إيناس عيسى
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شهدت فرنسا تحولات جذرية أنشأت مدارس فكرية حديثة في تاريخ الأفكار. فلقد طغى الإلحاد على عقول الكثير من الشباب والمفكّرين، وعصفت ريح التنكّر لكل شيء، وانتشرت الدعوات التي تحرّض على رفض كل ذي عقيدة ؛ فترى طائفة تتهجم على كل ما هو مقدّس، وأخرى ترى أن مصطلحات كالخير والشر، الفضيلة والرذيلة، ما هي إلا كلمات غير ذات معنى، واعتنق البعض المذاهب الهدّامة فسخروا من النظم العتيقة ليقيموا على أنقاضها مجتمعا عصريا بمبادئ وقيم جديدة.
بأسلوب سردي شيّق، يرصد بورجيه حياة البطل (روبير جرسلو)، شاب مثقف في العشرينات وممثل للتيار النازع الحر، يعمل كمعلم عند أحد النبلاء -التابع في الغالب للتيار التقليدي المحافظ- مما سيعزز وضوح معالم شخصيته بشكل أساسي. وقد أدّى تأثره بالفلسفة الحديثة، وبأستاذه الفيلسوف الهدّام (سكست) على وجه الخصوص، إلى تغيير جذري في تفكيره، مما سيجعله متورطا في قضية موت ابنة ذلك النبيل (شارلوت) التي عُثر عليها جثة هامدة وقد احتست السم، كما سيورط معه أستاذه (سكست) ذلك الذي سيصبح متابعا قضائيا باعتباره الأب الروحي لجرسلو، والمسؤول على انحرافه. فيرسل له جرسلو اعترافا مكتوبا بما فعله لاختبار مشاعر النفس البشرية حيث غرر بفتاة بريئة لا ذنب لها إلا أنها وقعت في غرامه ثم انتحرت بعد تخليه عنها . وبعد التأكد من كون جرسلو المسؤول على قتل شارلوت، سيتم اعتقاله، قبل أن ينتهي به المطاف إلى الموت بمسدس ( الكونت أندريه) أخو شارلوت.
نفس مهزومة تسعى للانتقام
قام بورجيه بعرض فكرته الفلسفية ممزوجة بجانب نفسي واجتماعي شيق، كذلك فهو لم يغفل رسم البيئة المحيطة بالمتهم والتي أسهمت في تشكيل شخصيته وغرست بداخله دافع الثأر ممن يراهم يهددون كيانه. فمنذ نعومة أظافره ظهرت لديه بوادر انعدام العاطفة وتحجّر القلب والمادية التي ورثها عن والده.
تظهر نوايا جرسلو في أن يتعامل مع تلك العائلة النبيلة على أنها حقل تجارب لأفكاره واستغلالها لاحقا ليفي بغرضه في تأكيد المادية وانهيار المباديء الراسخة. فلقد اقتبس تلك الكلمات من كتاب معلمه سكست لتظل نصب عينيه “كان سبينوزا يباهي بأنه يدرس المشاعر الانسانية، كما يدرس الرياضيّ رسومه الهندسية. فأما العالِم النفسي العصري فينبغي له أن يدرسها كما يدرس المزيج الكيميائي في آنية التقطير، مع هذا الفارق الذي يدعو إلى الأسف، ويبعث الأسى، وهو أن وعاء النفس البشرية ليس شفافا ولا قابلا للتصرُّف، كما هو وعاء التقطير في معمل الكيمياء”.
وكانت أولى دوافعه للانتقام هي شعوره بالحقد تجاه الكونت اندريه كون الأخير فارسا يتميز بالبسالة والأخلاق النبيلة والبنية القوية بينما جرسلو ضعيف البنية. ويبرر هذا الثأر بأنه ميراث خلّفه الماضي انحدر في نفسه وقرّ في أعماق عقله الباطن “..فتجلّى لي أنهم من سلالة أقوام غزاة فاتحين، على حين أن الدم الجاري في عروق هذا الذي انحدر من أصل لوريني، ومن سلالة مزارعين، انما هو دم قوم مغلوب على أمرهم”.
ربما الشيء الوحيد الذي شعر بتفوقه عليهم به هو عقله، لذلك كانت أفكاره هي السلاح الوحيد الذي يملكه. وكانت الفكرة التي اهتدى اليها ليثأر من احساسه بالدونية من هؤلاء القوم هو الايقاع بابنتهم لتصبح فريسته، مستغلا في ذلك انعزالها وعدم قدرتها على الاندماج مع عائلتها. يعترف المتهم أن حبه لشارلوت في بداية الأمر كان مبعثه العقل لا الشعور وكان يبرر ذلك الحب بأنه كان معتزا بأفكاره ليس الا، لذلك سيُجري عليها تجربته النفسية “..ان اخدع تلك الفترة عن عفافها، دون أن أتورط في حبها؛ لأشبع طلعة العالم النفساني، ولمجرد اللهو واللعب، ولمحض العبث بنفس حية، ولادرس العواطف في عالم الحقائق، بعد ان درستها بين عالم الكتب، بل لاضيف، الى ثروتي العقلية، تجربة جديدة… فما انا الا اداة تفكير عقلي، لا ينبض فيها حس، ولا يهتز فيها شعور، ولا تخفق عاطفة.. “
ويسترسل قائلا “..ولربما باتت نفس تلك الفتاة ميدان قتال بيني وبين أخيها، تشب فيه حرب الكراهية التي احالتها الايام حقدا متأججا. نعم، ربما انطوت رغبتي في الاغراء، الشهوة الجامحة في اذلال كبرياء هذا الجندي.”
فلقد كان يتعامل، في علاقته مع شارلوت، على أن الأمر لا يتعدى كونه تجربة في معمل لا انه يتعامل مع نفس بشرية. فلقد كان يستولي عليه الإحباط كلما شعر أن خطته ستبوء بالفشل، كيف وقد حسبت العواطف، من السهولة والبساطة، بحيث يستطيع المرء ان يوجهها ايه وجهه يريد! لكنه ما ان شعر بأن شارلوت أصبحت طيّعة بين يديه فاستلّ عذريتها ودفعها للسقوط من فوق الهاوية.
المعلم والتلميذ
يصوّر لنا الكاتب سكست في بداية روايته على أنه نموذج للفيلسوف المادي الذي لا ينتصر إلا لأفكاره الخاصة، شعاره في الحياة هو التنقيب عن الحقيقة، زاهد في الحياة، مبتعد عن كل اللذات، عمل على العيش منعزلا وحلّ كل الروابط الاجتماعية مع الغير، يؤثر الغرق في أفكاره على الاختلاط بالعامة.
كذلك كانت شخصية جرسلو المنغمسة في المادية منذ الصغر والتي ورثها عن والده، كان التلميذ كذلك يؤثر العزله والانكباب على المطالعة، لكنها كانت شخصيته معقدة لنفس مريضة بغيرعلّة محددة. وأشار سكست بأن تلك الشخصية كانت تشي بنضوج مبكر في فهم المسائل الفلسفية.
ولكن ذلك الفيلسوف الهادئ ما لبث أن بدأ بقراءة اعتراف تلميذه حتى انقلب عالمه رأسا على عقب. فكيف لأفكاره أن تتسبب في مثل تلك الجريمة البشعة! كان ذلك الاعتراف المكتوب بمثابة الدليل الحي على أن عمله الذي آمن به وعمل على بناءه لمدة ثلاثون عاما، قد سمّم نفسا وانطوى على مبدأ الموت، فتلقى صدمة عنيفة إثر ذلك. فلقد كان المتهم يسوق استشهاداته من اعماله، مما اثبت له أن عمله وآراءه متصلة بتلك الاعمال الشائنة التي قام بها، فكانت تلك الأفكار مبررا لفعلته البشعة والتي تنطوي على فساد خلقي فج .
يصف الكاتب حالة سكست بعد مطالعة الاعتراف ” وكلما أوغل في المطالعة، كان يشعر بأن شخصيته قد تلوثت، وتعفنت، بل تسممت، رغم أن المشاعر التي تكشف عنها تلك المذكرة، هي أبغض المشاعر إلى نفسه: فقد كان ذاك الفيلسوف العظيم عفّ الضمير، وكان، إلى عقليته الهدامة، يحمل في صدره قلبا رحيما، وينطوي على أشرف العواطف، وأنبل النزعات.”
تشكك بعد يقين
سقط كل من المعلم والتلميذ في نفس الهوة السحيقة للتشكك بأفكارهم وعقيدتهم الراسخة. فالفيلسوف المعلم قد خانه جَلَده، وفارقه سكونه، وبعد أن كان يُنكر كل حرية، ويدين بالجبرية، ويحلل الفضيلة والرذيلة، غير متأثّم، بات يشعر بألم يتناقض تناقضا صارخا مع كافة مذاهبه العلمية، ونظرياته النفسية.
أما التلميذ، فبعد قيامه بتلك الجريمة البشعة فقد كتب لمعلمه ” فاكتب إلى يا أستاذى العزيز وخذ بيدى وسط ذاك الظلام المتحجر وثبت عقيدتى بأن أبغض الأعمال وأقبحها (حتى اعتزامى بدم بارد وضمير جامد أن أخدع شارلوت عن عفافها وحتى تخاذلي بعد أن تواصينا بالموت معا) ليست إلا جزءا من نواميس هذا الكون العظيم، قل إني لست مسخًا دميمًا وأنك سوف ترتضينى إذا اجتزت تلك المِحنة تلميذا وصديقا”.
في النهاية، أصبح سكست، مثل تلميذه، يحس بوخز الضمير، ويشعر بالمسؤولية. فما لبث أن وضع المعلم الشِرك، بدون قصد، حتى سقط فيه التلميذ.