إخلاء طرف

محمد فرحات
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فرحات 

وقع إذن ما كنت أخشاه، وفي آخر أيام انتدابي، أراد من يطلقون على أنفسهم رؤساء، أن يزيدوا لأنفسهم يومين، ليتسلموا أجر يومين زائدين لم يعملوا فيهما بقدر مثقال ذرة، ماعلينا، فهم رؤساء فليدلسوا كما أرادوا، فالورق ورقهم وكذا الدفاتر، وهكذا أحوال البلاد منذ أيام أبي العلا وزوجته الحسناء سعاد حسني، ما يهمني هو حصولي على إخلاء طرف، حتى لا أقع بورطة العام المنصرم، حيث حقق معي بحجة عدم حضوري المهمة إياها، ولما أقسمت يمينا مغلظا بأني كنت أول من حضر، واسألوا باب المصلحة الحديد؛ والذي كنت أول من يمسك مقبضه فاتحا، ولأن الرؤساء فعلوا العام ما فعلوه العام الماضي، ولأن المؤمن لايلدغ من ذات الجحر مرة وثانية، فإني قد ثورت ثورة، وصعدت على الدكة، لفظ يطلق على ما يجلس عليه التلامذة الصغار، وأخذت أشرح للزملاء الحال ومغبة المآل إذا خابوا ورجعوا من غير إخلاء طرف، وأخذت أشوح وأجعر، كما الرفيق لينين يوم رجوعه من سويسرا لاقتلاع السلطة من المناشفة، وتخيلت أعلام البلاشفة الحمراء، وهتافات الرفاق، تلهج باسمي، وبعد خطبة عصماء عن الأهمية المصيرية لإخلاء الطرف، انضم الرفاق، لأقودهم نحو الرئيسة، وهي فارعة، حسناء، طيبة الريح، تلغمط وجهها بالأبيض والأحمر والبنفسجي، تتكلم في همس، فدخلت عليها، ونظرت خلفي فإذا الرفاق انفضوا، فقلت لها متألما من الخذلان “عاوز إخلاء طرف”، فإذا الصوت الهامس ينفجر زعيقا وشخطا، وإذا الحسناء تقوم كأحمس على عجلته الحربية، ويخرج الرفيق حنفي من تحت جلدها الرقيق ويزعق”ما فيش إخلاءات…!” ،وأنا وللحق احترم الجمال وأجله، فانصرفت وأنا أبرطم وأبرطم، وتذكرت يوم قبض على عرابي بالفنلة واللباس، وكيف فعل خنفس باشا فعلته النكراء، فذهبت لمكتب وكيل الوزارة، أشكوا وأطالب بحقي المقدس في إخلاء الطرف، فحولني مدير مكتبه لمدير المديرية، وحينما نطقت باسم الإخلاء، إذ قامت قيامته، وقد كان وقورا منذ ثانية أو لمحة بصر، وكان قد جالسه ولم ألحظه الرئيس الأعلى للغادة الحسناء السيدة التي تبدت من منذ قليل عن السيد حنفي لاصقا فمه في أذن المدير الأكبر، فقال لي آمرا “اطلع الدور الخامس على مكتبي” يريد الانفراد بي، فقلت لنفسي “لو انفرد بك، لربما زعزع عقيدتك المقدسة بالإخلاء…” فقلت”أنا في مكتب مدير المصلحة العام” فانفجر المدير العام” التزم بروتوكول الكلام مع رئيسك يا افندي” طبعا سرحت في كلمة بروتوكول تلك، وأخذ يشرح في ضرورة مراعاة البروتوكول، والإتيكيت في التعامل، وأن سبب الخراب هو عدم تعلمنا البروتوكول، وقد انفشخت أساريري بابتسامة بلهاء، وحول أقرب ما يكون لحول عبد الفتاح القصري، فعلا قد ظلمت نفسي بعدم دراسة البروتوكول.
ذهبت إلى البيت مهموما ولم استطع القيلولة كما تعودت، فقمت وكتبت شكوى بليغة سأقدمها للنيابة الإدارية، وزوجة سقراط المسموم، تلمزني بلسانها، وهي تقطع البصل إربا، لا يقطع لمزها إلا شنة من هنا أو شنة من هناك، دبجت الشكوى تحت ضغط لمز زوجة سقراط اللعينة وهمزها ولومها كسلي، وأني لو كنت قد اتلهيت بدرسين خصوصين زي الناس، أو فتحت بلاي استيشن والعيال خدت أجازة، وإن الكتب لحست دماغك، وإخلاء إيه ده إللي أنت قاتل نفسك عليه.
ولكني أصبحت وليس الصباح على إطلاقه رباحا كما يقولون، وبكرت حتى وصلت مقر النيابة، فلم أجد موظفا لاستلام شكواي، وقال لي الساعي  غاضبا”عاوز إيه يا جدع أنت؟!”، وبالرغم من بداهة الإجابة، وأني ما جئت للتمتع برؤية سحنته العزلاني، أو عينيه التي في أطرافها حور، قلت”جئت لأسلم مذكرة للموظفين” قال لي “إنت فاكر نفسك في نيوزلندا؟!، على الساعة تسعة ونصف كده” سائلت نفسي “وليه نيوزيلندا بالذات؟!، خاصة وأنها يعني مش زي ألمانيا أو اليابان في الالتزام، يمكن علشان يعطني دليلا دامغا على عمق ثقافته…”.
المهم نزلت في باحة مجمع المصالح وإذا روائح الطعمية والفول تغزو  أنفي، وأنا من انشغالي بقضية إخلاء الطرف، لم أكن قد طعمت  لقمة من ساعة ما تلبستني  روح النضال والثورة من أمس، فجلست عند أحد عربات الفول، وقلت لنفسي “لا بأس من استراحة محارب، فالنضال يحتاج لبعض الفول  والبصل والشطة…” فجاء الطلب فولا وطعمية وسلاطة وجريرا  وشرائح بصل وخبزا صبوحا، فانقضضت على الطعام انقضاضا، انقضاض أسد لم  يذق طعاما منذ أيام، وطلبت طلبا آخر، وشايا ثقيلا، ومع سيجارتين سوبر، تبخرت الثورة مع دخان السجائر، وغزتني روح تسامح عميق لا أدري من أين جاءت لعلها جاءت من تلك الجرعة الزائدة من الفول والبصل، ورجعت بالمذكرة ولا أدري أين رميتها، ونمت  تحت تأثير البصل نصف نهار كامل بلاحراك…وعلمت أن الفول أفيون الشعوب حقا، وكانت هذه نهاية قصتي مع الإخلاء!!

مقالات من نفس القسم