الامتحان

جمال السعيدي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

  جمال السعيدي

      هدوء عميق يغمر قاعة الامتحان، والأطفال كعادتهم في مواجهة المواقف الجليلة الحاسمة، يظهر عليهم نضج مفاجئ، فهم رجال ونساء تفتقت عنهم تلك الأجساد الصغيرة. ومن العيون البلورية بمعين العنفوان، يطلّ الذكاء الخام متحفزا، متعطشا لخوض التجربة، للوقوع في مطبات الطريق الممتد نحو الأفق البعيد.. ذلك أن خبرة الحياة ليست إلاّ ثمرة وقوع مستمر.

      ملّ المعلم جعفر وضاقت نفسه من الانتقال بين الصفوف. نظر إلى ساعة يده وقال: ” انتبهوا يا أولاد ǃ لم يتبق من عمر الامتحان سوى ربع ساعة ǃ “. وعاد إلى أفكاره يقلبها في شرود: ” الآن أستطيع.. بعدما وجدت عملا محترما وصرت معلما، حتى وإن كان عملي مع مدرسة خاصة ولست موظفا حكوميا، لا بأس في ذلك، فأنا اليوم مدرّس يجلّه الناس على كل حال.. لن أتردد في طلب يدها ǃǃ ” واستحضر لقاءهما الأخير على شاطئ البحر، كانت سعيدة تلوح على وجهها الطفولي بشائر فرحة مرتقبة. وانتصبت في ذهنه صورتها، ولم تكن غير عينين آسرتين، ينتابه كلما نظر إليهما خدر لذيذ يفقده الإحساس بالأشياء من حوله، يغيب في بحيرتين عسليتين تلمعان بصفاء عذري شفاف.. وانتقلت به أحلام اليقظة إلى أبيها، ورأى نفسه يجلس بين يدي نظراته المتفرسة وأسئلته المحرجة، ففرّ بذهنه سريعا وعاد مرّة أخرى إلى دفء عينيها الهادئتين.

     أراد أن يستريح قليلا على مكتبه ولكنه لاحظ أمرا مريبا، فانتقل بخطوات هادئة إلى نهاية الصف. كانت سندس منكفئة هناك على ورقة الامتحان، وعلى ظهرها الصغير رأى ضفيرتها السوداء ترتعش مثل حيوان يحتضر. تردد قبل أن يخاطبها، وتذكر تحذيرالمدير العام في الاجتماع الأخير ” التعليمات واضحة.. لا يسمح لأستاذ الحراسة تحت أي ظرف كان أن يهمس لتلميذ أثناء الاختبار.. تجنبوا الشبهاتǃ هذا امتحان موحّدǃǃ ” ولكن قلبه الرحيم لم يطاوعه، هذه سندس الهواري، أقرب تلميذة إلى قلوب الجميع، أخلاقها مسك ودماغها شعلة من الذكاء النادر.. لا يجوز أن أتجاهلها‼ ترددت هذه الكلمات بداخله فيما كان جسده النحيف ينحني على طاولتها، و وجد نفسه يهمس على نحو أبوي عطوف: سندسǃ مالك آ بنتي؟ علاش كتبكيǃ؟

    رفعت إليه وجها طفوليا ذهب النحيب ببهائه، وخرجت كلماتها من بين الدموع والمخاط: ” بداية السورة.. نسيت البداية.. ” وانهارت على الورقة تبكي من جديد.

    وقف حائرا ينظر إلى الصبية لا يدري ما يصنع، ثم عاد إلى مكتبه وجلس على نار من القلق، وفي قلبه تولد إحساس كالذي ينتاب المقبل على خطوة خطيرة مخيفة. وبدأ عقله يستجيب لصوت القلب ونداء الرحمة، مع أن شرارة من الإحساس بالخطر لمعت في ذهنه، إلاّ أنها كانت ضعيفة إلى حد أنه لم يلتفت إليها. وامتدت يده بسرعة إلى مذكرة صغيرة كان يحملها في حقيبته، انتزع منها ورقة بحجم الكف وكتب عليها الآيات الخمسة الأولى من سورة الملك. كان يكتب بسرعة وحذر؛ عين على الورقة وعين على الحاضرين كما يشرب الذئب الخائف. انتصب واقفا وسار بها إلى الفتاة المنتحبة في آخر الصف مطوية في يده، كانت لا تزال على حالها منكفئة على الطاولة كأنها نائمة. طاف بعينيه في أرجاء القاعة ودسّ الورقة تحت مرفقها الصغير، فانتفضت بفزع ورفعت إليه وجهها الحزين، وجدته يزمّ شفتيه بحركة متواطئة تقول: ” شووو.. ” وقفل عائدا إلى مكتبه يغمره مزيج من الإحساس بالرهبة و طعم الراحة بعد اجتياز الخطر.

    انتهى الامتحان، وسلم المعلم جعفر أوراق التحرير إلى مكتب الحراسة العامة، وهمّ بالخروج فاعترضت سبيله المديرة التربوية وقالت بصوت حازم: ” السيد المدير العام يطلبك في مكتبهǃ ” انطلق بخطى واثقة وفي ذهنه صورة السي السليماني متربعا على مكتبه الفخم ببدلته الأنيقة وصلعته الصقيلة ولحيته المشذبة كعادته. وقبل أن يدخل عليه، صادف في طريقه سندس الهواري، ولاحظ بكثير من الدهشة وقفتها هناك على يمين المكتب منكسة رأسها، منشغلة بأناملها الدقيقة تعصرها بين كفيها في ارتباك شديد.

    دق الباب و دخل، كانت المرة الأولى التي تطأ فيها قدماه المكان. ألقى التحية متهيبا من آيات الجلال من حوله، فأجلسه المدير بحركة من يده على المقعد المقابل وتابع حديثه على الهاتف. مرت دقيقتان قبل أن يبادره بالسؤال:

  ـ كيف كانت حصة الامتحان.. ألديك ما تخبرني به؟

لم يجد جوابا لسؤال المدير، مال برأسه قليلا وهز كتفيه بحركة خفيفة، واكتفى برسم ابتسامة فارغة على وجهه الشاب، ومن خلفها كان شعور بالخوف يتنامى بداخله ويزحف على أطرافه كلها، وصار تحت نظرة رئيسه المتقدة ببريق مريب يعبر عن نفسه في شكل رعشات تهتز لها أصابع يديه فلا يقوى على كبحها، وفي صدره ترددت نبضات قلبه بمزيد من القوة المتسارعة.. وانفتحت في ذهنه نافذة رأى من خلالها ما جرى داخل قاعة الامتحان. لم يعد يرى الآن تدخله شهامة ومروءة أملتها حالة إنسانية تستدعي المجازفة، وصورة الصبية في وضعها العاجز ليست في هذه اللحظة مرادفا للرحمة التي غمرت قلبه ساعتها وقادت جوارحه إلى الوقوع في المحظور. إن هي إلا مشاعر الحسرة والإحساس بفداحة الخطإ تحاصره من الجهات الأربع، وتحشره داخل قفص الاتهام.

    دسّ المدير أصابعه تحت ملف فوق مكتبه، أخرج ورقة بحجم الكف وأشهرها في وجه المعلم الشاب، ومن عينيه أطلت ابتسامة الانتصار.. تلك الابتسامة التي يراها المنهزم مقيتة كريهة، ويبدو صاحبها لعينيه مسخا تمتلئ منه النفس بمشاعر القرف البغيض.

   ـ أليست هذه الآيات على الورقة مكتوبة بخط يدك؟

     تبلبل كيانه ودار البؤبؤ في عينيه، وبسرعة البرق تحرك عقله واشتغل، كان يبحث عن الخرم الذي تسربت منه الفضيحة. والإنسان نمطي في تفكيره، يعوّل كثيرا على البديهيات، وهي واضحة في ذهنه وضوحا لا يقبل الشك؛ لا أحد من الأولاد انتبه إلى هذه الورقة اللعينة، فكيف إذن وصلت إلى يد هذا المتعجرفǃ؟ وتذكر صف النوافذ على يسار القاعة فأصابه الذعر، واهتدى عقله المنهك أخيرا إلى أن أحدا ولا شك رآه من النافذة وهو يمد بالورقة إلى الفتاة. هكذا تقول البديهيات..

      انتزعه صوت المدير العام وهزه بهدير عنيف:

  ـ أن تحرس يا أستاذ في الامتحان، يعني أن تمنع حالات الغش، أن تضبطها.. فإذا بك أنت يا محترم.. أنت الغشاش..‼ لولا هذه الورقة بخط يدك ما صدقت.. ومن يصدق؟

   امتد صمت ثقيل بينهما وطال.. والمعلم جعفر ينظر إلى قدميه غارقا في عاره. وجاءه بعد لحظات صوت الرجل من خلف مكتبه العريض يقول بنبرة هادئة:

  – هل تعلم أن الصغار بوسعهم أن يعطوا دروسا للكبار؟ǃ هذه الفتاة المخلصة رفضت مساعدتك. هل تدري.. قالت بالحرف: لا يجوز للمعلم أن يشجعنا على الغش‼

نقر بسبابته على المكتب وقال:

   ـ لم يعد لك مكان هنا..ǃ أريد استقالتك على مكتبي في أقرب وقت‼  

مقالات من نفس القسم