عن الذي يسمّي نفسه.. الطاهر شرقاوي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 10
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الشماع

يُخرج من جيب الجاكيت الجينز أو الشنطة تذكرة المترو. "شكرا يا محمد معي التذكرة". أضحك وأسير لشباك التذاكر متعجباً من صديقي الذي يبتاع تذكرتين صباحاً، واحدة للذهاب والأخرى للإياب.

في المترو نحكي كثيراً عن السينما العالمية، وعن أفلام نجومنا المفضلين، هو يحب الممثلة الفرنسية إيمانويل رييفا، وأنا أحب ميريل ستريب، هو يحب سينما الأوروبيين، وأنا مولع بالأمريكان، هو يلبس “كاب” على رأسه دائما، وأنا لا أطيق شيئا على رأسي.

ننزل في محطة “أنور السادات” أو ميدان التحرير، نسير في طرقات المترو، نكمل حديثنا، لا نعرّج كثيرًا إلى الأدب أو للسياسة، فقط بضع كلمات ونعود إلى معشوقتنا “السينما”، نخرج في التحرير عند بائع الجرائد الأشهر، نلقي نظرة على الصحف، يقول “مفيش جديد”، أقول “فعلا.. مفيش جديد”.

نشاهد سويا الوجوه في الميدان، نراها متكررة متشابهة، نأخذ لفة فيه، يقول “الميدان كما هو منذ فترة”، أقول “فعلا.. الميدان أصبح مسخا”، ثم أحكي لدقائق عن الميدان الذي أعرفه، واعتصمت فيه أياما وليالي، يسمع هو ويكتفي بالابتسام.

هو من يأخذ قرار الخروج من الميدان. نخرج لنتجه إلى شارع طلعت حرب. يصمت لثواني، ثم يقول جملة مثل “الراجل ده كان يبيع أعلام منذ شهرين، والآن يبيع موبايلات”. أستغرب ما يقول، وأستغرب أكثر من قدرته على ملاحظة مثل هذه الأشياء العادية.

يقول هو “رجل البوابة كان يأتي على فترات متباعدة، لكن في الشهور الأخيرة بات يأتي كل يوم، في الأول ظننت أنه حارس الحديقة، لكن وجوده المستمر على الكرسي دون حراك جعلني أتشكك في تحديد وظيفته، هو دائما على هذه الهيئة المحيرة، والتي لا تمنحك انطباعا واضحا إن كان نائما أو مستيقظا”.

نعم هو يتعامل مع الشيء “أي شيء” مثل الطفل، يراقبه بدقة، يشاهده يتحرك من نقطة لأخرى، يعود اليوم التالي يراقبه، وهكذا يفعل حتى ينتهي من قصة، هكذا فعل مع “الحجر” في روايته.

نتجه يمينا إلى شارع هدى شعراوي، فيقول “أحمد الله أن الباعة الجائلين تائهون عن هذا الشارع الذي ما يزال يحافظ على هدوئه”. نمشي في الشارع الأنيق، ينظر إلى المباني، تحسبه يتفحص أحجارها مبتسما، فهو خبير في الأحجار.

هو يقول “أنا مغرم بالأحجار الصغيرة، في أدراج دولابي يوجد الكثير منها، بأشكال وأحجام وألوان مختلفة، كما أن هناك العديد من العلب البلاستيكية الشفافة، ممتلئة بأحجار اقتنيها على مدى السنوات الفائتة، وجمعتها من أماكن مختلفة… في الحمام فأضع في الصبانة أحجارا بحجم حبات الفول والفاصوليا، بيضاء وبنية وسمراء”.

نغادر سويا شارع هدى شعراوي، إلى أحد الشوارع الجانبية التي تخرجنا إلى ميدان الفلكي، هو يقصد دائما مقهى (سوق الحميدية)، فيقول لي: “سوف أمر على المقهى، فإذا وجدت أحدًا من أصدقائي أظل قليلا، وإذا لم أجد، فسوف آخذ طريقي للبيت”.

دائماً هو لا يجد أحداً من أصدقائه على المقهي، ولا يكلف نفسه عناء النظر إلى وجوه الجالسين، لعله يجد وجها صديقا. نترك الرصيف ونسير حتى ينتهي ميدان الفلكي، وإلى جوار مقهى “ستراند” يتركني إلى بيته، يقول بأدب جم “اتفضل معايا”، فأقول “شكرًا. أراك غدا”، ثم أكمل أنا ويكمل هو.

أسير لأفكر، هل يقابل صديقي شيئا عجيبا في الأمتار التي يسيرها وحده في اتجاه بيته، هو يقول “قابلت مصاص دماء.. لا أدري إن كانت تلك المقابلة حدثت مصادفة، أن عن طريق خطة محكمة، المهم أنها حدثت… صاح في وجههي: رب صدفة خير من ظالف ميعاد، ثم أكمل بعد أن أطلق ضحكة صغيرة، ابتسمت من أثر المفاجأة وفكرت: هل أنا صيده الأول في هذا اليوم، أم أنه متخم وليس نفس لمزيد من الضحايا، أمسكني من يدي وسحبني في اتجاه المقهى”.

هو شخص غير عادي، فهو يقابل مصاصي الدماء، ويتحدث إلى العفاريت الذين يخفون منه الأقلام والكتب، ويربي حجرًا، ويتأمل عالم القطط والكلاب، وتشغله تفاصيل جسده، حتى أنه يراقب حبات العرق التي تنساب على جسده. هذا الشخص الذي أفكر فيه بعد أن أتركه وآخذ طريقي إلى بيتي، ماذا يفعل في بيته؟.

قال لي مرة أنه يطفئ الأنوار، ويأتي بكوب من الشاي الأخضر، ويشاهد فيلما على الكومبيوتر، وهو ممدد جسده على السرير. أتصور أن في منزله كرسي مهمل، كما أتصور أن شبابيكه بلا ستائر. كتبه ملقاة على الأرض بانتظام، ودولابه صغير، ضلفة منه ليست في مكانها، أعتقد أنها بجواره، فهو يمل من النجارين والصنايعية عموما بسبب مواعيدهم. أتصور أيضا أن ثلاجته فيها جبن قريش، وبعض الخضراوات كالخس والبقدونس، وأتصور أن مطبخه مليء بحبوب الفاصوليا والعدس.

لم أدخل بيته مرة لكنني أراه وأتصوره، وأعتقد أنني لن أفعل في المستقبل، حتى أحتفظ بهذه الصورة، لكنه يحاول هدمها فيقول “امتلك أربع لوحات، ثلاث منها كانت هدايا من الأصدقاء في مناسبات مختلفة، أما الرابعة فقد اشتريتها من أحد المعارض الفنية، أعلق اللوحات بجوار بعضها على حوائط الصالة، أحيانا كنت أفكر في أن الصالة تحولت إلى معرض فني مختلط، فبالإضافة إلى اللوحات والحجر توجد عدة صفوف من الكتب، ترتفع بمقدار متر بجوار الحائط، هناك أيضا تماثيل خشبية صغيرة، لجمال وحمير ومعيز، وقطط بأوضاع مختلفة… كل فترة أسلي نفسي بعمل بعض التغييرات في الشقة، مثلا أغير مكان اللوحات على الحائط، أو أعيد ترتيب الكتب… لكن أبرز تلك التغييرات هي جر سرير النوم إلى الصالة، بحجة أن حجرة النوم حارة ومكتومة… الآن عندي مروحة نقالي وثلاجة ودولاب بضلفة واحدة… رفضت امتلاك تليفزيون بلا سبب منطقي… لم أستطع تحديد السبب الحقيقي لعدم امتلاكي لجهاز تليفزيون، مجرد رغبة في عدم امتلاكه”.

ولكن هل لك يا صديقي في العلاقات النسائية؟، أتصور نعم، هو قال لي مرة في المترو “لو عايز أتجوز من بكرة هاتجوز”، ولكن يا صديقي هل تخدعنا عندما تقول “أعتقد أنني فاشل كبير في العناية بنفسي، فكيف أتورط في العناية بكائن آخر؟”، وماذا عن سيرين التي كنت تذوب عشقا فيها؟، فمن هي تلك التي استطاعت أن تجعلك تحب، وتحلم، وترد على التليفون متوقعا أنها هي، على الرغم أن رقم تليفونها لا يظهر على تليفونك؟. ثم لماذا يا صديقي ترد عليها بجملة “لا أعرف”، هل تحب مثلا أن يلتقط أحد أصدقائنا الجملة، ويقول عليك أنك “لا تعرف” لما لها من دلالات سيئة. أضحك معك، فتضحك أيضا.

هو بالتأكيد الآن استقر في بيته، بل يستلقى على سريره ويشاهد فيلما، كما أنني ذهبت إلى بيتي ومارست طقوسي وانشغلت بتفاصيلي حتى النوم. وفي الصباح أقوم لأذهب إلى الجريدة، عبر المترو، فأجدني أشتري تذكرتين، واحدة للذهاب والأخرى للإياب مثلما يفعل هو. ولكن هو يفضل أن يسمي الهامشيين في حياته “س”، هو يناديني باسمي، لهذا أنا محظوظ، وأنا أيضا اناديه باسمه الطاهر شرقاوي.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم