ينهض البناء الفني للرواية على تقنية الرواية داخل الرواية، ثمة رواية إطار هي التي قرر كتابتها طارق إمام ليعيد تسريد سيرة حياة الشاعر المستقاة من قصائد وشذرات ومقولات ومذكرات ومراسلات أعاد الكاتب قراءتها وتأويلها، لنتعرف من خلالها على حياة شاعر ولد وعاش في مدينة الإسكندرية، لكنه أيضاً لم يكتف بتسريد حياة كفافيس، بل أعاد كتابة سيرة مدينة الكوزموبوليتانية، لكن أي تاريخ تقدمه الرواية؟! إنه التاريخ السري للمدينة وللشاعر معاً، فلم نر الحضور الرسمي لكليهما، بل رأينا حضوراً فنياً من وجهة نظر الشاعر، ورؤيته لذاته ورؤيته للمدينة التي كرهها بقدر ما عشقها، فقد أصيب بمرض سري يُسمّى «الإسكندرية» التي وقع أسيراً لها، ولم يفارقها حتى موته، فقد احتضن ترابها «الزعفران» جسد الشاعر الممتلئ باللذة والشهوة السرانية.
في قصائده العديدة التي وصلتنا مترجمة إلى العربية تتحول رغبات الجسد وشهواته الشاذة إلى تغريدة عشق في هؤلاء العشاق.. يقول في قصيدة ترجمها رفعت سلام : «أيها الإحساسُ الحبيبُ عُد لي، وخُذني حين تستيقظ ذاكرةُ الجسد، ويَسري الشوقُ القديمُ – من جديد – في الدماء حين تتذكَّر الشفتان والبشرة وتُحسُّ الأيدي كأنها تعود إلى اللمسِ مِن جديد».
رغم أن كفافيس في معظم قصائده يتحدث عن ذاكرة جسده بمتعة وشوق إلا أن طارق إمام جعل المثلية مفتاحاً رئيسياً لفهم شخصيته وكشف أسرارها المعقدة. عبر الرواية الممتدة يصور إمام كيفية امتهان جسد «الشاعر»، وكأن إمام قرر أن يعيد كتابة تاريخ كفافيس عبر ذاكرة سادية تسعى لامتهان الجسد، فيظهر في مشاهد تثير الشفقة حين يسعى إلى عشاقه الذين يمنحونه ذلك الإحساس، لكنهم ينتهكون الجسد الضعيف المنهك، وحين يرتدي ملابس أمه ويضع الأصباغ على وجهه.
تبدأ الرواية من اللحظة التي وصل فيها كفافيس الإسكندرية عائداً من أثينا، بعد إجراء جراحة في حنجرته بسبب مرض السرطان، برفقة عشيقه ألكسندر سينجو بوليس. في الصفحات الأولى سيتعرف القارئ على تلك اللحظات الرهيبة التي يعانيها «الشاعر» فقدانه لصوته، الذي سيبحث عنه طوال النص.
ثمة زمنان يتصارعان في النص: زمن السرد الذي ينفقه ألكسندر بوليس مدة الشهور الأولى من عودة كفافيس والتي يحاول فيها بوليس أن يجمع سيرة حياة الشاعر في مخطوط ضخم، وزمن آخر هو زمن حياة الشاعر الذي يمتد لسبعين عاماً، لكن المؤلف الحقيقي للعمل (طارق إمام) يتلاعب بالزمنين، فيقدم ويؤخر في الأحداث والتواريخ، ويتواطأ معه المؤلف الضمني (ألكسندر بوليس) فلا يقبض القارئ على زمن حقيقي.
تتكون الرواية من سبعة فصول تأخذ عناوينها من أسماء قصائد شهيرة لكفافيس ويستهل كل فصل بمقطع شعري. يستعرض إمام في النص حيوات لشخصيات، مصرية وأوروبية، ويظهر كفافيس قاسماً مشتركاً بينها، كما يقدم لنا تأملات «الشاعر»، حول قضايا لها علاقة بتجربته الشعرية، ورؤيته للأخلاق والمثلية الجنسية والفن والشعر وموقفه من جمالياته. ورغم اللغة الشعرية الدافقة التي كتبت بها رواية بهذا الحجم إلا أن الكاتب لم يستطع أن يرسم لنا شخصيات من لحم ودم تبقى في الذاكرة، فلا يستطيع القارئ أن يقبض على الملامح النفسية أو الجسدية لها، فقد وقع طارق إمام أسير عالم كفافيس الشعري فجاءت الرواية على كبر حجمها (ما يقرب من ستمئة صفحة) إعادة كتابة تلك الحالات الشعرية التي قدمها كفافيس، وهنا يبرز تساؤل عن مشروعية كتابة وقعت في غواية شعرية كفافيس وتجاهلت عوالم سردية كان يمكن لها أن تقدم لنا كتابة متميزة ومختلفة.