ناصية باتا

ناصية باتا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسن عبد الموجود

وضع طانيوس البوستة أمام المدير. الأخير سأله عن المظاريف، خرج وعاد بها، أمسكها المدير واحداً وراء الآخر، وقرأ بيانات الطلاب الذين يرغبون فى الالتحاق بالمؤسسة، كان صوته يكتسى بالحدة بعد أن تأكد أن هناك إصراراً من الطلاب أو أولياء أمورهم على كتابة عنوان المؤسسة مقترناً بناصية باتا:

- بجوار ناصية باتا، بجوار ناصية باتا، بجوار ناصية باتا..

ألقى المظاريف بغضب على المكتب، وكان طانيوس يعرف أنه متضايق بسبب إحساسه بضياع هيبة المؤسسة فى اقترانها بباتا. الشركة ذات الباب الكالح، وهؤلاء الشاحبون الذين ينتظرون شحنات الأحذية القماش والبلاستيك والجلد الرخيص الواردة إليها، لا يمكن تعريف المؤسسة بهم.

قال طانيوس:

– تعرف، أنا حاسس إنك بتبقى متناقض أحياناً، مش فاهم إزاى شخص مهموم بتاريخ بلده زيك ممكن يبقى طبقى؟!

حينما وضع المدير لائحة المؤسسة جعل كل السلطات مخوّلة له وحتى مع اشتراط الحكومة وجود مجلس للأمناء جاء بمجموعة من أقاربه الذين كان يذهب إليهم فى بيوتهم ليوقع الأوراق اللازمة. وكان يُعاقب طانيوس بالخصم من راتبه كلّما تفوّه بشىء مماثل، كان شيئاً غريباً خاصة وأنهما صديقان قديمان. لقد بدا الأمر فى كثير من الأحيان كما لو أنّ المدير قرر إنشاء هذه المؤسسة ليُعذّبه لا أكثر ولا أقل. كان طانيوس يقول لنفسه إنّ السلطة المفروضة على الشخص تُرخى قبضتها على رقبته كلما صعد باتجاه رأس الهرم الوظيفى، فليس هناك كثيرون فوقه ليحاسبوه على تصرّفاته، ولكن فى حالته فإنّ المدير يجعله يشعر بأنه لن يتنفّس إلا بأمر مباشر منه. كم كان هذا مرهقاً، ولكن العزّاء أنه ينفّس عن طاقته فى الطلاب، وقد كان الأمر ممتعاً لأنّ هؤلاء الطلاب من طينة مختلفة، وقدموا إلى هذه المؤسسة مدفوعين بسخط آبائهم ورغبتهم فى أن يصبحوا أكثر قدرة على مواجهة الحياة.

-قدامك نص دقيقة وترجع!

تحرّك طانيوس إلى مكتبه ووقّع ورقة بخصم ثلاثة أيام من راتبه هو بناء على وصفه المدير فى جملته السابقة بأنه متناقض وطبقى، وعاد مرة أخرى غير أنه فوجئ بالمدير يقول بهدوء:

-أحياناً بيكون تقديرى للأمور غلط!

شعر طانيوس أنه على وشك التراجع عن الخصم، وتحاشى أن تفلت منه أية بادرة سعادة. لو تراجع سيشكره بكلمة مقتضبة وكفى، فهو لا يُريد أن يبدو فى موقع أدنى. وقال المدير:

– أنا شايف إن تلت أيام مش كفاية خليهم خمسة، وترجع بسرعة!

رأى طانيوس نفسه -وهو يسير باتجاه مكتبه- يصرخ فى وجه المدير، وتضايق لأنّ خياله بدا عاجزاً، دائماً يصرخ ولا شىء آخر. لماذا لا يقتله؟ لماذا لا يُسقطه من جبل؟ لماذا لا يضربه حتى يتضرّع إليه أن كفى..ولكنه عزى الأمر إلى أخلاقه العالية.

-بتكرهنى طبعاً؟! عموماً مش عايزك تجاوب، خلينا فى مشكلة باتا!

كان اليوم التالى تاريخياً بالنسبة إلى طانيوس، فلأول مرة منذ عامين يدخل المدير مكتبه. كما أن وجهه متهلل، جلس على الكرسى أمامه فهب واقفاً ولكن المدير أجلسه بإشارة من يده. كانت هناك مشكلتان فى الحقيقة. أولاهما أسهل، أنّ المدير طلب أن يعزمه على شاى، وهذا معناه خرق للميزانية، وسيضطره إلى إلغاء شاى الظهيرة، أما الأصعب فاللافتة المعلقة خلف ظهر المدير تماماً “لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً، وإنا لن نُورّث أو نُستعبد بعد اليوم”. ماذا سيقول المدير؟ من المؤكد أنه سيفهم أنها موجّهة إليه، ولا أحد سيعرف لحظتها ما سيُقدم عليه.

كان يخشى أن يظهر التوتر على ملامحه، وحاول أن يجارى المدير الذى كان ينقل إليه مكالمات جرت بعد منتصف الليل مع عدد من المسئولين الذين وعدوه بنقل باتا من مكانها إلى مكان آخر.

 وخص المدير –فى كلامه- وزير الإسكان بالمديح، لأنه وصف المؤسسة بالمفخرة الوطنية التى تخرّج رجالاً من نوع خاص قادرين على خدمة وطنهم، وهى تستحق التدخّل لدى الوزارات والجهات المعنية من أجل زيادة مساحتها، حتى لو كان ذلك على حساب باتا.

كان طانيوس يريد أن يمنع نفسه من الكلام، أولاً لأنه لا يريد امتداح المدير، وثانياً لأنه مشغول باللافتة، ولكنه تحدث، ووجد نفسه يقول إنّ المؤسسة كان يجب أن تغيّر من شكل المنطقة، فلو أنها كانت أكثر ارتباطاً بالواقع لتم فتح محال ملابس، وأغذية، وأدوات منزلية، وغيرها لخدمتها، ولو أنها كانت أكثر ثقلاً لكانت وزارة النقل خصصت محطة للباص بجوارها، ولكنها وُلدت متعالية، ومنفصلة، ومكتفية، كأنها جيش منكفئ على نفسه داخل أسواره.

خرج المدير بعد أن رمقه من أعلى إلى أسفل، ويبدو أنه فى ظلّ غضبته لم يلحظ اللافتة. بعد أسبوعين على هذا الموقف تم وضع لافتة صفراء مكتوب عليها بالأسود “مغلق” أمام باتا، وبعد أسبوع آخر بدأت الجرافات فى إزالة المبنى، كان طانيوس يفتح البوابة ويقف لحظات ليراقب عملية الهدم، ولكن الأتربة كانت تعيده بسرعة، وكان التساؤل المسيطر عليه والذى وجّهه إلى المدير: هل حصلت المؤسسة فعلاً على أرض باتا.. ولو حدث هل سيتم هدم السور فى المنطقة القريبة منها، وبناؤه مجدداً ليستوعب مساحة باتا؟!

ورد المدير:

-فعلاً إنت ما بتعرفش تفكر، أولاً مساحة باتا صُغيَّرة جداً، ولو ضميناها زى ما بتفكر هتبقى عاملة زى الكيس الدهنى فى جسم المؤسسة، إحنا هنبنى شركة هنبيع فيها شغل الطلاب الفنى، الرسومات، والآركت، وبكده هنمسح تاريخ باتا تماماً!

ولكن يبدو أنّ المدير كان واهماً، فقد دخل عليه طانيوس فى اليوم الذى لن ينام فيه وعيناه تحملان قدراً كبيراً من اللؤم والشماتة، ومد إليه يده بالمظاريف الجديدة:

-اتفضل، كلهم كاتبين، مؤسسة 1 أغسطس، بجوار ناصية باتا القديمة !

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*فصل من رواية “ناصية باتا”

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون