كريم محمد الجمال
برز في سباق الدراما الرمضانية لهذا العام مسلسل سوري ولكنه فريد من نوعه، للمرة الأولى التي يصنع فيها فنانون ومبدعون سوريون عملاً درامياً بعيدا عن الرقابة المعروفة في سورية بمعاييرها الخاصة والدقيقة وذات التوجهات والحسابات في كثير من الأحيان. بعد الأزمة الطاحنة التي شهدتها سورية والانقسامات الحادة في سنوات الحرب والحصار والنزوح كان هذا العمل المصنوع من الخارج. ابتسم أيها الجنرال عمل جديد من إنتاج شركة ميتافورا للإنتاج الفني وهي شركة قطرية مقرها اسطنبول، كان هناك تحدياً كبيراً بخصوص هذا العمل وهو استيفاء معايير العمل الفني الجيد المعروف عن الدراما السورية بالأخص منذ عام 2000 وحتى 2010 والتي كان للدولة والحكومة السورية دوراً كبيراً في دعمها لا ينكره أحد ولكن ضمن المعايير السابق الإشارة إليها، توقع كثير من المتابعين أن يكون المسلسل رسالة سياسية أو مكايدة بين الحكومة في دمشق والمعارضة في الخارج عن طريق إظهار العائلة الحاكمة بالصورة النمطية الشيطانية التي تقوم بها أي معارضة سياسية وخصوصاً أنها حازت فرصة كبيرة بالعمل من الخارج وبقدر من الحرية لا يمكن الوصول له في الوطن الأم أو يظهرون الحكومة ورموزها بشكل ساخر وأنهم مجموعة من المهرجين أو يصفوهم بالخيانة والعمالة وغير ذلك من الأعمال التقليدية في مثل هذه الظروف، وبالأخذ في الاعتبار تطورات وتعقيدات الوضع السوري والإقليمي للأزمة السورية والواقع على الأرض مما ألقى بظلاله على مخيلة وتوقعات المتابعين سواء من السوريين أو العرب عموماً، ولكن جاء المسلسل خارج كل التوقعات أولاً من حيث الجودة العالية واكتمال المعايير الفنية التي توفرت فيه بشكل كبير من تأليف للمبدع سامر رضوان صاحب التجارب الناجحة مثل الولادة من الخاصرة والإخراج لمحمد عروة والإنتاج الذي لم يبخل على العمل بأي جهد وهذا واضح من الديكور والمناظر والتصوير والملابس وشارة البداية والنهاية وتوج ذلك طاقم العمل من ممثلين حيث أبدع مكسيم خليل في دور فرات رئيس الدولة المستبد الذي ورث الحكم عن أبيه، وأبدع في دور عاصي غطفان غنوم وشخصية عاصي شقيق الرئيس الأصغر الضابط المتهور واسع الصلاحيات الذي اشترك مع أخيه وبعض كبار الضباط الموالين لوالده الرئيس السابق في مؤامرة لاستلام الحكم، كما تألق عبد الحكيم قطيفان بدور حيدر رئيس المخابرات شديد الحرص والخبث والإخلاص لفرات الرئيس وهو على عداء مع عاصي المتهور، سوسن أرشيد في دور سامية أخت الرئيس المتمردة والمتهمة دائما بسبب علاقات عاطفية قديمة لا ترضى عنها العائلة، محمد الأحمد في دور وضاح فضل الله العميد المهندس المتقاعد الذي اختار فضح النظام وفساده وتسبب في إشعال أزمة حقيقية.
المسلسل كعمل فني حتى الحلقة العاشرة وما بعدها في غاية الروعة والتشويق عند الحكم عليه بالمعايير الفنية وإبعاد وجهات النظر والانحيازات السياسية، تدور أحداث المسلسل عن بلد يحكمه شخص متسلط ورث الحكم عن أبيه وتحظى عائلته بامتيازات غير محدودة، وصراعات بين أجنحة السلطة وتوزيع الولاءات، وفق سامر رضوان المؤلف في نقل صورة كاملة عن دولة وهمية في الدراما ولكنها واقعية أيما واقعية، والعمل من بدايته معبر عن مضمونه من الشارة التي يظهر فيها السلاح الآلي كرمز للقهر والتسلط والآلة الكاتبة رمز الاستجواب في أقبية أفرع الأمن، وعبارة المقدمة أن الأحداث الواردة من قبيل الصدفة والخيال ليركز الناس على المأساة في مضمونها وجذورها وهي الاستبداد وترك مصير بلد بأكمله مرتهن في يد أسرة تتفق أحياناً وتختلف أحياناً أخرى، عبارات ميكيافيللي من كتابه الأمير في مقدمة الحلقات تدل على أن القوة هي المعيار لهذه السلطة.
انتظر المتابعون أحداث المسلسل في سياق فضائحي للحكومة السورية والأسرة الحاكمة ولكن هذا لم يحدث فكان العمل راقياً لأبعد حد وبعيد عن التشخيص، فالأزمة ليست خلافاً بين فنانين معارضين في المنفى وبين السلطة، الأمور أبعد من ذلك القضية قضية استبداد وحرية ونظام شمولي قد يكون حكمه رشيداً لعدة سنوات ثم ينحرف إذا طالت مدته في السلطة فالسلطة مفسدة مع غياب المراقبة والمحاسبة، وعند غياب لغة العقل والحوار لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص.
