مقتطف من رواية “عمود رخامي في منتصف الحلبة”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ربما تبدو ثيابه قديمة الطراز، غير متناسقة الألوان، قميص بني ذو ياقة كبيرة، تفترش على الكتفين، وتتدلى فوق الصدر، بنطلون لبني به عراوي كبيرة، وحزام أسود عريض لميع، لكنه مهندم، مصفف الشعر الأبيض الناعم في عناية.. في عينيه بريق شاب، في ابتسامته أمان.. تصور أنني لم أسمعه فكرر :

–  الجو متقلب اليومين دول !

–  فعلًا كل يوم على حال .

يتنهد بعمق.. يؤمن على كلامي، يكرره.. يفلسفه، فيتحدث عن الراكب الذي لا يظل راكبًا، عن الكراسي التي لم تدم لأحد، كزجاجة أندفع غطاؤها بقوة التخمر كان يتحدث، كأبكم أكتشف فجأة أن لديه قدرة على الكلام..

– كل يوم على حال، حتى أمريكا انضربت في ثانية، شوف…

يستعرض صور ضرب البنتاجون من صحف الأمس.. يتحدث بحيوية، وسرعة، لا يرد على أسئلتي، لا يستمع لي أصلًا.

كنت مهتمًا بحديثه؛ له أسلوب ممتع.. يتحدث فيجسد ما يقول بيديه وتعبيرات وجهه، لكن هنات مزعجة في كلامه، تغاضيت عنها.. كثرت.. كبرت.. تضخمت..

– عارف، أنا لما كنت في الجيش، كنت أسد، وكان صحابي بيحبوني، بس لما العفرة قامت، مشفتش حاجة، ولقيت نفسي لوحدي، أعمل أيه؟

مشيت لحد ما لقيت أربعة صحابي، كانوا هيموتوا من العطش والجوع، لكن أخوك مجاهد ميغلبش.. بركت على ركبتي خلعت السترة، والخوذة قلبتها وهات تعصير في صدري أي والله، لحد ما لقيت ببركة دعا الوالدين اللبن ده ولا البحر بقيت أملا الخوذة ويشربوا، لحد ما ارتوينا.. عملت بالباقى جبنة وسمنة كفت لحد ما وصلنا بالسلامة…

كان يحكي متأثرًا لدرجة تجعلك لا تشك فيما يقول، يحكى ويرمي بعينيه بعيدًا في الأفق، وكأنه يرى في التو ما يحكيه تكسو الحمرة وجهه.. تتفصد حبيبات العرق فوق جبينه نافر العروق، لكنه ما زال يحكي، ودون أن يلتفت لي يكمل بنفس الاندفاع..

–  كنت واقف خدمة غلى السد العالي، شنجي زنهار.. حاكم السد العالي ده عالي أوي.. جامد حديد.. بس العبد لله أكتشف فيه خرم، اه والله العظيم خرم، عمال يسرب ميه، كانت الساعة تلاتة الفجر.. يا عالم البلد هتغرق، محدش سامع ولا حاسس، طب تعمل إيه يا مجاهد ؟ طبعا حاولت أجيب طينة ورملة منفعش..

بصيت لربنا فوق كده، ودعيت والدموع في عينيه، لقيته ألهمني، ورحت قاعد ومدي ضهري للسد.. سديت الخرم بضهري .

لحد الصبح لما شقشق، والناس اتصلت بالمطافي، عشان تيجى تحل المشكلة…

يتناول نصف كوب الماء المتبقي أمامه.. يمسح شفتيه، ويكمل بنفس نشاطه :

–  تعرف يا أستاذ، عبد الناصر لما عرف فرح أوي، واداني نيشان…

ولكن يبدو أنه لمح شيئًا أزعجه في نظراتي، فإذا به يحتد، يردد كلمات سريعة لم أفهمها، يشرع في خلع قميصه، دون أن يتوقف عن الكلام .

 – أنت مش مصدقني؟ طب حتى شوف الميه عملت فيا أيه!

بالفعل يريني ظهره، أُخذت عندما وجدت آثار حُفر غائرة بعنف في اللحم، حُفر كمجاري المياه من أثر السيول، كأنياب حيوان مفترس في جسد ضعيف يقاوم.

………….

الهيئة العامة لقصور الثقافة – 2003.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون