البنيات السردية والخطابية بين السلطة والجسد في حذاء فيلليني

موقع الكتابة الثقافي writers 69
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عتبات مؤجلة الدلالة

دعاء الحنّاوي

 إضافةُ “حذاء” إلى “فيلليني” ماذا تعني؟ العنوانُ لا يعطي انطباعًا واضحًا بالنسبة لي، فحتى قراءة الرواية لم يكن لديَّ علمٌ بشخصٍ يدعى “فيلليني” بحيث يكون لحذائه شهرة، وكلمة “فيلليني” بالذات في العنوان كُتِبَتْ بشكلٍ معكوس ومقلوب، وبفونت ولون مختلف، ولكي تراه صحيحًا يجب أن تراه في مِرْآة، وعندها سينعكس اتِّجاه الجزء الأول من العنوان – الحذاء -، وأنت تحاول قد ترى نفسك أيضًا في وضعٍ لم تتوقعه .. في خلفية الغلاف وجهٌ لإنسان لا تبدو ملامحه، ولكن تبدو عليه المعاناة والألم والانسحاق والشق المائل نوعًا ما، ثم جملة إرهاصية قبل البدء في المتن (اسحب ذيلاً قصيرًا، فقد تجد في نهايته فيلاً.. فيلليني)، هل يعني أن الحقيقةَ أكبرُ مما تبدو عليه؟ وأهون الأمور قد تكون بدايةً لما لا نتوقع؟ توقفتُ قليلاً لأحاولَ الفهم، وتركتُ النصَّ يكشف لي عن مدى نجاحي في ذلك، ثم تعثرتُ في إهداء (إلى الذين صرخوا ولم يَسمعهم أحد، إلى الذين لم يستطيعوا أن يصرخوا … وحيد)، لِمَ هؤلاء بالذات؟ وما دلالة الحذاء؟ ومن فيلليني؟ عتبات النص من المفترض أن تقومَ بدورٍ فارقٍ كعلاماتٍ على الطريق، من أوله لآخره، بعض النصوص تكتسب الحق في تأجيل التعامل مع عتباتها بشكلٍ بنائي أو تأويلي حتى النهاية، وبعضها ينتهي بتجاوز تلك العتبةِ مباشرةً.

لم يُعَنْوِن الكاتبُ مَشاهده أو فصوله سوى مرتين، (مشهد ما كان فيلليني ليحبه، ومشهد كان فيلليني ليحبه)، افتتاحية قد تُنسى أو تغيب على مدى النص؛ لاختلافها عن بنية تيار الوعي وطبيعة الراوي في بقية المتن وعدم العودة أو الإحالة لها مرة ثانية، تشكل حكيًا خارجيًّا، وصفًا ورصدًا واسترجاعًا واعيًا، تكاد تكون امتدادًا للعتبات ومقدمةً للمتن، تدور حول ما حدث في مؤتمرٍ قوميٍّ يحضره رئيس الحزب الحاكم والذي هو أقرب إلى مهزلة وعبث، تقديس الحاكم ووضعه في مرتبة الإله، تُحَوِّلُ الجميع إلى بصاصين حتى على بعضهم البعض، وتساقط أوراق الشجر عن سوءاتهم بعد أن غَيَّبَت الخمر عقولهم المزعنة أصلاً بلا خمر.

بنية النص

 مشاهد وكادرات ذهنية تدور حول طبيبٍ نفسيٍّ يُفَاجَأُ ذاتَ يومٍ بمريضٍ تصحبه زوجته في حالة مأساوية – وأعتقد أن هذا الحدث البسيط هو ذيل الفيل -، تبدأ الزوجة في منولوجٍ طويلٍ حول تعرُّضها لقهر هذا المريض مزدوج السلطة، فهو زوج، وهو ضابط ساديّ السلوك يتعرض فجأةً لحالةٍ مَرَضِيَّةٍ من العجز الكلي، سببه الاستبعاد عن السلطة بالتقاعد القسري، فيكون نتيجة ذلك أن تنتفيَ عنه نفسيًّا كلُّ السلطات الأخرى، ليس فقط سلطة الجَلاَّد بدرجة ضابط، ولكن كرجل وزوج، ثم يكتشف الطبيب أن المريض هو نفسه الضابط الذي تعرَّض للتعذيب على يديه في وقتٍ سابقٍ من الاعتقال بلا جريرة، فتُلِحُّ عليه فكرة الانتقام والتشفِّي، وتُلِحُّ على الزوجة أيضًا، ويدخل الطبيب في منولوجه الخاص، عَلاقاتٌ تتشابك فجأةً وتبدو للوهلة الأولى ساذجةً، واختيار شخصياتٍ تبدو عادية، وفي عاديتها تَكْمُنُ المفارقة، “فالشخصية المحورية للروائي لا تُمَثِّلُ أهميةً كبيرةً بقدر ما تُعَبِّرُ عن الهَمِّ”(1)، عدد صغير من الشخصيات الفاعلة، البعض الذي يُنْبِئُ عن الجميع، وعالم الذات المنفتح على عوالِمَ داخليةٍ وخارجيةٍ، نفوس تخربت ودُفنت حية، شَكَّلَتْ مثلثًا متغير الزوايا، من الطبيب والجلاد والزوجة، مرسومًا داخل دائرة، مركزها السلطة، وهناك والد الزوجة، والدة الزوجة، مأمون المتعاون مع السلطة ليتقيَ شَرَّها، ضباط آخرون، الحاكم، ضحايا مجهولون، جارة الطبيب ووالده، كلها نقاطٌ على الدائرة تكملها ولا تغلقها، علاقاتٌ ما كان يجب لها أن تتشابك، لكن للسلطة رأيٌ آخر.

 على مستوى الموضوع أو المضمون لا جديد – وقد ورد هذا في النص- “فأحداثها لا تكون حبكة، بل تتشرذم إلى الكثير من الأحداث الصغيرة والانطباعات وتنويعات المشاعر”(2)، لكنَّ وحيد الطويلة يُحَوِّلُها إلى معزوفة سردية من “آه” طويلة، إلى “من صرخوا ولم يسمعهم أحد، إلى من لم يستطيعوا أن يصرخوا”، لندرك أنه يلخص استباقيًّا خطابَ النصِّ في الإهداء، والنص في خطابه المباشر لا يرمي إلى دعوةٍ للتمرد أو الثورة، “فما تقول به الكتابة الروائية الماكرة لا يصرح به الروائيون العقلاء”(3).

ضجيجٌ من مشاعرَ إنسانيةٍ أفرزتها السلطة والقهر والخوف وفقدان الهُوِيَّة، انتقال السجن من الخارج/الجسد، إلى الداخل/الرُّوح، فأنْ تَتَحَوَّلَ الذات إلى كيان أجوف فهذا شيء، أما أن يمتلئَ ذلك الفراغ بالخوف والغضب والفجوات المشرعة على كابوس سديمي لا ينتهي، فهذا شيء آخر. في بلاد السلطة، إما أن تُعَذِّبَ أو تُعَذَّب، كادرات سردية تجمع الضحايا والجلاد، ولكن في وضع معكوس السلطة -ككلمة فيلليني على الغلاف-، فالاحتمالات حاسمة ومحددة، فإما جلاد وإما ضحية، وحتى الاختيار بينهما غيرُ متاح دائمًا، فالجلاد لم يولد شيطانًا، ولا الشيطان كان، ولكنها حتمية الاختيار في لحظةٍ فارقة، بين السقوط الحر ركلاً كضحية، أو منساقًا لها عن إرادة كجلاد، والذي يتحول سقوطه إلى شذوذ ممتع في طريق واحد معلوم الوجهة!  

بداية الحكي المسترسل المنسوج بالحوار الذى جمع الراوي الرئيس الطبيب مزدوج الاسم -مطيع /مطاع- بزوجة الضابط الكبير، كان في حوارٍ أقربَ إلى تيار وعي، منولوج بصوت مرتفع، لاعترافات وبوح يجيء كما اتفق، بناء لأول جدار من جدران دائرية لمحراب الاعتراف والتطهر، أي نقطة منه تصلح أن يُبتدأ أو يُنتهى بها، في حكايةٍ مغلقةٍ على مَن فيها، منفتحةٍ على وضع مجتمعي وسياسي شامل، “فالسقوط الاجتماعي والأخلاقي ليس غيرَ رمزٍ دالٍّ على السقوط السياسي”(4).

تشكَّلت البنية من التناوب بين حكايات العشق والتعذيب، وجاءت حكايات العشق كفواصلَ أو استراحاتٍ تُتَمِّمُ معنى الحياة والتجربة الإنسانية، كنوع من التسجيل أو التدوين في تماسكٍ بنائي وتوجهٍ واعٍ لكتابة رواية وحضور قارئ افتراضي دومًا، هذا الوعي بكتابة الرواية “جارتي أخاف أن أشيَ باسمها في الرواية”(5)، وأيضًا مخاطبة القارئ “هل جَرَّبْتَ ذلك عزيزي القارئ؟ عزيزتي القارئة”(6)، تقنية مزدوجة الأثر، فهي تكرِّس للحضور المباشر للقارئ في محراب الاعتراف، والمشاركة الحتمية في مغامرةٍ سرديةٍ شَيِّقَةٍ وشائكة، تجعله مُنْتَبِهًا بحواسِّه كلها، وتُحَفِّزُهُ على الإسهام في بناء السرد، والتخلص من الحائط الزجاجي بين الراوي والقارئ، كما -في ذات الوقت وبمفارقةٍ كبيرة- تُشَكِّلُ إرباكًا للقارئ في التوجُّه المباشر له، تشعره بعدم الارتياح والتورط المفاجئ، تجعله ينفصل عن الحكي والاندماج، اندماج يحتاجه القارئ، باعتبار فعل القراءة –في النصوص السردية بالذات- أقرب إلى تلصص على الحكي والشخوص في وضعٍ آمن.علي

تعدد الأصوات

  بنية التناوب صنعت تعددًا للرواة بين الشخصيات، الطبيب -الضابط -زوجة الضابط -مأمون، شخصيات معدودة تتبادل الظهور بمساحاتٍ متفاوتةٍ في غرفة مغلقة، يهيمن الطبيب/ الضحية، والزوجة/ الضحية على الحكي، كل شخصية لها هدف واحد؛ هو تسلط فكرة الانتقام والقِصاص من مُعَذِّبِها، فتتحول الفكرة إلى سلطة وجلاد جديد لا يمكن الخلاصُ منه إلا بالانصهار التام، أيديولوجيات قيمية إنسانية في مقابل نفعية ذاتية، وإن كان الجميع يرى أيديولوجيته مثالية، “فيتشكل الإيقاع من خلال تكرار الأحداث والمواقف أو تنوعها على امتداد العمل، وعندما نلاحظ تكرار موقف معين يتضمن بعض الأحداث أو العلاقات القائمة بين الأشخاص، فيأتي شبيهًا بموقف سبق ظهوره من قبل .. نجد أنفسنا منخرطين في نموذجٍ سابقٍ من الفعل والدلالة، وربما كُنَّا مُهَيَّئِينَ لنوع من الاستجابة العاطفية الشبيهة بما ينشأ عند المرء في الموقف السابق، ومثل هذه التقلبات في الاستجابة هي التي تنظم تجربة قراءتنا الخاصة خلال إيقاع معين”(7).

الراوي مُشَتَّتٌ لامركزيُّ التوجه، الراوي متصالح مع كل الضمائر، ولكن في تبدلاته تحولات في وجهة النظر أو الزاوية، شتات انفعالي وتعددية للصوت الواحد، حتى الجلاد الضابط في عرضه لذاته وتفسيراته وعالمه الداخلي والخارجي، تعدُّ مع ما جاورها من الرؤى أبعادًا ووعيًا للحياة والعالم بمنظور تقاطبي حاد، فضاءات وعلاقات متداخلة بين الجنس والسياسة والوطن والحب، حيث يولد الحب مُعَاقًا في زمن الخوف و”البصاصين المآمين”!.

كان الراوي كمنولوج يفيض بوعي في حالة انهيار كامل ومستمر، تشكلات السلطة، على الوطن، على الزوجة، على أيِّ شخص، ليست قضية خبرات جسدية، بل ممارسات السلطة بأشكالها المختلفة، في البيت، في السجون، في المعتقلات الخاصة، في الاحتفالات، وحتى في غرف النوم، والاتِّهامات تتراوح بين العلاقة بداعش، أو العلاقة بفيلليني، في بنية مفارقاتٍ أصبحت من بنية النص، والراوي المتلفت؛ مرةً لذاته ومرةً لجلاده ومرةً للجلاد في ذاته، “فللنص معنى مختلف .. فهو وساطة بين الإنسان والعالم، وبين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان ونفسه، والوساطة بين الإنسان والعالم هي ما ندعوه بالمرجعية، والوساطة بين الإنسان والناس هي ما ندعوه بالاتِّصالية، والوساطة بين الإنسان ونفسه هي ما ندعوه بالفهم الذاتي، والعمل الأدبي يتضمن هذه العناصر الثلاثة: المرجعية والاتِّصالية والفهم الذاتي”(8).

