سارة عبد النبي
في مكتب العمل نظرت لأسفل وابتسمت، من خلال ثقب صغير في حذائي طل إصبعي الأوسط، صار علي أن أستبدل هذا الحذاء بآخر جديد، مرعاما كاملا منذ أن ارتديته للمرة الأولى، الأحذية أصبحت تهلك سريعا، كان الواحد يظل في قدمي لعامين أو ثلاثة، صيفا شتاءا لا يشتكي، منذ أيام شعرت بالنعل يخبط الأرض تاركا قدمي اليمنى معلقة في أعلى الحذاء، في جانب خالي من الشارع تفقدته على عجالة، وجدت النعل منفصل تماما من الخلف، صرت أمشي على مهل، ممسكا كامل الحذاء بمقدمة قدمي المقوسة حتي لا ينفصل كليا عني وأنا في الطريق، أو يسبب لي هذا الاحراج بصوته المسموع، ثم اعتدت تلك المشية لأيام، كما أعتاد أي شيء في حياتي وأكيف نفسي عليه، نسيت أن أصلح أمر الحذاء، وعلى كلا هذا وفر علي، لأن هذا الثقب لن ينفع معه اصلاح.
أشعر بالهواء داخل قدمي، مسببا انتعاشا خفيفا وراحة، لماذا لا تكون الثقوب جزءا في مقدمات الأحذية، ستكون صيحة ناجحة، خاصة في فصل الصيف، لن تشعر القدم بالحرارة، وفتحة التهوية تلك ستجعلها تتخلص من الرائحة المكتومة.
كانت خزانة أبي كل ما تحتويه أشياء مليئة بالثقوب، الملابس الداخلية، الجوارب، الأحذية وكل شيء، تمر المواسم والأعياد فلا يدخلها أي جديد، حرم على نفسه تلك المتعة، كان لا يبالي بمظهره كثيرا، لا أعلم إذا كانت تلك عادته قبل حتى أن يزرعنا في هذه الأرض، أم قضت بها فقط الظروف والأحوال، ملابسه كانت دائما فضفاضة عليه، الألوان هربت، أصبحت كالسراب، رقت خامتها، كل خيط يكاد يقف منفردا عن أخيه، كان ذلك يضايقني، ذات مرة بكيت، عندما اضطررت أن أعد له حقيبة صغيرة لقضاء عدة أيام في المشفى، قد كان دخله لتعب مفاجيء ألزمه البقاء فيه، عدت من عنده بعدما تقرر احتجازه، وحدي بالمنزل الكبير الخالي من الجميع، ولكني شعرت خلوه بالذات من نفس أبي وصوته وحركته، على أن أتم مهمتي وأعود في الصباح للمشفى بالأشياء التي يحتاجها، فرشت ملابسه على الأرض أمامي، لا شىء لائق على الإطلاق، كل ما في الخزانة بالي تماما، كان عليه استبداله منذ سنوات، أو على الأقل أن يحتفظ بشىء واحد مناسب، تألمت وانتحبت بصوت عالي، شجعني الفراغ من حولي على اخراج الألم المكبوت، برغم أني لم أكن أجهل الأمر، لكن هذه المرة مع مرضه، مع ضعفه وخوفه الذي سكن ملامحه فجأة، كان له وقعا شديدا في نفسي، للأشياء الجديدة بهجتها دوما يا أبي، لماذا حرمت نفسك سنوات طوال، كان عليك أن تهديها هذه البهجة ولو مرة كل حين، كنت لا تقصر أبدا في اهدائها لأبنائك، و لا أعرف لماذا لم نكن نحن صارمون معك في هذ الأمر، على الأقل حتى نتجنب الشعوربالضيق والندم الذي يلازم الذكريات، حتى السعيد منها.
في الشارع شعرت بالحرج، الطريق طويل، ضوء الشمس كأنه سلط علي وحدي، جعل الثقب يبدو أكثر اتساعا ووضوحا، جعلني أنظرلأسفل مع كل دقيقة تمر، ربما تنظر الناس لما أنظر، ولكني عندما أبدا أمرا خاطئا لا أستطيع التوقف أبدا مهما حاولت، تلك العادة اللعينة، خسرت بسببها أشياء أكثر أهمية،
بالطبع اليوم وليس غدا سأمر على أحد محلات الأحذية، في طريقي لمحطة الأتوبيس منذ أيام رأيت أعلانا عن خصومات موسمية معلقة على واجهة محل، ولكن كيف سأخلع الحذاء بهذه الحالة أمام البائع، سيكون الأمر بالغ الحرج، ربما لن يعرض علي البائع مساعدته على غير العادة، سأكون أكثر راحة وامتنانا لذلك، لو توجد بروفات لقياس الأحذية مثل بروفات قياس الملابس، بالفعل هذه فكرة ضرورية، لماذا لم تنفذ حتى الآن.
استقر رأيي ألا أخلع حذائي أبدا إلا بعد أن اختار ما يناسبني وأطلب من البائع احضاره لي، في غيابه أقوم بالأمر بسرعة شديدة.
بداخل المحل الأحذية مقسمة لمجموعتين، الخصومات تشمل فقط بعض المنتجات، وبمعنى أصح لا تشمل المنتجات التي من الممكن ارتدائها، الأحذية المعروضة بخصومات من داخلها تبدو مثل ورق الكرتون الردىء، نعلها من البلاستيك، جلدها لامع وناشف بدرجة مقززة، عندما جربت بعضها كانت حوافها قاسية، كأن قدمي تغوص في كلبشات حديدية ثقيلة، البعض الآخر كأني أنتعل الأرض نفسها وتغوص قدمي في الحفاء، أما مجموعة لا خصومات فالأسعار عالية جدا، تحتاج لميزانية ضخمة وخطط توفيرمسبقة، من حيث الشكل لم أعرف إذا كانت جميلة أو لا، مسألة الذوق أصلا غير مهمة على الإطلاق، لا دخل لها معي في عملية البيع والشراء أو في أي شيء منذ سنوات، خرجت من المحل وأنا أنظر للثقب الذي سوف يلازمني حتما لبعض الوقت.
أمام إحدى فترينات محل ملابس حريمي توقفت، لفتت نظري مانيكان رشيقة وجميلة، بالطبع كل المانيكانات رشيقات وجميلات، ومتشابهات أيضا بطريقة مملة ورتيبة، ولكن هذه كانت مختلفة، تشبه ميغ رايان في فترة التسعينات، بشعرها القصير المستدير، ونحول وجهها، وذقنها المدبب الجميل، كانت فتاة أحلامي وأنا مراهق، كنت أشاهد (you’ve got mail) فيلمها الشهير مع توم هانكس عندما يعرض في كل مرة، لم أكن أفوت حتى الإعادات، شاهدته حوالي مئة مرة، كانت بريئة وجميلة بدرجة لا توصف، انتظرت دوما رسالة من فتاة تحبني تشبهها، انتظرت رسالة من أي فتاة تحبني، بالطبع هناك البعض أحببتهن، ولكني لم أغامر أبدا برسالة حب، الحب شيء من ضروريات الحياة، الحب هو الحياة بذاتها، فاجأني صوت الست ليلى مراد بالأمس عندما كنت أشاهد فيلمها شاطئ الغرام بحقيقة مرة، جمل متتالية مؤلمة، تأملتها بشدة هذه المرة( دا إللي مالوهش حبيب، ما تشوف عيونه ضي، يقضي عمره غريب، لا له وطن ولا حي، وإللي ما طالش نصيب في الحب ما طال شي). ضحكت بهم، وبصوت عالي عاتبت صورتها على الحائط، كثر خيرك يا ست ليلى، ولكني سأسمحك لأن غناءك لا ينطق إلا بالحق، ولأنك جميلة جدا، رقيقة جدا، عزيزة على قلبي فلا يقدرعلى خصام صوتك الساطع، وملامحك التي يذوب في تفاصيلها نقاء لا يقاوم.
قميص حريمي بلون البنفسج، بأكمام قصيرة، ترتديه مانيكان أخرى، البنفسج لون حزين ولكنه شاعري، شديد الثراء، ينطق بالكلام الذي لم يقال بعد، تمنيت أن أهديه لفتاة أحبها، تمنيت أن أهديه لسلوى. في خزانتي مئات الهدايا لها، مر عمرا كاملا على أول هدية، لم تستلمها أبدا أو حتى تعرف بأمرها، هداياي الكثيرة لها كانت بمناسبة أعياد ميلادها السابقة، في الخامس عشر من يونيو من كل عام أبحث عن شيء مميز أتمنى أن تحبه سلوى، كما أشتريت لها أشياءا أخرى بلا مناسبة، ما أجمل أن تهدي فتاة تحبها بلا مناسبة، ولكني في الواقع أهديتهم للخزانة وليس لها.
سلوى فتاة أحببتها في فترة المراهقة، كانت جميلة، وجهها صغير أبيض، بنمش كثيف على أنفها، عيونها بنية واسعة تشبه عيون ليلى مراد، كانت ملاك بجمالها ورقتها، زيها المدرسي تجعله هى لا يشبه زي باقي الفتيات، فقط لأنها من ترتديه، كنت أراقبها دائما، في سكونها وضخبها، أحتفظت بنبرات صوتها في أذني لكي أصنع حوارا بيننا في أي وقت أريد، أجعلها تردد كلمات الحب على مسامعي، فأمنح نفسي سعادتها القصوى، أدخل الفصل الدراسي قبل الجميع، أكتب لها رسالة حب بخط أنيق، أتقن أنا رسم الحروف فتكاد تنطق من جمالها، مقطع من أغنية للست ليلى مراد( من القلب للقلب رسول عرفت من غير ما تقول، من غير ما تقول). لم أشر أبدا للاسم، حفاظا علي سمعتها، كانت رسائلي من مجهول لمجهول، ودعائي من قلبي إلى الله، كنت أشعر أنها تلاحظ اهتمامي ونظراتي، أو هكذا توهمت، مضت فترة الثانوية العامة وكلا منا مضى في طريق، أنا ذهبت الحقوق، وهي كلية العلوم، كانت دائما هناك صدف تجمعنا، كنت أرى نصف ابتسام، نصف سلام بطرفة عين خاطفة، كنت متأكدا دائما أني ألاحظ ارتباكها المفاجىء عند اللقاء، لهذه الأشياء معاني كبيرة رقص لها قلبي، في خيالي عشت التجربة كاملة، تجربة اللقاء الأول والحديث الأول، اعترافها لي بصوتها الرقيق، بجملة واحدة يملؤها اغراء الأنثي، لقد كنت أعرف دائما.
الخطوبة والزواج خطوات سرت إليها سريعا، أحلام قبل النوم كل ليلة رأيت فيها البيت الذي سيضمنا، كم سننجب من الأولاد والبنات، تركت لها حرية اختيار الأسماء بالطبع، لم أدع شيء يفوتني أبدا، حتي مواقف الغيرة، الخصام والصلح، الروتين والملل الزوجي، تدربت عليها جيدا، واتقنت ردات فعلي تجاهها، كانت قصتي وحدي، ظلت حبيسة عقلي وقلبي، مثل الهدايا التي ظلت في الخزانة.
بعد انتهاء الدراسة فكرت كثيرا وبرغم أن كل شيء كان غامضا، إلا إنني قررت، فاتحت والدي بالأمر، لم يأخذه على محمل الجد، لم ينتظر مني ذلك أنا بالذات دون الباقين، لكني أوضحت له الحقيقة، بعدها رأيت دموعا في عينيه وشفقة، رق قلبه الطيب لقلب ابنه العاشق، قال على بركة الله، كأن فرحة عمري الأولى اكتملت بكلمة أبي، كأن لا وجود لعقبات أخرى بيني وبين سلوى، كل شيء ميسر على بركة الله،
تقدمت لأهل الفتاة، حددوا موعد المقابلة، لم أصدق أن ما عشته خيالا وكان له لذات كبرى تعصف بي سيصبح واقعا لا حدود لجمال لذاته، ذهبت في الموعد، طلبت سلوى أن أحضر وحدي، ارتديت أجمل ما عندي من ثياب، وبالطبع حذاء ليس به ثقوب، حملت معي باقة ورد وشيكولاته، جسدي طائرا يسبق الشوق بخطوة، طوال الطريق اتخيل وجه سلوى وهى تراني لأول مرة بعد أن أصبح كل شيء حقيقة، لم أكن أعرف أن تلك الحقيقة ستفسد خيالا عاش معي سنوات حتى صار جزاء من ذاكرتي كأنها أحداث وقعت بالفعل،
رآتني سلوى وتحدثت معي، شعرت أنها تغيرت كثيرا، تغيرت كثيرا جملة مضحكة بالفعل، أتضح فقط أنها عكس ما تصورت، شخصيتها أكثر حدة وثقل، كأنها جلست معي فقط لتهاجمني في كل كلمة أقولها، لم أفهم لماذا، عندما قالت أنها لا تذكرني، لا تعرفني، تجهمت، كادت أن تقسم لي(فعلا مش فاكراك )، كأن خنجرا زرعته في صدري، بين الموت والحياة، منتهى الألم، في بادئ الأمر تخيلت أنها تنكرني لشيء في نفسها، كباقي الفتيات، ولكن بدا لي بعد قليل أنها صادقة تماما، سلوى حقا لا تعرف من أنا، ظل عابر مر من أمامها، لم يمتلك سببا وجيها يدعوها للالتفات، عدت للمنزل محطما، تائها بين واقع مر وخيالا أصبح أكثر مرارة، بعد أيام جائني الرد بالرفض، لم أحزن أكثر مما حزنت، بالعكس كان الأمر أكثر راحة، بعدها بشهورعلمت بخطبتها لطبيب يقطن في حيها، تزوجت سريعا وأنتهى كل شيء.
لا لم ينتهي كل شيء، تجمعنا الطرق أنا وأنت مرات يا سلوى، أراكِ وقد صِرت أم لفتاة جميلة أريد أن أقبلها، وألقى عليك السلام ولو مرة، ولكن بأي حق( من بعيد يا حبيبي أسلم، من بعيد من غير ما أتكلم، علموني أصبر وأداري لوعتي وأديني بتعلم، من بعيد يا حبيبي)، أخفض رأسي في الأرض حتى لا أشعر بالاحراج حين تلتقي أعيننا، والحق أبدا لم تلتقي أعيننا، لأن في كل مرة تمرين بقربي، تشهد نظرتك الساهمة بعيدا، الغيرمتكلفة تماما، على صدق قسمك القديم، أنكِ لا تذكرني، لم تعرفيني يوما، ظل رجل لا يمتلك أسباب الالتفات إليه.
قابلت بعض أصدقاء العمل يتجولون مثلي بين المحلات والمقاهي، فغدا عطلة، نظرت لأحذيتهم، لم تكن رائعة ولكنها سليمة تماما بلا ثقوب، الأستاذ عبد الحميد زميلي في المكتب هناك، يجلس على مقهى مع جمع من أصدقائه، وجيها، أنيقا دائما، يرتدي حذاء بني برباط، ذو وجه ضاحك ودود، أينما وجد توجد الضجة والانبساط، الأستاذ عبد الحميد على النقيض مني تماما، سيبلغ الستون قريبا وكل ما فيه ينبض بالحياة، يضحك بصوت عالي مرح، يهتز جسده كلما تحدث بحماس كأنه شابا صغير، فارقته زوجته العام الماضي بعد مرض عضال، ولا أولاد لديه، صار وحيدا تماما مثلي، لكنه تخلص من حزنه سريعا، سمعته يقول أن على الانسان إلا يترك نفسه يتعايش مع الأحزان ويؤلف قلبه عليها، أذا مر وقتا طويلا صاحبت فيه ألمك، سيصعب عليك أن تتخلص منه، حتى إذا أرادت ذلك بكل عزم،
كل ما يملك الآن هو حب الأصدقاء وهيبته في مجالسهم، الكل يعرفه ويقدره، يزداد اعجابي به لذلك، لم يدع نفسه يمر بين الناس كالظل، عندما أتأمله لا أجد أن الشيخوخة في حد ذاتها شيئا تعيسا، حقا إنها تغيركثيرا في مظهر الإنسان وتؤثرعلى صحة بدنه وقدراته، ولكن أحيانا لا يصبح هناك فائدة للمظهر الشاب والجسد الصحي طالما كانت الشيخوخة تصاحبك معهم حتى وأنت تفعل أي شيء لا علاقة له بوجودها، أذا غابت عنك تستدعيها أنت بكامل وعيك وارادتك، هذه هى التعاسة الحقيقية، تصاحبك وأنت تفكر وأنت تقرأ وأنت تعمل، وأنت تأكل أو حتى تنام. كأن تسرقك من وسط الصحبة المرحة، من التواصل الحقيقي مع الناس، تقيم جدارا عازلا بينك وبينهم، فلا يعرفونك ولا تعرفهم، كان هناك كلام يجب أن يقال، ومشاعر يجب أن تصل، سجنوا في مكان ضيق بداخلك،
في محطة الأتوبيس فاجأنا المطر، بعضهم احتمى بحقيبة في يده، وبعضهم استقل سيارة أجرة سريعا، خفت الجموع المنتظرة، أما أنا فتركت له نفسي على غزارته، المطر شيء فريد، لن أهرب منه أبدا، معجزة سماوية أتمناها وأنتظرها، يذكرني بالطفولة البعيدة، بعض قطراته تسقط على وجهي تزيل هموما وتنعشني، يسقط في ذلك الثقب ليمتلأ قدمي بالماء، ليمتلأ داخلي بالماء،
تمنيت أن يتأخر الأتوبيس قليلا حتى أشرب عطايا السماء على مهل وأتذكر،
تذكرت مكاملة أختي الصغيرة أمس، اغراء صوتها الحنون لي بالزيارة المؤجلة، وعدي لها أن تنتظرني على الغذاء اليوم، فقط نص ساعة بعد العمل وسأكون أمامك،
حقا أنا لا أريد أن أثقل عليها، ظروفها هى وزوجها ليست على ما يرام هذه الأيام، وهي تكلف نفسها كثيرا، تريد دائما أن تعد لي كل أصناف الطعام دفعة واحدة حتى تعوض حرماني الطويل من تدليلها لي، كنت أتمنى أن أساعدها قليلا كالماضي، أن أحمل بعض الهدايا البسيطة لصغارها، حتى القليل الذي كانت تناله مني أصبح غيرمتاح.
أبتئس كثيرا عندما يستقبلني وجهها الجميل بالهموم مرسومة عليه، حتى لو ابتسمت تلك الابتسامة الثقيلة الذابلة، أبحث فيها عن الوردة المتوهجة التي كانت، فلا أجدها، أصبحت أهرب من زيارتها حتى لا أراها على هذا الحال، كأن تأجيل زيارتي لها يمحو همومها وألامها، صارت الأنانية جزاء أصيلا مني، كانت نفسي القديمة ترق لحال الغريب، الآن أجنبها الأحزان قدر المستطاع، أترفق بها طوال الوقت كأنها زجاجا سينكسر، الشيء الأكثر حزنا من الحزن هو أن تكون نفسك غير قادرة علي منحه بصدق كمواساة بسيطة لأجل الأحباب.
للمطر طقوسه عندما يسقط، ندعو ونبتهل طويلا مثل أمنا، كنا صغار، نراها تتمتم بشفتيها، تنظر للسماء وتذكر الرب، دعواتها الغير مسموعة يتسرب منها الدفء إلينا، فنقلدها، نتفق على دعوة أو أمنية، كأن يجلب لنا والدنا الشيء الفلاني، أو تطبخ لنا أمنا شيئا مميزا، كنت أنا ونجوى فقط من يعرف هذا الرجاء الساذج المتجهه للسماء التي تفتح ذراعيها لعقولنا الصغيرة وكلماتنا المضحكة، تبذل لنا المطر لتذكرنا أن نبتهل،
كنا نصنع مراكب ملونة من الورق، نكتب عليها أسامينا ونقيم مسابقة، الخاسر فيها يحمل وحده مياه المطر على رأسه لأسفل البيت، نحدد نقطة الانطلاق ونقطة النهاية، نضع المراكب في المياة المتكومة على سطح المنزل، نصنع شيئا كمروحة ورقية صغيرة تساعدنا في دفع الهواء في اتجاه المراكب لتمضي في رحلتها المعلومة، لم نكن نهتم بالنتيجة ولكن بالضحك عندما تفشل الخطة كأن تغرق المركب أو تغير اتجاهها إذا كان هناك طيار هواء قوي معاكس،
صارت تلك الطفلة التي جاءت للدنيا بعدي بثلاث سنوات أم لثلاثة أبناء، عندما أتامل بعض التجاعيد الرقيقة تزداد في وجهها أفزع، إذا استرعى انتباهها تأملي تضحك، يا أخي قفزت فوق حاجز الثلاثون بسنوات، صرت امرأة عجوز، أمازحها، وأنا أكبر منك، تداعب ذقني مداعبتها المفضلة لي كأنها تخفف عني، وهي تقول لا أنت ستظل صغيرا للأبد،
وأنتِ ستظلي طفلتي مهما مر عليكِ السنون، عشنا أعواما طويلة وحدنا، كنت لها أبا وكانت لي أما حنونة وقلبها خفيف، تخاف علي من الهواء الطائر، تنتظر عودتي دائما بلهفة متكررة كل يوم لا تقل، اشتاق لدفء العائلة وونسها فأعود إليها مسرعا مهما كنت أخطط أن تطول غيبتي، فكرت في السفر مرات عديدة وعدلت، كلما أتصورها وحدها بين الجدران، بين أنياب الخوف عندما تطرق يد غريبة الباب، كلما جاء وقت الطعام فلا تجد من يشاركها لحظات الجوع والشبع، كلما جاء عليها الليل تنزوي في عتمته، تحاول أن تنام سريعا، تشتهي سماع الأصوات حولها في النهار، ولكنها تفزع حقا لواقتحمت عزلتها وصمتها في الليل.
عندما لمحت لي برغبتها في الزواج اندهشت، ظننته شيئا من العجائب، فكرت أن طفلتي لن تكبر للحد الذي تشتهي فيه الرجال، شريكتي الأبدية التي ستنقذني من أشباح الوحدة، من فراغها وصمتها الثقيل، بين ليلة وضحها صارت جزءا من عائلة أخرى لست فردا فيها، زوجة لرجل، أم لصبي وفتاتان، قطع صغيرة سقطت منها وأعيد تشكيلها في صورة أبناء، عندما أراهم أشعر أنهم أبنائي أنا، أريد أن أهديهم عمري محبة وكرامة لتوأم الروح، أضمهم لصدري طويلا وأتنفس معنى وصال الضنا، ثم أمنع نفسي طواعية عن أوهامها السفيهه، للبيت رب يحميه، للأبناء أب غيري، مستعد أكثر مني أن يضحي ويبذل من نفسه لأجلهم، حقيقة مؤلمة،
في بيتها في صحبتها هى وأبنائها أشعر بالأمان، ولكن لا أشعرأبدا بالراحة، شعوران متناقضان يتواجدان بداخلي في اللحظة ذاتها، تهتاج نفسي بالغيرة والتوتر، كأني أريد أن أسترد حقا مغتصبا، هذه المحبة، هذا الحنان، هذه الطاقة الفياضة التي تقدم لي لوقت قصير الآن ما هى إلا الفتات مقارنة بأصلها، بمقدارها الحقيقي.
في حضور رب البيت أشعر بالغربة، أشعر بأني على موعد مع نزال غريم، أناوشه بالكلمات الجامدة في صورة هزار، أرى صورتي في عينيه سخيفا مبتذلا فاصطنع له محبة زائفة، وما في القلب يظل في القلب، أقاوم هذا الشعورالذي يبدو شاذا وأرفضه، ولكن هذا لا ينفي وجوده دائما بداخلي، لنؤجل هذه الزيارة التعيسة.
أُفضل الركوب بجانب السائق، أطلب منه أحيانا أن يدير مؤشر الراديو بحثا عن أغاني للست ليلى مراد، عندما أقول الست يظنها أم كلثوم، أكمل الاسم فينظر لي باستغراب، أولا إذا كانت أم كلثوم الست، فليلى مراد هى ست الستات، ثانيا كيف لا يحب الجميع هذا النور الذي يشع من نجمة براقة في الأفق، هذا الخمر المسكوب في كأس من بلور، هذه الحنجرة التي تحتوي على كل الحنان الأنثوي الصادق، ليتني أموت وأبعث فيها.
أشعر بدوار خفيف ولطيف في رأسي عندما يسرع السائق، الدنيا ستنتهي في غمضة عين، انتظر بشغف، ( دوس على الدنيا وامشي عليها أنا ولا أنت لينا مين فيها يا أسطى). أرى الصور المتحركة تمر سريعا ولا تترك عيني تمسك بشيء من التفاصيل، عبث، مثل الحياة تماما، مثلما تغافلنا وتتسرب من بين أيدينا، فلا تجد نفسك في النهاية امتلكت شيء، أو راقبت شيء، أو تعلمت فيها شيء.
عندما صعدت الأتوبيس كانت هناك سيدة تجلس في المقعد الذي بجانب الباب، فجلست بالمقعد الآخر القريب من السائق، تأففت وانزعجت بشدة، اشاحت بوجهها بعيدا، أزاحت جسدها الضخم ملتصقا بالباب، لم أبالي بها، جلست مستريحا في مقعدي، هذا أمر متكرر بالنسبة لي، لو تعرف هذه السيدة أو غيرها أني فقدت الرغبة في النساء، كل النساء، لما أشمئزت هكذا، لما خافت من جسد الذكر القائم بجانبها.
لم أمارس الجنس طوال حياتي وأنا رجل على مشارف الأربعين، كنت أفكر في الأمر في فترة سابقة على أنه مأساة حقيقية، بل هو أكبر مآسي حياتي، لم أكن أريد أن أصدق هذا، أرى عذريتي كابوسا آن له أن ينتهي بأي وسيلة، كان الامر يتجسد ويلح علي عندما يمر أمامي طيف أنثي، أو تشم أنفي رائحة عطرها، أتابع في صمت محموم أجساد الفتيات وهي تتحرك، وهى ساكنة، تتعلق دقات قلبي بخصلات شعورهن المتطايرة، بالطبع لم أفكر يوما أن أستبيح جسدا أو أؤذيه، كان الموت أهون عندي، عندما كنت أفرج عن الرغبات والحسرات المكبوتة في صدري بطريقة أو بأخرى كان يأكلني الندم والألم بعدها، ثم صرت أشفق على حالي وأرثى لها، حتى أخذتني الشفقة لمكان آخر، منذ أعوام توقفت عن كل شيء دفعة واحدة، ليست توبة بقدر ما هو اشمئزاز، ليس توبة بقدر ما هو توقف نهائي عن أسباب الفعل وليس الفعل فقط، الرغبة الفعلية والاحساس بالأشياء صارت عندي عدم،
يقال أن الجنس شيئا رائعا، وأنا لم أعرف هذه الحقيقة أبدا، ما شعرت فيما أفعل بشيء من المتعة أو الراحة، هي فقط لحظة استجابة آنية سريعة لوضع حد لحالة الرغبة المجنونة التي كانت تسيطر علي، الانتظار الطويل للعلاقات السوية، والثبات الذي يشبه الموت، جعلني تأقلمت مع مأساتي وأحببتها، حتى صارت جزاء مني، لا أتصور نفسي أبدا أقترب من أنثي، كأني أصبحت شخصا آخر، ولد منزوع الرغبة، منذ أسابيع قليلة، تكالبت علي أختي الكبري والصغري في موضوع زواج، فتاة لا أعرفها تصغرني بعشرة أعوام دفعة واحدة، أي مأساة كانت تنتظرها، لم أعرف ماذا أقول، بعد مناقشات طويلة بين طرفين أحدهما أصم والآخر أبكم، قرروا ونفذوا، تقدموا للفتاة، جاءهم الرد بالرفض بالطبع، كان يخفون علي الأمر حتى لا أتألم، ربما في نظرهم هي آخر فرصي لعمل أسرة، لا يعرفون أني تنفست الصعداء، شعرت بالسكينة تغمر نفسي بعد يومين من التوتر، من تقدير احتمالات القبول والرفض.
الثالثة، ساعة ذروة الخروج من المدارس، الشوارع مزدحمة بالطلاب، يمشون في مجموعات سعيدة، كأسراب الطيورة الحرة، يتناولون الطعام بلا تكليف، يعطون حرية كبيرة لحركة أجسادهم، يعلنون عن أنفسهم بكل الطرق في كل دقيقة تمر، يثرثرون أحاديث تافهة لذيذة، عن كل شيء يتحدثون بجرأة ووضوح يصل للوقاحة، لا أحد رقيب عليهم في جمعهم السعيد، بعيدا عن أعين الكبار وآذانهم، بعيدا عن نصائحة وملاحظتهم السخيفة،
غريب أمر الإنسان يظل يشتاق لهذه المرحلة من حياته بالذات، والحق أني في غربة عن نفسي منذ أنطواء هذه المرحلة من حياتي، أشعر باليتم، أصبحت مسئولا عن نفسي تماما، أنتهى زمن الحلم بداخلي، صارت أخطائي محسوبة، وحياتي تحت مجهر عداد الزمن الذي لا يرحم، كل يوم يمر يطرح أسئلة مكررة إجاباتها شديدة الوضوح، شديدة البؤس،
جموع الطلاب أعادت لخيالي مشاهد لذكريات بعيدة، هكذا كنا نشبههم، حتي الملامح لم تتغير من جيل لآخر، لتكرارها في الوجوه حميمية مؤلمة، الملامح الذي جعلتها الأفعال الجادة، الأفعال المتوائمة مع الظروف تشيخ سريعا، الحكمة الزائفة جعلتها بائسة، كئيبة،
تبا للأيام التي تجعل كل شيء عاديا، وما أكثرها قسوة أن تصبح الأشياء عادية، تحدث أو لا تحدث سواء، لا نقدم على أفعال هى زهوة الحياة ولذته، لا نحب ولا نطمح ولا نشاغب الأقدار، يتمرغ القلب في زهده المزيف والعقل في رشده الفاسق،
لو تسمع تلك الوجوه النضرة هدير قلبي لها، شلاله المندفع الآن تجاههم برقة وخوف وحرص، عليهم أن لا يسأموا الحلم أبدا مهما كان، الحلم جنة العاشق وغوايته وألمه السعيد، ثأره مع الأيام، الحلم نجاة وهلاك حتمي لهذا القلب الغض المفتون بسحرالحياة، أذا أصبحوا شعراء فعليهم أن يخوضوا معركة الرفض للنهاية، لا يصدقوا أبدا الجيل الورع، التعساء في كل الأحوال، في قلوبهم الكثير من الغل الأسود على زمن الحلم الغابر، لو نظروا لوجوهنا لقرأوا تاريخا مرعبا من الخنوع والمساومة على الأحلام، لكل شيء ثمنه وعذابه ونهايته، فعليهم الاختيارمن الآن، لأن عذاب اللا شيءعذاب أبدي، ونهايته قلب مثقل بالندم.
في المنزل أعيش وحدي، لا شيء سوى صوتها وخطواتي مسموع، كم هى جميلة في فستانها الأسود، جسدا ملأ الدنيا بالضياء، يتوافد عليها العشاق، (لكن خيال حبيبي المجهول مش لاقيه فيك حاجة منه…. كلمني يا شاغلني طمني يا ظالمني )،
لمبة وحيدة مشتعلة في حجرتي، أتابع انسحبها من المسرح خلف أنور وجدي الذي يعزف الجاز، على صينية صغيرة وضعت طبق واحد، ملعقة واحدة، وكوب واحد، تأملي للأشياء يفسد حتى وجبة الطعام الوحيدة التي أتناولها، حتى صرت نحيفا كالشبح، يقول لي أخي الكبير صلاح أنني شديد الرومانسية، شديد الشاعرية وهذا هو سر فشلي في الحياة، يقولها في وجهي دون مواربة، عندما لا تغضب حينما يظل ذلك التعبير المسالم على وجهك دائما، يسمعك الجميع ما يردون،
أخي الكبير صلاح شخص عملي جدا، تزوج مبكرا، أنجب مبكرا، صار أبنائه شباب، لهم أحلام وخطط في الحياة تجعلني أخجل وأشعر بالعجز، تجعلني أهرب من أي مناقشة غير رسمية تطول،
في آخر مقابلة لنا فاتحني أخي في موضوع البيت، أصحابه يريدونه وعرضوا مبلغا كبيرا من المال، سيقسم علينا بالتساوي، الرجال مثل النساء، كان أبي استأجره في بداية حياتة، إيجار قديم، صار المنزل لي بعد وفاة والدينا وزواج الإخوة، أنا لا استخدم من المنزل الكبير سوى غرفتي والحمام، حتى المطبخ بالكاد أدخله، طعامي أشتريه جاهزا، والشاي أصنعه في غرفتي، منذ زمن وأصحاب البيت يلحون ولهم الحق، لكن كان صلاح يقول المنزل لك لا تقلق، جميعا بدأ حياته مبكرا، أما أنت فركنت إلى الزمن الصعب، منذ أسابيع وأنا على علم بأمر التفاوض، على السلم فاتحتني صاحبة المنزل، قلت لها تحدثي مع الباقين أولا، قالت أفاوضهم منذ وقت، صمت ولم أرد، مبلغ من المال مقابل الإخلاء، مبلغ يحل مشكلة لكل واحد فيهم، عاهدت نفسي أن لا أشُير من قريب أو بعيد أو أعلق أن نصيبي من المال لن يدبر لي مكانا متواضعا أعيش فيه، على كل حال هذه مشكلتي وحدي، من لا يرى نفسه لا يراه أحد، والحق أن الأخوة في عرفي وفي نفسي لها مكانة كبير، مهما انتكصت الوعود، قسوة الحياة تجعل الناس تتصرف هكذا، تنسي أو تتعمد التجاهل هكذا، حتي اللوم لا مكان له بيننا،
وحدها الذكريات تعنيني، لأن حياتي بدونها عدم، أعيش على أصوات أقدامهم التي تسكن صمت الحجرات، رائحة قصاري الياسمين والريحان في بلكونة أخواتي البنات ما زالت في أنفي، أدوات الزينة المبعثرة على مراياهم، صباح يوم الجمعة الجميل، أثار الدقيق والسكر في المطبخ، في يد أمي وملابسها، مذاق الفطائر التي تصنعها وتقليها في الزيت، صعودي على السلم قفزا بعد الصلاة مع أبي وأخي صلاح لألحق أخر فطيرة، في طبق مقلوب على آخر أجدها تحته، مسائل القسمة المطولة التي يدربني عليها أبي مع أخوتي بعد العصر، ينهرني لأني بطيء الفهم، ينهرني لأن حلولي كلها خاطئة، ولا مرة استطعت أن أفهم القسمة المطولة حتى اليوم.
صوت ليلي مراد وأغانيها في الراديو، صوت أمي تدندن مع اللحن، كانت يوم الجمعة تزيد الجرعة لأن أبي بالمنزل، أتذكر كلمات أغنية كانت تحبها بالذات، ترددها بصوت عالي( حبيبي أنت، أنت الوحيد، ومهما تقسى حبي يزيد، ولا أفتكرلك غير كل ود، وعشان بحبك يصعب علي، وأقول غرامك ما كانش ليا، يالي غرامك كله أسية، أسأل عليا).. حفظت معظم أغانيها من خلال غناء أمي، كانت تحبها جدا، أحبتها عندما لفت أبي نظرها في زمنهم الأول معا أنها تشبهها كثيرا، والحقيقة أن رأيه في محله، يشبه وجه أمي وجهها الصغير الأبيض كقطع السكر التي تذوب في الفم، وجه تتمنى أن تحتويه كفوف الأيدي بحنان، قسماتها الدقيقة، عيونها البنية كأنهار العسل، عشقت العيون البنية لأجل عيون أمي، رقتها، نبرة صوتها، ، قوامها الصغير الجميل، كأنها الحلم، حفظت أمي الأغاني محبة في إطراء الرجل لها، ظلت تُسمعه حتى بعد أن كف عن هذا الغزل، ظلت تناجي حلما بحلم، تستحضر أيام الحب الأولى بصوتها الحنون، ربما طيف منها يعود، كانت تدرك أن هذا الزمن انتهى، ولكن الحب باق ببقائهم معا، كانت تفرح كثيرا عندما يثني على طعامها، أو أن يقول يوما أنه لو اشترى لنفسه قميصا بدونها يشعر كأن فيه الشوك، لا يستطيع أن يرتديه، قنعت بهذا الحب الرزين وفهمت عمقه، لكنها أبقت من الزمن الأول على صوت ليلى مراد ونيسا، صلة لا تنقطع بالماضي.