كل إشارات العمل ترمز لسورية قبل عام 2011 وحتى اختيار الأبطال والشكل والمكياج والملابس والأداء والحركات، ولكنه ليس تقليد لهم ولا تجسيد لشخصياتهم بل هو وضع نموذج وتصور، وهو ما فاق توقعات الجماهير حيث انتظروا العَرض ولكن المسلسل قام بتشخيص المرض، فحالة التوريث لم تكن مقتصرة على سوريا فكثير من الحكام العرب قبل 2011 وبعدها كان أولادهم واقاربهم في قمة السلطة، قصي وعدي نجلا صدام حسين وأولاد القذافي سيف الاسلام واخوته وجمال وعلاء مبارك وغيرهم، وأشار المسلسل للدولة باسم دولة الفرات فاختزل الوطن في شخص الرئيس، والدولة الغربية التي تتمتع بالحريات ولكنها تعاني من تسلط دولة الفرات هي إشارة للبنان حتى مواقع التصوير شديدة الشبه، أظهر المسلسل الدوافع النفسية والخلفيات لكل شخصية وهو ما استلزم بناء درامياً قوياً على مستوى النص والتمثيل مما أثار مخيلة المتابعين في الربط بين أحداث المسلسل والشخصيات الحقيقية المشابهة وكذلك الأحداث.
المسلسل لا يعتبر هجوماً على الحكومة في سوريا لأنه صنع عمقاً للشخصيات وأحدث علاقة نفسية مع المتابع فكل شخصية بتفاصيلها والضرورة السردية والانتقال الرشيق بين الأحداث في السيناريو وترجمة ذلك عبر الكاميرا وأداء الممثلين يجعله أقرب للنمط البوليسي، فهذه ليست طريقة إدارة دولة بل هي أقرب للمافيا عندما تحدث عن الصراع بين الأخوين فرات وعاصي ولعل المقاربة بين نهرين في سوريا هي سبب اختيار الاسماء، كذلك بعض المشاكل الأسرية التي سببتها الشقيقة سامية شبيهة بما قد أثير من سنوات والخلاف بين الأخوة على السلطة وما قد يستتبع ذلك من انشقاقات بالجيش والأجهزة الأمنية، واعتمد سامر رضوان على أحداث حدثت بالفعل وأدخلها في سياق الأحداث ولا يشترط قيام الشخصيات الحقيقية بها وكل هذا للتدليل أن العمل هو نموذج لإدارة أسرة واحدة لدولة حديثة وما يصاحبه من قصور وعوار وليس موجهاً نحو سوريا والسلطة فيها، اعتمد ايضا المسلسل على صنع مقارنات حيث كان يضع الحدث من وجهتي نظر السلطة والشعب أو الدولة المستبدة والدولة الحرة فمثلاً سامية شقيقة الرئيس وتلعب دورها سوسن ارشيد ذهبت لتختبئ عند أسرة متواضعة وأخفت هويتها وعاشت حياة الشعب الفقير البسيط ومعاناته، الصراع بين فرات وحيدر من جهة وعاصي المتمرد الأرعن من جهة وما مثله من ضغط على فرات الهادئ الحكيم المثقف الذي كان يقرأ كتاب فن الحرب وعمل الأجهزة الأمنية التابعة لكل منهما من منطق مختلف أعطى تعاطفا كبيراً لشخصية فرات الرئيس الذي لا يمتلك تاريخاً كبيراً وورث عبء ثقيل هو اسم العائلة وتقاليدها ومعها الحكم ونظرة كثيرون له بأنه لا يستحق الرئاسة فهو صغير السن والمقام أمام كبار ضباط الجيش وحتى أمام أخيه وطموحه الغير محدود والأكثر من ذلك أمام نفسه حين يختلي بها ويشعر بالحنق والحزن بأنه ليس حاكماً حقيقياً وأن أخيه يحظي بسلطة ونفوذ أكثر منه،وعندما حدثت مشكلة أخته شعر بأنه لا يستطيع التحكم بأسرته وليس بالبلد فقط،الأم التي عاصرت بناء الوطن على هيئته الجديدة وحاول توريث ابنه الحكم دائماً ما تتحدث عن ضرورة الوحدة وحماية العائلة،كذلك عاصي دائم الحديث عن العائلة واسمها والتوعد لمن يفكر في انتقادها،أحيانا يتحدث فرات بصيغة الوطن وليس العائلة فتقابله شخصيات أخرى من منطق العائلة، فكل شخصية وضع لها سامر رضوان دوافعها قد يكون ضعف الشخصية او الشعور بالنقص والدونية وهذا الضعف يعوضه بالقوة المفرطة، زوجة فرات التي كانت تنظر له نظرة مثالية حتى عرفت انه وصل للحكم بعد تصفية خصومه أصبحت تفكر مثل أمه أنه لابد من حماية العائلة نحن او هم، سامية بعد أن ذاقت ظلم إخوتها صارت تشعر بظلم الناس، وضاح فضل الله قرر أن يفصح عما ارتكبت السلطة من جرائم بعد إصابته بالسرطان،ولا زالت الحلقات حبلى بالأحداث.
ستبقى الدراما الحقيقية والفن عموماً مرآة للمجتمع كاشفة عن عيوبه وتقدم نظرة استشرافية له وتحلل الأسباب لعلها تبعث برسائل للحلول، رسالة المسلسل أن الشخص مهما بلغت حكمته وقوته فهو ليس بحجم الوطن وأن القوة وحدها لا يمكنها نشر الأفكار والحصول على محبة واحترام الناس،اختزال الوطن في شخص أسرع طريق لدمار كليهما.