العناصر السردية

الشخصية الرئيسة ملامحها الشكلية مطموسة لا نتذكر غير أنفها المكسور، وشخصيتها المتأرجحة بين مطاع ومطيع، تتجاذبها حوارات متعددة، حتى مع الشيطان وفيلليني في عالمٍ مُوَازٍ، أو هو يختلق ذلك، شخصية تتصارع بداخلها وفي عقلها عدة شخصيات، وكأنها لاشخصية، يتجاور ذلك مع عدم منح اسمٍ للجلاد، الذي تلخصت هُوِيَّتُهُ في كونه ضابطًا كبيرًا، إذن هو لا يحتاج إلى اسمٍ عَلَمٍ، والزوجة كذلك لم تُمنح اسمًا، هي زوجة ضابط كبير، ووجودها وكينونتها ليست أكثرَ من ظلٍّ وامتدادٍ لوجوده وهُويته، شخصيات تُمَثِّلُ رموزًا وأقنعة ودوالاًّ أكثرَ منها شخصيات محددة، كما أن الأسماء لها دلالاتها وتأويلها، ازدواجية الهُوية للطبيب، مطاع قبل السجن والاعتقال ومطيع بعدها، مأمون للمتعاون مع السلطة، فالسلطة هي من تحدد هُوية الشخصية، وهدفها “العمل على تجريده من خصوصيته التي تميزه عن المجموع، وتجاهل هُويته بحيث يفقد كل عناصر الاختلاف والتفرُّد، ويتحول إلى مجرد نسخة مكررة، تندمج ضمن مكونات الفضاء المغلق لعالم السجن”(9)، السجن الصغير ذو الأسوار، والسجن الكبير خارجه، هذا الاختلاف الذي تميز به البطل في ارتدائه لحذاءٍ يشبه حذاءَ المخرج الإيطالي فيلليني بثوريته وخروجه على المألوف والتقليدي وحبه للحياة، ومطاع يحب فيلليني ويلبس حذاءً كحذائه، والسلطة لن تَقبل هذا، “أنت لا تعرف معنى أن تغطس إلى قعر البئر وحذاؤك كبير كحذاء فيللينى”(10)، وكتابة “حذاء” على الغلاف لا يستقيم وضعه وحجمه واتِّجاهه مع التكوين البصري الطبيعي لبقية العنوان، إذن لحظة،… “حذاء فيلليني” لا يجب أن يناسب أو يتسق مع “مطيع”!

استثنى الكاتب حبيبة الطبيب وجارته رغم حضورها الكبير على لسان الراوي، فلم تمنح الفرصة للتعبير عن ذاتها مثلما منح الكاتب الشخصيات الأخرى، وهذا غير مُنْصِفٍ لها كشخصية سردية لم تتعرض للاعتقال أو التعذيب، ولكنها أحبت وتعذبت بحبِّ مَنْ تعرَّض لذلك، فكانت تشكِّل تكوينًا نفسيًّا مختلفًا ومضيفًا لتلك الدائرة وذاك المحراب.

صَنع الطويلةُ نوعًا من التناصات الداخلية بتكرار بعض الجمل، لكن مع اختلاف سياقاتها، “هل تَعَرَّضْتَ للتعذيب من قبل؟ لا يا سيدتي، تعرضتُ للعشق”(11)، وهذا يسلمنا إلى لازمكانية السرد، فالترتيب الزمني للسرد غير تقليدي وغير محدد، فيعرض تسلسل الأحداث لا كما يتم في الواقع، بل كما يتم داخل الشخصية الروائية، في فضاءاتٍ نفسيةٍ لا يقيسها وقتٌ ولا مكان، فالقص يتماهى كما يشاء له، الفعل والحوار ذهنيًّا أكثر منه حدثًا تتحدد مفارقاته الزمنية، تشعر بضبابية الوقت أو المدى أو الترتيب الزمني للسرد دون أن تدرك ذلك حقًّا، “فبوار الأزمنة يحرر الرواية من زمنها المفترض، ويردها أمامًا ووراءً، طالما أن الظُّلْمَ يُوَحِّدُ الأزمنة ويجثم فوقها”(12)، أما المكان فقد يكون في أيِّ دولة عربية، المكان والزمان جغرافيًّا وتقويميًّا قد يتحدد بقرينة هنا وهناك،  كاستحضار اسم صدام حسين والقذافي بكل محمولات الاسم من تاريخ ومكان، أو قد تكون لهجة كـ “الزَّلَمَة”، فتتسع الدائرة الجغرافية، والراوي ذاته يبرز هذا التَّمَاهِيَ في المكان، يقول حين سئل: “من أيِّ دولة؟ أنا عربي، من أيِّ دولة؟ لا فرق، كلها سواء”(13). أما مكان وزمان وترتيب الأحداث الخاصة بالشخصيات فلا يمكن تحديدها، فمع امتداد المتن يمكن اعتبار كل تلك الاعترافات، والمشاهد في معظمها، كخيال في عقل الضحية الأولى “الطبيب”، “فيلعب المكان دورًا خاصًّا كمسرح للقاء شخصياتٍ مختلفةٍ لا تعرف بعضها البعض، بل تجمعها المأساة والوحدة في المدينة المزدحمة”(14). وهذا الافتراض يترتب عليه أن كل الاعترافات والبوح أيضًا خيالية، فقد كانت كلها في حضوره وهو أحد أطرافها، وقد يكون في جملة فيلليني التي يعلقها الطبيب أمامه باستمرار دليل “لا شيء أصدق من حلم، الأحلام آخر ما يموت”(15)، وهو ما يكرس أكثر للازمكانية الحكي.

ثنائية الجسد/السلطة

الجسد -والذي كان ثيمة رئيسةً في هذا النص- لم يكن حضوره بماديته الاعتيادية، بل “يحتكم إلى وعي فكري أو فلسفي معتدل نسبيًّا، وليس تناوله من المنظور الشبقي أو بوصفه حِلْيَةً جماليةً لمجرد استثارة الغرائز”(16)، الجسد الإنساني بآلامه ورغباته وأفكاره، فلغة الجسد منطوق الروح ولغتها، نتلمسها في أبسط سلوكيات الجسد، النص يستنطق الجسد بكل الطرق، عبر علاقات إشكالية ذات طرفين أساسين من رجل وامرأة وخلفية سياسية.

هناك ثنائيات رمزية تأويلية كان الجسد أو جزءٌ منه أحدَ طرفَيْها، كثنائية جسد الزوجة/الوطن، الأنف/الكرامة، الوطن/الاغتصاب، الجسد/الروح، الجسد/السلطة، كلها ثنائياتٌ واضحةٌ في سياقاتٍ معلنةٍ وضمنية، فالزوجة تزوجت بغير رضاها أو حتى رضا أهلها، في سن صغيرة، انتهكت واستهلكت بكل الطرق الجسدية والنفسية، كان معظم سرد الزوجة كراوٍ لا يخرج عن هذا الخطاب، ولكن على أوتارٍ لغويةٍ وفكرية تمسُّ الأنثى بشكلٍ نفسيٍّ وجسديٍّ كبير، خلف ذلك الحكي وتفاصيل تلك المرثية تتراءى مأساة الوطن ومرثيته، قد تكون الزوجة رمزًا لوطن يُغتصب بشكلٍ قانونيٍّ وشرعيٍّ، ولا هُوِيَّتها هي الحياة، والمستقبل بلا هُوِيَّة أو توجُّه، فأنجبت جيلاً مُعاقًا مصابًا بالشلل، وهي كنموذج للمرأة في النص لا يخرج عن وضع في حالة قهر، فمعالجة الجسد كانت – في معظمها – انتهاكية، نوع من التعذيب والإذلال، انطفاء الروح وكسر الكبرياء، فعلاقة الجلاد بالضحية تبدأ بالجسد كمُعَبِّرٍ لسحق الروح، فتشكلات الجسد ولغته في النص ترمي بتأويلاتٍ وانفعالاتٍ تداوليةٍ عميقة، “أخذني بعد امتحان البكالوريا بيوم، غصبًا عن أهلي، عن أبي الحنون المستور الذي بال وأنكر، وأمي الحنونة المرعوبة التي باركت أمامه وبالت أيضًا واعترفت، أخذني غصبًا في فرح كبير، ضابط في بلاد لا تتسع سوى للضباط والنساء”(17)، مع قدرة عالية من الكاتب على التعبير عن المشاعر الإنسانية عامة ومشاعر الأنثى وجسدها خاصة، بشكلٍ يستحق التوقف عنده “تتمنى المرأة لو تَتَقَيَّأُ رُوحَها حين تعرف في نهاية العمر أنها كانت مَطِيَّةً لا رفيقة، أن تغير جلدها ولو بماء النار لتزيلَ الجِلْدَ الوسخ ورائحته”(18).

وفي وصف للجلاد بعد تقاعده “رقبته لم تكن ملويةً فقط، بل راسخةً في مكانها الجديد، مستقرةً فيه كأن كلاب الجحيم هاجمته فجأةً وهو نائمٌ يحلم بالجحيم، كتمثال شمع في متحفٍ جارته مارلين مونرو، فالتوى عنقه من شدة النظر إليها وبقي هناك، أو كواحد في سجن للتعذيب اغتصبوا امرأته أمام عينيه؛ فأشاح بوجهه رعبًا وجزعًا فتصلب على هيئته”(19)، نلحظ بنية التشبيهات المتواترة والاستطراد فيها بانسيابية وارتياح، وإن شَذَّ أحيانًا تشبيهٌ في وسط التشبيهات عن الحالة النفسية الخاصة بالموضوع، ولكنه دالٌّ أيضًا عن حالة الشتات، والتركيز على الجسد، والتي هي سمة تخص الشخصية في النص.

 نلحظ أيضًا بنية اللغة التي اتسقت مع بنية النص في التعبير عن المعنى وما وراء المعنى، القهر هنا قهر السلطة وليس قهر الرجل، بحيث إنه حين فقد سلطته فقد قدرته كرجل، وحتى عجز عن أن يكونَ له وجهاتٌ مختلفة للرؤية، وهنا المعنى غير منحصر على الرؤية البصرية فقط، فحين اتجه رأسُه ناحية اليسار بشكلٍ راسخ، هو وعي خاص بالشخصية، وعي مترسخ ومكرس له، السلطة تعني القوة، اللاسلطة تعني العجز الكامل والتحول إلى ضحية منزوعة الاختيارات، إنه معنى وجودي، وفي المراوحة بين وضعَيْنِ في إهانة الجسد، الأول هو المُنْصَبُّ على جسد الضحية ذاتها، والثاني هو المساومة على الزوجة أو الأخت أو الابنة للتخلص من الوضع الأول، تطرح فلسفة الرجل والمجتمع في النظرة إلى المرأة والجسد بشكل عام.

السلطة لا تعيد تشكيل الروح داخليًّا فقط بالضغط النفسي، لكنها أيضًا تشكل هيئة الجسد ذاته خارجيًّا بالقهر الجسدي وإحكام السيطرة “خرجت من تحت يديك بوجه آخر على مقاس اسمي الجديد، مطيع اسم مناسب لي، بحواجب منتوفة بِغِلٍّ لم تسترد عافيتها بعد، وتهتهة خفيفة باللسان أستطيع أن أخفيَها فقط حين أتحدث لمرضاي، لكنها تَظهر عند الغضب، ومن المؤكد أنها سوف تظهر لو وقعت في الحب”(20)، ويستهوي الكاتب الاهتمام بالوصف الجسدي للأنثى بحرية وافتتان، التعامل معه كمنحوتة فنية تستحق الفن والجمال، ثيمة خاصة بالكاتب وعلامة من علاماته، بالتمعن والاستطراد وراء كل التفصيلات الدقيقة والصغيرة للمرأة، حتى في الملبس ودلالاته وحركته مع الجسد، وكل الانفعالات المحتملة عند رؤية جسد أنثوي مثير “تندفع بتؤدة في اتِّجاهك، تهجم عليك، تتوقف، تبتعد الضلفتان لتناما كل في محرابها، وتظهر هي بمحرابها، شيئًا فشيئًا، حتى تصل لاكتمالها المكتمل أساسًا، كأنك في فيلم لشيِّ الشهوات”(21)، فالجسد حاضر وفاعل في حالة سلطة القهر، وكذلك سلطة القلب، فحضور الجسد في العشق كان عفويًّا ومعبرًا عن اللحظة ومفارقاتها وانفعالاتها، “بِنَفَسٍ متسارع بكل طاقة الخوف رُحْتُ أتحسس رأسها، كانت تتحسس رأسي، أتحسس جسدها، تتحسس جسدي، كنت أفليها، كانت تفليني، أدق على وجهها وقلبها، تربت على وجهي وقلبي، حتى استكانت أيدينا كيفما اتفق بحضنٍ حلمنا به من سنوات، وحصلنا عليه في لحظة محاولة انتحار”(22).

فاشتغال الكاتب على اللغة وطاقاتها الجمالية جعل جزءًا كبيرًا من خطاب النص كامنًا في شعريتها وانفعالاتها المتجددة مع مركزية الحدث والتداعي الحر للشخصيات، فيصبح الانصياع وراء اللغة وجماليتها غوايةً في حدِّ ذاتها، ساعد في نفي شبح التكرار والإيقاع الواحد الناجم عن الإخلاص الشديد في الطرح، شبح اشتباك أفق التوقع مع أفق التجربة السردية الحرة، فالحدث أو الصراع لا يتنامى بشكلٍ تقليدي، مع خطابٍ لا يطمح إلى تغيير منظور أو حتى واقع، بل معايشته، وختامٍ بمشاهدَ تمتلئ بالحركة والكادرات الحرة السينيمائية واللامعقول والشتات، تحيل إلى التمزق الداخلي لنفسياتٍ تنهشها المخيلة المتعبة والواقع المرفوض، بين ماضٍ ساحقٍ ومستقبلٍ نرى ملامحه بشكلٍ كبيرٍ في ملامح الوجه على الغلاف الأول، وجه مختبئ تحت جلد أية شخصية مَثَّلَتْها هذه اللاشخصية وعاشت في هذا اللامكان واللازمان واللاحدث، فيتحول الغلاف وعتباته إلى جزءٍ أصيلٍ ودالٍّ من بنية النص الفنية “فيتحدد المشروع الروائي بالعودة إلى جسد الرواية نفسها، أي النص وصيغ الفضاءات المندغمة، وملتقيات الأدلة المتمثلة في استراتيجية البنيات السردية والخطابية بشكل عام”(23).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ناقدة مصريّة

 (1) قضايا الرواية العربية، د. مصطفى عبد الغني، الدار المصرية اللبنانية، 1999، ص110.

(2) تشظي الزمن في الرواية الحديثة، د. أمينة رشيد، 1998، ص78.

(3) الرواية وتأويل التاريخ، نظرية الرواية والرواية العربية، د. فيصل دراج، 2004، ص126.

(4) قضايا الرواية العربية، د. مصطفى عبد الغني، ص130.

(5) حذاء فيلليني، وحيد الطويلة، دار المتوسط، ميلانو، إيطاليا، 2016، ص65.

(6) المصدر السابق، ص50.

(7) قراءة الرواية مدخل إلى تقنيات التفسير، روجر ب هينكل، ترجمة: د. صلاح رزق، 2005، ص219.

 (8) بنية الشكل الروائي)، حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1990، ص56.

(9) الوجود والزمان والسرد، فلسفة بول ريكور، ترجمة: سعيد الغانمي، 1999، ص48.

(10) حذاء فيلليني، وحيد الطويلة، ص15.

(11) المصدر السابق، ص22، ص152.

(12) الرواية وتأويل التاريخ، فيصل دراج، ص176.

(13) حذاء فيلليني، وحيد الطويلة، ص21.

(14) تشظي الزمن في الرواية الحديثة، د. أمينة رشيد، ص142.

(15) حذاء فيلليني، وحيد الطويلة، ص35.

(16) الرواية الجديدة قراءة في المشهد العربي المعاصر، محمود الضبع، 2009، ص122.

(17) حذاء فيلليني، وحيد الطويلة، ص28.

(18) المصدر السابق، ص83.

(19) المصدر السابق، ص25.

(20) المصدر السابق، ص51.

(21) المصدر السابق، ص23.

(22) المصدر السابق، ص64.

(23) تحليل الخطاب الروائي العربي قراءة سوسيولسانية، عبد الرحمن غانمي، ص 103.

مقالات من نفس القسم