عبد العزيز دياب
أخيراً توصلت إلى الطريقة التى استحضر بها الساحر “فاشة”: فى غبشة الغروب وعلى الدكة العتيقة القائمة بحديقة البيت كان مازن مسجي عندما أشعلت شمعتين عند رأسه.
شمعتين فقط، واحدة عن يمينه والأخري عن يساره، هكذا يتحقق الاتزان المطلوب، لوحت بكفي بحركة محسوبة وأنا أتمتم: لا ينبغي أن تنطفىء واحدة، ضغطت بعدها على بطنه ثلاث مرات وأنا انتظر أن يخرج الساحر من فمه.
لحظة أن يتجسد أمامي ذلك الفاشة بهيئة مراوغة لن أشعر بأى قلق. أن يكون وسيماً بهيئة نجوم السينما: “جوني ديب”، “براد بيت”، “رشدى أباظة”، أو غليظ الملامح بهيئة شريرة، تسكن ضفدعة فى زوره لن يؤثر ذلك على المهمة التى نحن بصددها.
عندما يلوح فاشة بقُبَّعته البنية الخوجاتي ينفلت منها كلبٌ رشيقٌ، يهوهو بصوت رفيع مشروخ، يقف فى مواجهة المعلم “حشرة” وعصابته من عيال فصل 6/4 بمدرسة “عادل الفونسو الابتدائية”.
تنتابني مشاعر غريبة تؤرق أفكاري. أعرف أن إلية مازن طرية صالحة للعض بسبب أكل البليلة باللبن والمكسرات فى ليالي الشتاء، أو لأنه لم يتكبد عناء الذهاب مثلى إلى ورشة أبى حاملا عامود الطعام وهو يغني “ذهب الليل.. طلع الفجر”
كثيراً ما كانت عمتي “توحيدة” تضرب مازن على إليته بكل رقة، كانت تعرف أن ذلك يعجبه، يتعمد المرور أمامها لتشتعل ضحكات العائلة، لكنني الآن أخشى أن تكون إلية مازن وليمة لغضبان كلب الساحر فاشة، اتفقنا أن يكون اسمه “غضبان” وينحدر من سلالة مجهولة بشعر أحمر يميل إلى السُّمْرة.
أخبرني مازن أن الساحر فاشة تصحبه موسيقى خفية صاخبة فى مساحات عريضة، ما تلبث أن تهبط خافتة كالوشوشة وهو يلوح بقبعتهٍ خوجاتي يخرج منها بطٌ وإوزٌ، أرانب ودجاجات، قططٌ وسلاحف صغيرة. لا أعرف كيف التقي به مازن، أين ومتى؟
تحدثت عمتي عن كتاب اسمه “شمس المعارف الكبري”، ورواية “مانفيستو الديك النوبى”. هذا لا يعني أن مازن التقي بالساحر فاشة فى ذلك الكتاب، أو تلك الرواية. الأرجح أنه التقي به فى حلم عنيف أخذه إلى أرض السَّحَرة وهو على ظهر بغلة عجوز عرجاء، أهداها له رجل خسيس بعد أن أخذ كل ما معه من مال. لم ينصحه بعدم الذهاب إلى ذلك المكان لأنه سيواجه أهوالا، قد يرجع من هناك على هيئة فأر أو سحلية، أو كائن مسطح. مازن فى ذلك الحلم كان شاباً طائشاً تجاوز العشرين، يهوي السفر والترحال، مطالعة غرائب البشر والبلدان.
أعرف أن مازن ذهب فى حلم أخر إلى أرض البعوض وعاد سالماً، هناك رأي الحشرات الضعيفة بأحجام فيلة، ترعي فى البراري حول برك ومستنقعات، رَشَّه فيل/بعوضة بدفقة ماء قوية، تراجع عن رغبته اللحوحة بركوب هذا الفيل ونهض من النوم مبولا.
المَرَّة التي ذهب فيها إلى أرض السحرة كانت السماء بلون الدخان، ترمح على صفحتها كائنات لها هسيس، تجهز نفسها لمؤامرة كبيرة، عاد ومعه الساحر فاشة يرتدى برنيطة خوجاتي يتحسسها ويمىء لجمهور متخيل، وكنت أضغط على بطن مازن ثلاث مرات ليخرج فاشة ويتجسد قزماً يعتمر البرنيطة، يلعب بها كما يلعب سحرة كوبنهاجن، ومدريد، مرسي مطروح، جوهانسبرج، مكناس، مومباي.
بحاجة أنا إلى مشاهدة بطة بنفسجية تغني “كوكو واوا” وتشوط الكرة بمنقارها، أو تتسلق نخلة البلح الحياني، هذا على سبيل الاختبار كتجربة أولى تؤكد قدرات فاشا السحرية، على أن تكون هذه اللعبة فى حضور أبى وأمى وعمتي وخالي، ومدام “وسيلة” مراسل قناة إمبو الإخبارية، هذا رغم اعتقادي أن أمى ستطلب عروساً ميكانيكية تطهو طاجن اللحم بالفرن وهى تحكي عن تجربتها الشخصية فى لعبة الكراتيه وحصولها على الحزام البرتقالي، أو حصولها على المركز الأول فى أشغال “الكنافاه”، أو الغناء فى حضرة كائنات ميكانيكية تلتهب أكفها المعدنية من التصفيق والإعجاب.
تمتمات عمتي وهي تخرج لسانها بحركة خاطفة تؤكد أن أمي كانت تطلب المستحيل، ضحكنا بصدور منشرحة وصار الجميع أكثر جديدة وهم يشربون أكواب النسكافيه.
قررت الاستعانة بالساحر فاشة منذ اليوم الذى حدث فيه مهزلة الحفل الغنائي لفريق “بَرَّه الكادر” بقيادة المطرب الفنان مازن ومشاركة بعض الزملاء ممن لهم حناجر منحوتة من معدن القصدير.
الفضل كل الفضل يرجع إلى عمتي توحيدة فى اختيار اسم الفريق المقتبس من مسرحية هزلية، أو قصة عبثية. كل الأسماء التي طُرِحَتْ لم تكن مُعَبِّرَة، علاوة على أنها كانت مُسْتَفِزّة، تليق بفرقة غنائية تقدم عروضها فى أحراش استوائية مفعمة بالبعوض والحشرات اللحوحة.
انضمت سوسن برغبتها إلى الفريق، كان الحفل فى نهار ربيعي يوم أن اكتسح الحديقة حشدٌ كبير من عيال المدرسة، وآخرون جاءوا من الشوارع بعد الإعلان على مواقع التواصل أن لمازن فى هذا الحفل أغنية “أَمَّه.. أَمَّه بخاف من كوكو”، ولأنها مستوحاة من التراث الشعبي فقد ضمنا لها النجاح الكبير.
أيامها دون قصد حَشَوْت أذن مازن بحكايات رهيبة عن المعلم “حشرة” وعصابته عندما وضعوا سحلية طازجة فى حقيبة أحد الزملاء. المهزلة التي حدثت كانت مفعمة بالكوميديا السوداء، عندما انفلتت السحلية وقفزت فى وجه أبله “انشراح” مدرس العلوم.
أما من وَشَي بهم عند الأبلة مديرة المدرسة، لم يصبروا عليه كثيراً، وضعوا له بمساعدة العامل بسوبر ماركت “زيزينيا” الشطة والفلفل الحامى فى ساندويتشات الجبن التي يشتريها، هذا علاوة على أنهم وضعوا فى درج طاولتي صراصير وضفادع لزجة لأنني لم أكن محايداً حيال تصرفاتهم العبثية المجنونة.
من الصعب أن يُمَارِس الفن شَخْصٌ تداهمه التهيؤات والهلاوس، هذا بالضبط ما حدث لمازن الفنان، المطرب صاحب أغنية “أَمَّه.. أَمَّه بخاف من كوكو”، كنا نتوقع انتشاراً واسعاً لها وسط جو يموج بكل ما هو مُسِفٌ وهابط من الغناء، ننتظر أن يلتقطها أى واحد من أساتذة الموسيقي ويعلي من شأنها.
الهلاوس افترست مازن بعد اقتحام المعلم حشرة أحلامه على هيئة كائنات مرعبة: غول، ذئب، ثعبان…
كان مازن متوهجاً وسط تصفيق وهتافات جمهور العيال، عندما صرخ وتهاوي إلى ركن المسرح فَزَعاً ورُعْباً، وهو يتخيل أن تنيناً صغيراً بحجم القط ميشو يهاجمه، ضحكات السخرية الفجة أشعلتها المهزلة، لذلك كان لابد أن يخرج الساحر فاشة من بطن مازن، ليحول المعلم حشرة إلى حشرة حقيقية، يستطيع مازن أن يدوسها بقدمه وهو يغني.
…………………..
*نص من المجموعة القصصية “أن تغني وأنت تسحق حشرة”.