويلة، اعتقد انني أخطأت بمجيئي لوحدي.

طمأنته قائلاً: لا تظن أنك الوحيد، انا كذلك هنا بالخطأ، جئت لحضور دفن رجل عراقي ويبدو أنني في مأتم آخر ليس لي علاقة به!

ـ آه انت واحد منهم… رأيت أصحابك قد ربع ساعة، هناك في الجانب الآخر وشاركتهم الدفن.

ـ إذاً انتهوا من الدفن؟

ـ اعتقد ذلك.. هل تريد أن أقودك لقبره، أعرف الطريق؟

ـ لا.. لا أعتقد أنني أرغب بذلك، سأستمر مع هذا الميت الذي لا أعرفه.

ثم سكتنا. فكرت أن الرجل الذي على يميني سيتركني ويمضي بحاله، لكنه بقي صامتاً جواري. سمعت من الوسط صلوات القس ودعائه ووصل لسمعي تنهدات ونحيب بالكاد يتعالى شيئاً فشيئاً،لولا أنني شعرت بالرجل جواري يدفعني للأمام والحشد الذي من خلفنا يتحرك باتجاه القبر. مضيت معهم بصف نسير كرتل عسكري. ما أن وصلت حتى وجدتني قرب النعش الممدد في الحفرة والمغطى ببعض الأزهار وحفنات تراب منهارة فوقه. بحركة لا إرداية انحنيت وقبضت على حفنة تراب ورميت بها على الصندوق وبقيت للحظة مراقباً الخشب اللامع للنعش وامتدت نظراتي للصف المقابل الذي اتشح بالسواد وتميزت من بينهم المرأة التي اعتقدت انها كانت تبكي منذ لحظات لأنها كانت تراقبني بعينين دامعتين ومنديلها بيدها. شعرت بلكمة لقلبي ولم استطع السيطرة على قدمي لكي انهض فساعدني الرجل الذي جاء من خلفي. تقدمت وقبلت السيدة واحتضنت البقية و مشيت بعيداً عنهم لأنني في تلك اللحظة وحسب شرقت بغصة لم اتوقعها وبدأت الدموع تنهمرعلى وجهي دون ان يكون لي قوة على كظمها ولا معرفة تعليل لها. بينما كان هواء المقبرة يلطم وجهي مجففاً دموعي، كانت قدماي قد جابت القبور كلها قبل أن تجد طريق الخروج والمضي مشياً حتى أقرب محطة باص والهرب من هناك.

ما أن دخلت البيت (بيت صديقتي وليس غرفتي المستأجرة في الدار التايلندية)، و قبل أن أسمع تنهداتها التي ستجرني للفراش كعادتها، أو تساؤلاتها عن البضاعة التي أرسلتني لشرائها، دخلت الصالة وأغلقت بابها علي وتمددت في القنفة و رحت في نوم عميق لم أحس فيه على أي صوت. نهضت مع الفجر، لم يكن خيط ضوء قد بان بعد. دخنت وشربت قدح قهوة. لم يكن لي قدرة على متابعة أية فكرة، فرحت أنتظر متابعاً السماء من النافذة وهي تبدل ألوانها كحرباء في صحراء. بعد قليل فتحت جهاز الكمبيوتر لأتلهى بتصفح الأنترنيت قليلاً لخشيتي من ان تداهمني الأفكار نفسها التي أخرجتني باكياً من المقبرة. دخلت بريدي الألكتروني و وجدت بانتظاري من ضمن رسائل أخرى واعلانات ودعايات، رسالة من صاحبي الشاعر المصري أحمد يماني، يخبرني فيها بانه مر اليوم بتجربة غريبة عن الموت، ليس هنا مجال لذكرها وسيقص علي حكايتها ما أن يراني، وفي الوقت نفسه يرسل لي قصيدة يطلب رأيي فيها كتبها من وحي الحادثة التي يؤجل روايتها لي (وبعد أن احتسى كأس نبيذ من القنينة التي جلبتها له من شمال اسبانيا في سفرة أخيرة) يقول.. والقصيدة بعنوان (الجنازة) وهي التالية:

مات تشيمو هذا الصباح.

تشيمو ليس صديقي. لكنه مات.

كان يتحدّث بلا انقطاع كمن يسدّد ديناً قديماً للكلمات

التي على وشك أن تهجره.

غدا سألبس معطفي الأسود وأمضي إلى الجنازة

وعندما أعود إلى البيت سأبتسم لنفسي.

اليوم مات تشيمو،

أحد معارفي،

وها أنا لم أعد غريباً في هذه البلاد.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب