الإلهة ..

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أريج عراق

بخفة وحذر، أخذت تنقّل خطواتها فوق الرمال الناعمة، بينما تمسّ الموجات المتكسّرة أطراف أصابعها على استحياء، من رأوها بمحاذاة البحرأقسموا أنه لم يكن هناك خط فاصل بينها وبينه، كموجة عالية تشكلت واقفة على أعتابه، ربما تنكسر وتذوب عائدة إلى أحضانه، وربما تجمدت على وضع الوقوف كشعاع برق يقسم السماء نصفين فيشرخ هيبتها، ويفرض حضوره البهي.

لم تنتبه لهذه الجموع التي اصطفت لتحدق بها مبهورة، ولم تشعر بأولئك الذين ألقوا بأنفسهم نحوها علّهم يمسّون ثوبها دون جدوى، أو هؤلاء الذين انحنوا على التراب يقبلونه تحت قدميها، شغلتها الذكرى عن كل ما حولها، واحتل الأفق السرمدي مدى عينيها، في منتصف قرص الشمس الناري الذي يضيء الماء رويدا رويدا بينما يطفئ أنوار السماء، فردت ذراعيها كمسيح لا يعبأ بالآلام، فانطلقت صيحات الإنبهار وآهات المحبة من بين جمهور المحبين، لكنها لم تسمع منها إلا بعض الهمهمات وكثير من الطنين، تداخلت الأصوات فلم تميز أصحابها، لكن الذاكرة أسعفتها بكلماته أو كلماتهم التي أخذت تتضح بهدوء، "إلهُ أنت يسير على قدمين"، "فلتشرعي جناحيك لتغطي الكون بالمحبة"، "إله صغير بحجم بحر، فكوني خلاصي"، "من عينيك يشع النور، ومن أناملك تنتشر الرحمة، فهدهديني هدهديني علّني أجد شاطئي بين نهديك"، "على ثنيات جسدك يتشكل الكون، وفي أحشائك أولد أنا، فأخرجيني للنور كي أرى عينيك".

نفضت رأسها بقوة لتلقي بهم بعيدا، فتناثر الماء من خصلات شعرها المتطايرة على أوجه المريدين، لعقوه وجدا وهم يسبحون، تساءلت في حزن: هل كان صوت حبيب واحد؟ أم عشرة؟ أم أن الكون هو ما يردد أوجاعه في رأسها بضجيج صامت؟ حانت منها التفاتة لجموع العارفين، فهالها المنظر، بينما انطلقت الصيحات تمجد روحها، حاولت أن تصرخ فيهم: "إلهُ لا أكون، لست أكثر من فراشة منزوعة الجناحين"، لكن صوتها انحبس، ولم يخرج من حلقها إلا بعض النواح، فارتفع الصوت وبدأ الناس ينتظمون كحلقة ذكر بينما تتخذ أصواتهم شكل الأنغام، أصابها الذعر حتى النخاع، تراجعت للخلف خطوة، فلسعتها برودة الماء على أطراف قدميها، "لو كنت إلها ما شعرت بالبرودة"، أجابها الطنين: "وهل يعي الإله ذاته اللامحدودة؟ إله من لحم ودم تكونين، فتشعرين بما نشعر به، ترتكبين الخطايا بمحبة، فتغفرين لنا محبتك"، "وهل تملك الآلهة ذاكرة، أو تتعذب بالمحبة"، "لولا الذاكرة ما كان الإنسان، ولولا الإنسان ماكان الله، المحبة وجع جدير بالآلهة".

بين الجموع الهائمة في سُكر الذكر، لمحت عينيها المتغضنتين، وابتسامتها البريئة التي تليق بإله حقا، صرخت راجيةً الخلاص وهي تمد يدها، فاقتربت منها ببطء بينما تختفي التجاعيد مع كل خطوة، تغير الوجه، ولم تتغير المحبة، هذا الوجه أيضاً تعرفه شقيقاً للروح، اقتربت منها أكثر وملامح الوجه تصغر أكثر وأكثر، "كطفلة أعود في سمت ابنتي"، لم تنتبه أنها هي من أخذت تتراجع، والماء يحيط بقدميها ويحتويهما بحنان وشبق، تأملت كل منهما الأخرى بعيون يملؤها الرجاء، قالت: "خذيني إليك، انزعي عني ثوب الإله، وادفني رأسي بين عظام صدرك المستوي، فهي أحن من تلك الرمال"، أجابتها بدموع راجية: "لكنك أنت إلهي مثلما كنت إلهك يوما وأنا أمك، أنا الآن من يحتاج إليك".

لا مفر من اليأس إذن، اتخذت طريقها باتجاه البحر، بينما توقفت حلقة الذكر عن الإنشاد، صرخ أحدهم: "ستسير فوق الماء، أقسم أنها ستفعل"، وبينما أقدامها تنغرس في رمال البحر ويتصاعد الماء إلى جسدها أكثر فأكثر، أخذوا يراقبون خطواتها فوق الماء وتلك الأجنحة الملونة التي أخذت تخرج من بين كتفيها تكبر وتكبر حتى غطت مساحة البحر وحجبت بقايا الشمس، في حين أخذت فقاعات الهواء تخرج من أنفها ومن بين شفتيها لتحل محل الهواء في رئتيها وهي تذوب في آخر شعاع ذابل، وهم يرونها تطير باتجاه النور وتختفي معه.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 كاتبة مصرية 






مقالات من نفس القسم