ليلة وفاة التمثال

ملحمة رأس الكلب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد صفوت

في السنوات الأخيرة السابقة لوفاته.. حين بدتْ عليه كلُّ التفاصيل الصغيرة التي تبدو على شخص على مشارف الهلاك.. كان سؤالًا يَشْغَلني. هل من المنطقي أن يدركه الموتُ.. أن يحلَّ فيه الفناء؟.. لم تكن لدي إجابة شافية لسؤال كهذا رغم أن أي إعمال بسيط للمنطق يقود إلى نتيجة واحدة: من تنطبق عليه قوانين الحياة العادية فلا بد أن يخضع لقانون الموت في النهاية. كنتُ أراقب التغيُّرات التي بدأتْ تطرأ عليه بمرور السنين. كان يكبر أمام عيني. يزحف الشيبُ بالتدريج على شعره الكستَنائي، وفي عيد ميلاده الخمسين بدتْ عليه وبشكل واضح أعراض الضغط والسكري وخشونة العظام. بعدما تجاوز السبعين رأيتُ التجاعيد تحفر لنفسها طرقًا ملتوية في لحم وجهه والنَّمَش يسرح على جلده صانعًا خريطة واسعة تمتدُّ من ذراعيه إلى الكتفين، إلى أن بدأتْ تتعرج بمرور الوقت وتتفرع إلى خطوط صغيرة تزحف نحو رقبته حتى طالتِ الصدر. كانتْ أمراض الشيخوخة قد عرَفَتْ طريقها إليه. فسقطتْ تقريبًا معظمم أسنانه وضروسه. وفي كل أسبوع صار يفقد العديد من الجرامات حتى بات ليلة وفاته أقرب لشبح نحيف. كان اللمعان العذب الذي ينطق من عينيه بالحياة يخبو إلى أن أوشك على انطفاء مُرتَقب حدَّ أنَّني في أيامه الأخيرة كنتُ أشعر كلما وقعتْ عيني على نظرته الذابلة أنَّه يتمنى لو يموتْ. لذا قمتُ بنقله من غرفته إلى الصالة خوفًا من أن يموت وحيدًا دون أن أشعر به.. الوفاة حدثتْ في منتصف الليل تقريبًا، وهو في نظري وقتٌ مثالي للموت الهادئ. كنتُ وقتها في طريقي إلى غرفتي. كان يقف على يسار بابها. كنتُ مُتعوِّدة كُلما دخلتُ أو خرجتُ من غرفتي أن نتبادل معًا نظرات صامتة هادئة على هدي نور رقيق ينبعث من شموع شمعدان نحاسي في جنبات الصالة. وجدتُه ساعتها ذاهلًا عني. أكملتُ طريقي إلى الغرفة، ثم كأنَّني سمعتُ صوتًا يشبه أنينًا مكتومًا وأنا أضع يدي على مقبض الباب. أثار ذلك لديَّ بعض الدهشة والكثير من القلق.. كانتِ المرةَ الأولى التي أسمع خلالها صوته. أضأتُ المصباح. اقتربتُ منه بحذر. بدا وجهه مُمتقعًا ويميل إلى الصفرة الحادة. حباتٌ بارزة من العرق تلمع بين خطوط جبهته وتأخذ طريقها إلى الخدود العميقة في خديه. حاولتُ جذب انتباهه بطرقعة من أطراف أصابعي. لم ينظر ناحيتي. ظلَّ يحدق شاردًا في السقف بنظرات زائغة مضطربة إلى أن بدأ جسده ينتفض مُحدِثًا دبيبًا خفيفًا تحت قدميه. لم أكن أعرف ماذا يجب أن أفعل في مثل هذه الأوقات. كنتُ أركض بفزع بين الصالة وغرف المنزل. فتحتُ النوافذ والشرفات. كان الشارع خاليًا من المارة ويشمله صمتٌ غامض. هل يجب عليَّ مُهاتفة الطبيب. هل أُرسل في استدعاء أحد من الجيران؟ أربكتني المفاجأة. هرولتُ ثانية إليه ووقفتُ أمامه. تحسَّستُ قدميه وجدتهما باردتين تمامًا. ثم بدأ جسده يرتخي ويخبو صوتُ أنينِه تدريجيًّا.. أخذتُ أرنو بنظرة حائرة إلى أعلى. هالني انطفاءُ بريق عينيه تمامًا. أخذ جفناه ينسدلان ببطء. أدركتُ أنَّها لحظاته الأخيرة.. كثيرًا ما تمنيتُ له موتًا هادئًا. أن يموت واقفًا على قدميه دون أن يراه أحد. دقات الساعة كانتْ تُشير إلى الواحدة صباحا. فضَّلتُ أن أتركه بمفرده في هذه الأوقات الخاصة جدًّا وعُدتُ إلى حجرتي ينتابني الحزن والقلق والخوف. تدثرتُ بغطائي وأنا أرتجف. رحتُ أسأل نفسي كيف تسلَّلَ إليه الموتُ بهذه السرعة؟

أخرجتُ كراستي القديمة التي حرَصتُ طيلة السنوات الماضية على تسجيل سنوات عمره داخلها. دونْتُ تاريخ وفاته ثم رحتُ أسأل نفسي الأسئلة التي طالما كانتْ تشغلني في أعياد ميلاده. هل بدأتِ الحياة الحقيقية له منذ تلك اللحظة التي وضع خلالها النحَّات الإيطالي إزميله جانبًا معلنًا انتهاءَه من صناعته أم أنَّ التماثيل باعتبارها صورة من أصحابها تأخذ أعمارهم التي كانوا عليها وقت أن يفرغ النحَّاتون من صناعتها؟

على هذا يمكن لتماثيل أن تُولد ميتة لأنَّ صانعيها كانوا يستلهمونها من أشخاص قد فارقوا الحياة، بينما تبدأ أخرى حياتها وهي تعاني من أمراض الشيخوخة وتآكل المفاصل وآلام الظهر، وهي نفس الأمراض التي كان يعاني منها أصحابها ساعتها. لذا كنتُ أقع في ورطة حقيقية خلال السنوات الفائتة أثناء محاولاتي لتحديد عمره إلى أن قرَّرتُ تقسيم الصفحة إلى قسمين، في كل قسم أُجري حسبة عمره حسب احتمالين: الأول يَفترِض أن التأريخ لحياته يبدأ من هذا اليوم الذي لا يمكن أن يسقط من ذاكراتي، والذي أزاح خلاله النحَّات الإيطالي الستار عن تمثالي البرونزي للمرة الأولى بعد احتفال صغير على شرف اللحظة اصطحبني بعدها النحَّات إلى شكوريل حيث أهداني فُستانًا من الدنتيل لا أزال أحتفظ به في دولاب ملابسي داخل علبته، فيكون هذا اليوم هو يوم ميلاده. الاحتمال الآخر يقوم على فرضية أنَّه قد بدأ حياته في العشرين من عمره وهو نفس عمري حينما انتهى النحَّات من عمله، وهذا يستدعي أن أُضيف عشرين عامًا لم يعشها إلى سنوات عمره التي عاشها بالفعل.

بدأت رائحة الموت تتسلَّل إلى داخل غرفتي. هل تموت التماثيل بهدوء وهي واقفة في أماكنها دون أن يشعر بها أحد. هل سيسقط من فوق قاعدته النُّحاسية وتتناثر أعضاؤه الميتة على الأرض؟ رغم كل الحزن والخوف الذي انتابني وقتها فإنَّني تماسكتُ. كان يجب أن أُعيده إلى الغرفة التي حرصتُ على أن أُخفيه داخلها طيلة السنوات الماضية لتكون مَثواه الأخير. طَوَّقَتْهُ يدي بصعوبة من خَصره المكتنز بدهن عتيق. كانتْ أعضاؤه باردة وجلده يميل إلى الزرقة. بحرص أخذتُ أزحف به عدة خطوات ثم أقف لالتقاط أنفاسي. بعد جهد كبير تمكَّنتُ من نقله إلى الغرفة. سترت جسده بملاءه بيضاء وأغلقتُ عليه باب الحجرة بالنسخة الوحيدة من مِفْتاح أحتفظ به. عدتُ إلى غرفتي وبحثتُ عن صورة قديمة له أحتفظ بها في دولاب ملابسي ثم عَلَّقتها على الحائط بجوار صور أخرى لراحلِين.. تأمَّلتُ صور الراحلين المُعلَّقة على الجدران. صورٌ عامرةٌ بالموت حتى إنَّني كنتُ أحاول أن أتذكر إن كانتْ هذه اللقطات هي اللقطات الأولى لهؤلاء الراحلين بعد الموت مباشرة؟ أسماء بعضهم لا زالتْ عالقة بذاكرتي. الخواجة مانشيني تتدلَّى سلسلة ذهبية تمسك من جيب سترته ساعته الشهيرة من جيب سترته. النحَّات الإيطالي بشعره الهائج. مدام إيما زوجة مانشيني تطفو ابتسامتها العذبة على وجهها. جَدِّي الباشا شامل والبك والدي. صورة واحدة تجمع الجنرال ميمي مع الست زيزي بملابس الإحرام.. استدعَى ذلك في ذهني أسئلة أخرى غامضة: هل يمكن أن تموتُ صورة داخل إفريزها المُذهَّب قبل صاحبها أم تكون أعمار صورنا أطول من أعمارنا؟ وضعتُ رأسي على الوسادة. انتابني إحساس بالفزع.. كيف يمكن لتمثال هو نسخة كاملة من صاحبه أن يموت أولا؟ هل طالني الموتُ بموته؟ هل هو تلك البرودة التي بدأتْ تسرح إلى جسدي بعد أن نشبتْ في أنامل قدمي؟ كانتْ كل الذكريات القديمة تومض في ذهني وتشتعل مرة واحدة في شريط طويل من السرد.

………………………

*فصل من رواية “صور معلقة على الجدار”

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون