كنت أحيانا أفاجأ حينما أتناول قلما للكتابة، أكتشف أنه فرغ تماما من حبره، فأقفله وأعيده إلى كوب الأٌقلام حتى ولو كان فارغا. لا أقوى على رمي الأقلام حتى ولو كانت بدون حبر، أراعي فيها العشرة الجميلة وما تقاسمناه من جميل العبارات والكلمات التي خططناها على صفحات بيضاء حتى ولو كانت مجرد رسائل إدارية أو تدوينات لا مستقبل لها. القلم عندي كائن له معزة خاصة ويشكل جزءا من هندامي، إذ لا أستطيع الخروج للشارع بدون قلم معي. وأنا بالباب أتحسس جيوب سترتي الداخلية أو جيب قميصي هل به قلم، لأنني أحس بأنني عار تماما بدون قلم وبأن نظرات الناس المريبة ستأكلني فضولا إذا خرجت بدون قلم. لا تهمني الأقلام التي تكون عادة في محفظتي، ولكني أحرص على تلك التي تكون في علاقة حميمية مع جسدي، أحس بوزنها الخفيف على صدري ولو في جيب سترتي الداخلي.
لكني هذه المرة عشت تجربة مريعة ونادرة مع القلم. كنت منهمكا في كتابة مقال أرهقتني أفكاره لتجميعها وتنسيقها، ويبدو أن نفس الإجهاد أصاب القلم الذي اكتب به، إذ قبل انتهاء المقال أحسست بأن الحروف والخطوط التي أخطها بدأ يعتريها شحوب تتزايد حدته مع تنامي السطور والكلمات. بدا الأمر وكأن الحبر يخرج من رأس القلم مثل سكرات موت تعتري إنسانا عزيزا علي يحتضر أمامي. كانت الخطوط غير منتظمة اللون، أحيانا تنقطع كلية، ثم تخرج شاحبة لتخط حرفا أو حرفين بعد أن أفرك القلم بين يدي أو أنفخ في رأسه من فمي ريحا ساخنة تضيف بعض الدفء إليه، فيرسل بعض قطرات الحبر المتثائبة والتي لا تكفي لخط حرف كامل. فهمت آنذاك أن قلمي يحتضر، وبأنه سوف يسلم الروح قبل أن أنهي كتابة مقالي المتعب. وكما تقتضي التقاليد والأعراف أمام أي كائن يحتضر، فإني حاولت أن تكون آخر كلمة يخطها هي اسم الجلالة كنوع من الشهادة، ولكني أدركت أن ما تبقى فيه من الحبر-الروح لن يسعفه بكتابة اسم الجلالة كاملا، فاكتفيت بأن جعلته يخط كلمة “هو” شاحبة كرمز للاسم. بعد ذلك، وكما يتم عادة في مثل هذه المواقف مع البشر، وضعت القلم على صفحة من ورق الكتابة ورأسه في اتجاه القبلة، ثم أقفلت غطاءه بعد أن تيقنت بأنه قد أسلم آخر زفرة من الحبر-الروح.
ولأن إكرام الميت دفنه، فقد احترت كيف يتم دفن الأقلام. وهل يمكن دفن الأقلام؟…… ولأن هذه أول تجربة لي مع احتضار قلم بين يدي، فإني قررت ابتداع طريقة خاصة لتكريم كل قلم ينتهي أجله بين يدي. لن أرمي بعد أي قلم يشاركني إنتاج مقالاتي أو كتاباتي. وكما ينشئ الإنسان أضرحة تضم رفات بعض من يستحقون التكريم بعد وفاتهم، فقد أوجدت “مقلمة” صغيرة أضع فيها بشكل محترم كل قلم قاسمني لحظات إبداع أو مجرد جولة كتابة على صفحات بيضاء حتى لو كان ما تقاسمناه من كتابة مجرد رسالة إدارية أو خواطر لم يكن لها مستقبل بعد ذلك. هذه “المقلمة” ستضم منذ الآن رفات كل الأقلام التي احتضرت بين يدي. ومن الغريب أنني أحسست برغبة غريبة أن تمتلئ “المقلمة” قريبا برفات الأقلام الميتة، وبررت ذلك لنفسي بأن هذا يعني غزارة في الكتابة. لكن كيف نتمنى موت من نعز ونحترم حتى لو كان ذلك مقابل ميلاد من نوع آخر؟. أقنعت نفسي بعد لأي بأن كل هذه الأٌقلام المحتضرة بين يدي هي بمثابة “شهداء” الواجب لأنها أفضت الروح وهي تؤدي المهمة الوحيدة والنبيلة التي خلقت لها: الكتابة.
ألا تقاس عظمة تاريخ أية أمة إلا بعدد شهدائها؟
………..
الصويرة في 4 سبتمبر 2017