رحلت أمي قبل وليفها بأعوام، غادرت في رقة ووداعة، مثلما تواجدت في الحياة، رحلت وخلفت ورائها رجل صامت، لم أرى دموع أبي ولكني رأيت صمته ونحوله، رأيت ضعفه وانكساره، هذه هي دموع الرجال، أدرك فراغ الكلمات من معانيها، لأنها لا تقال على مسامع أمي، وأن طاعة أوامره غير مجدية لأن من سيقول له أمين أخرون غيرها، عاش وحيدا بين أبنائه، تقتله الكلمات المسموعة، عاد يطرب لليلي مراد( أنت إللي قدرت تفرحني، وأنت إللي قدرت تبكيني، دلوقتي لا فرح بيسعدني ولا دمعة بتريح عيني، ما يفرحنيش غير أيامك، ولا يسعدنيش إلا كلامك، يا حبيب الروح فين أيامك)، أخذته دنيا غير الدنيا، حتى رحل الرجل الصامت، كان رحيلة رحمة وتلبية نداء خفي، وحده استمع إليه.
ورقة بيضاء أمامي، لما لم أعد أستطيع الكتابة، كانت حلم في الماضي، بين محاضرات القانون الجنائي والقانون المدني أضعت حلمي، رجل وحيد مثلي لماذا لم يصنع عالمه الخاص من خيال الكلمات، أشخاص وأحداث، يملأ حياته بالوهم، كل شخص يستطيع أن يحكي عن نفسه ما أراد، يضيف ويمحو ويختلق، يستيطع أن يحكي أفكارا مهمة يؤمن بها، يستطيع أن يصنع له قدر آخر على ورق،
ولكن في الحقيقة ليس لدي مجهودا لاختلق، ولو لتلك الورقة البيضاء أريد أن أحكي أشياء بداخلي، حتى أستطيع أن أتنفس براحة أكثر.
في مكتبي في الصباح، كتبت الثقب أعلى الورقة ولم أكمل، خفف أن تذهب مني الكلمات بعيدا عندما أمسك بالقلم من جديد، أريد أن أكتب كلمات تغوص في أعماقي تؤرقني، مثل تلك الكلمات ( أيها الرجل الوقت ذهب، كم شربت من كؤوس الخسارة، كم ندمت، كم بكيت وحدك ولم يعرف أحد، لم تشتكي أو تطلب المساعدة، ظلت الطمائنية المزيفة تكسو ملامح وجهك، خفت عليك مرات أن تقدم على أشياء رهيبة حتى تنهي المأساة،
كظل شجرة كبيرة تعيش، هذه الجذور، هذا الجذع، هذه الفروع، الأغصان، الأوراق، كل شيء كان له وجود ولون ومعنى ثم مضى بعيدا، أما أنت فقط الظل، شيئا عابرا مموة، لا صوت لك يُسمع، لا مساحة تخصك، لا أحد يستطيع أن يلمسك أو يشعر بك،
هذا المكان الضيق بداخلك، الذي أخفيته عن الجميع، صار مزدحما بكثير من الأشياء، سقطت فيه أحلامك، أيامك وذكرياتك، ابتلعك أنت ذاتك، تعيش فيه وتتنفس وتتكلم، تدفن فيه مشاعرك التى كان يجب أن تصل لبشر آخرون،
أيها الرجل أرهقتك الكلمات بداخلك. صار أعظم ما تمنحه لنفسك هى السكينة المزيفة بالهرب من كل شيء، تضع رأسك على المخدة وتحلم، ربما في حلمك ترتد صبيا لا يعرف المهادنة واللطف في تقبل وجه الحياة المظلم دون أن يئن، ربما تدفيء قلبك في ليالي الشتاء القاسية بونس أهل وأصحاب جدد، أو تصحب فتاة في نزهة صباحية ممطرة، تحمل لك هدية بلا مناسبة، ربما صارت لك عائلة، زوجة حنونة، صبي وفتاتان، إليهم تعود كل مساء، تصنعون معا المراكب الورقية وتبتهلون ساعة المطر، ربما أصبحت رجلا ذات هيبة في أواخر العمر، له مئات الأصدقاء الذين يقلبون عليك محبة ورغبة صادقة في القرب، ربما أشتريت حذاء جلدي جديد مريح، تملك حقه في جيبك، تسير به لمسافات طويلة ولا تنظر لموضع قدمك.