“عفاريت الإسفلت” الحياة بلا أوهام

"عفاريت الإسفلت" الحياة بلا أوهام
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
ابراهيم العريس مبدئياً لا بد من أن نؤكد وضوح انتماء "عفاريت الإسفلت" وهو الفيلم الأول لمخرجه أسامة فوزي، إلى فيلم "الكيت كات" الذي اقتبسه مخرجه داود عبدالسيّد من رواية إبراهيم أصلان "مالك الحزين"، ليس فقط في تعامله مع حارة مغلقة ومجموعة من الشخصيات ذات العلاقات المتشابكة والمعقدة بين بعضها بعضاً، وليس فقط في أبعاده الأخلاقية حيث تحل أخلاقيات الواقع محل أخلاقيات المثال من دون أية أحكام مسبقة، ولكن انطلاقاً من واقع أن ثمة في الفيلمين إضاءات جديدة، أو متجددة على الحياة كما هي، وليس الحياة كما يجب أن تكون، على المجتمع كما يسير لا كما ينبغي له أن يسير. وحتى إذا كان بطل "الكيت كات" الشاب يمضي وقته في حلم الخروج من واقع بؤس حياة الحي ورتابته، فإن "بطل" "عفاريت الإسفلت" لا يحمل أي وهم بالخروج، فهو هنا، سائق ميكروباص كما كان أبوه من قبله وكما سيكون ابنه من بعده.

> إنه “البقاء على قيد الحياة” رغم كل شيء، مرة أخرى، وذلك الإذعان المخيف أمام الواقع. فمنذ انكشاف زيف الأحلام الصعودية كما عبرت عنها المرحلة الساداتية، ومنذ حلّت الواقعية الاستسلامية بعد ذلك، لم تعد المسألة مسألة أحلام وردية ومحاولات خروج شاهدنا في أفلام مثل “ليه يا بنفسج” لرضوان الكاشف كيف تُوأد على مذبح الحلم المستحيل. إذاً، هم في “عفاريت الإسفلت”، يعيشون هنا، يحلمون هنا أحلامهم الصغيرة، ويسعلون بفعل تلوث رئاتهم، ويتوارثون المهن والمتاعب، ويموتون في صمت، ذلك الموت الذي لم يعد يمثل أي قيمة في حدّ ذاته. ولعل التصرف الذي يقوم به جميل راتب مع أرملة صديقه، فيما جثة ابيه ملقّحة في الخارج يوم موت هذا الأخير، خير دليل على هذا، وحيث ينتصر الفقراء أخيراً على مفاهيم مثل الشرف والوفاء الزوجي، وسط مجتمع يرسم أخلاقياته انطلاقاً مما هو موجود. وفي هذا الإطار يبدو لنا “عفاريت الإسفلت” متكاملاً مع عدد من أفلام مصرية أخرى مزامنة له لعل أول ما يخطر في بالنا منها فيلم “يا دنيا… يا غرامي” لمجدي أحمد علي الذي ظهر معه، أواسط تسعينات القرن العشرين. هنا، قد يكون من الصعب أن نوافق أولئك الذين يرون أن أخلاقية الفيلم ومناخه العام متفقان مباشرة مع بعض المعالم التي تلوح في عدد من الأفلام الأكثر شعبية التي حققها الإيطالي إيتوري سكولا، في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته. يمكن فقط أن نقول إن ظروفاً اجتماعية متشابهة هي التي تخلق نتائج متشابهة، يحددها لنا فيلم أسامة فوزي بدقة.

> في “عفاريت الإسفلت” بطل، على أي حال، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بطل هو “سيد” سائق الميكروباص الشاب الذي يلعب دوره الفنان المصري محمود حميدة، بإتقان لافت، ولكن إلى أي مدى تنبسط بطولة “سيد” في الفيلم؟ بكلمات أخرى: إلى أي درجة يمكننا اعتباره “بطلاً”؟ هذا السؤال لا يهم المخرج أسامة فوزي وكاتب السيناريو مصطفى ذكرى كثيراً، فهما لا يسعيان إلى استثارة تعاطفنا مع هذه الشخصية، ولا حتى إلى إدانة مواقف سيّد المتناقضة، لا سيما في المشهد المخيف، حين يأتي إلى الفتاة الموسرة التي تقع في هواه محاولاً أن يصطاد أخاها المهندس عريساً لأخته العانس. لماذا؟ لأنه لا يريد لأخته أن تتزوج سائق ميكروباص مثله!

> إزاء هذا الموقف من المدهش والإيجابي أن مؤلفي الفيلم لا يحاولان توجيه أية إدانة، فالفيلم ليس بالنسبة إليهما محكمة تحاكم أخلاقيات المجتمع وأبنائه. الفيلم صورة الحياة تكثفها وتضيف إليها، تماماً مثلما تفعل حكايات ألف ليلة وليلة التي يستخدمها الفيلم بأناقة وعذوبة على لسان الحلاق حسن حسني الذي يروي حكايات تبرر في نهاية الأمر ما نراه أمامنا من أحداث. فبالنسبة إلى الحلاق الذي تقيم زوجته علاقة مع سيد – ويقيم هو علاقة مع أم سيد التي يقيم زوجها جميل راتب علاقة مع أرملة صديقه الذي يحلم ابنه عبدالله أحمد بالزواج بشقيقة سيد فيما يعارض هذا الأخير الزواج – بالنسبة إلى الحلاق، ألف ليلة وليلة لم تمت، هي فينا في داخلنا، وما الحكايات المروية على لسانه سوى الإشارة إلى ذلك. ترى أليس من أجمل ما في الفيلم هو تلك العلاقات التي تُبنى في طبقات دائرية ومتصاعدة في الوقت نفسه؟ أوليس أجمل ما فيه تلك العلاقات التي تُبنى حول مكان رمزي/ واقعي وأسطوري في الوقت نفسه هو البيت الذي ما إن تُطرح فكرة بيعه حتى يهبّ الجميع محتجين، لأنه المكان/ الفضاء الذي من دونه ليس ثمة مجال لمواصلة العلاقات التبادلية والدائرية التي تقوم بين شتى الشخصيات، وتساهم في جعل الجميع في مأمن من الحرمان الجنسي الذي يغلف حياة ماسح الأحذية من ناحية، وشقيقة سيد العانس من ناحية ثانية؟ الحال أن أسامة فوزي وكاتب السيناريو وفقا كثيراً في النهاية حين جعلا البيت المذكور محور القسم الأخير من الفيلم، بعدما كان الميكروباص محور بدايته، وكأنما عبر استخدام الحلاق حكاية ألف ليلة وليلة كان لا بد للفيلم من أن ينتقل، من دون مفاجآت، من الواقعي إلى الأسطوري، وفي شكل أكثر تحديداً من الخاص إلى العام. وذلك لأننا هنا مرة أخرى أمام فيلم يستخدم الحارة كـ “ميكروكوزم” ليرسم لنا من خلالها ومن خلال أهلها، صورة لحياة بأسرها، لعالم واقعي. ولن يبعدنا عن هذه النظرة بالطبع، التصوير الشاعري الذي طغى على نهاية “عفاريت الإسفلت”، وجعله ينتمي في النهاية إلى الأسطوري كلياً. فالحال أننا وسط تلك الأسطورية التي بدأت مع موت الجدّ بين يدي الحلاق، نعود في الفيلم إلى سيد “يكحّ” وهو يتمشى مع أبيه وسط تلوث في الجو يخيّل للمرء، أولاً، أنه ضباب شتائي. إذاً، من الأسطورة إلى الواقع مرة أخرى وكأن المخرج يقترح علينا عدم الوقوع في فخ الفصل بين الاثنين. وفي اعتقادنا أن الحلاق هو الذي يستخدمه المخرج هنا للربط بين العالمين وللتساؤل في نهاية الأمر: أين الحياة؟ وأين صورة الحياة؟ أين الواقع وأين نقيضه؟

> هذه الرحلة المكوكية بين الواقعي والأسطوري، بين الواقعي والنمطي، هي التي أتاحت لفيلم مثل “عفاريت الإسفلت” فرصة التصدي لعدد من “التابوات” في السينما المصرية في تأكيده أن الأوان قد آن لتخليص السينما من مثل هذه “التابوات” التي من المؤكد أن المجتمع في واقعه العملي متخلص منها، في السراء والضراء منذ زمن بعيد: تابو الأم، المقبرة، الموت، البطل، الأخت العانس، الحرمان الجنسي.

بهدوء وعذوبة عرف أسامة فوزي كيف يقترب من هذا كله، في فيلم كان فيلمه الأول. والحال أن نجاح هذا المخرج أتى يومها ليذكرنا بأن جزءاً كبيراً من نجاحات السينما المصرية، يدين لأفلام أصحابها الأولى وأحياناً الثانية، نقول هذا وفي أذهاننا أسماء مجدي أحمد علي وأسماء البكري وخالد الحجر والراحل رضوان الكاشف بين آخرين، ظهروا وأفلامهم الأولى في الحقبة نفسها التي ظهر فيها فيلم أسامة فوزي هذا.

> مع هذا، فإن حال أسامة فوزي تختلف، وذلك لأننا في فيلمه نجد أنفسنا أمام مقدار من النضوج والصدقية يدفعنا بعيداً من ذلك التسامح المعتاد الذي نحاول أن نبديه في كل مرة إزاء العمل الأول لصاحبه. هنا، لم نجد أنفسنا مجبرين على أي تسامح، بل وجدنا أنفسنا ننساق وراء لعبة لذيذة تقول لنا إن المخرج عرف كيف يلعب لعبة نحلم منذ زمن بعيد بأن يلعبها أحد: لعبة الاستمرارية والتواصل. إذ في مقابل مخرجين كان كل واحد منهما يحاول أن يبدأ السينما باختراعها من جديد، وفي مقابل مخرجين آخرين من النمط السائد يحاول كل واحد منهم أن يعيد إنتاج ما سبق إنتاجه في تراكم غاب عنه الجديد، هنا لدينا مخرج ينتمي إلى تيار يستكمل، عبر إبداع فردي وذاتي لا غبار عليه، مشاوير كان سبق لأسلاف له أن سلكوها، فاستفاد من أخطاء ريادة الآخرين، وتجاوز السلف.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم