شراسة لا تسيء للبعض

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

الوداعة والتكوين

في البدء كان أبو شعبنا "بوكا" رجل الجبال، الماسك على النار، ولو أطلقها لاشتعلت حتى الجذور في باطن الأرض.

في البدء كان، ثم كنا بفضل صلابته وقدرته على تحمل المشاق، جاء بوكا.. من أين جاء؟ لا نعرف، فكل ما تذكره لنا الحكايات القديمة أنه ظل سائرًا في الجبال والغابات خمس عشرة سنة، حتى استقر في وادينا هذا، بعد أن أدرك أن الموت محيط بكل الوديان الخضراء، وأن الحياة تقيم بين فكي السباع.

صنع بوكا الأمان، وعاش وحيدًا مع مخلوقات واديه الفسيح، لا يؤذيها ولا تؤذيه، إذ لم يكن يأكل لحمًا.

قال لنا عازف الرباب إنه كان وديعًا، يعرف لغات كل المخلوقات من حوله ويحادثهم، وأنه كان يرضع اللبن من أثداء الغزال مباشرة، كان موفور الصحة صحيح البدن؛ يتسابق مع الفهود ويصارع الدببة في أمسيات الشتاء الطويلة.

عاش بوكا وحيدًا سعيدًا قد يعتريه الكدر في وقت ما، يشعر بالوحدة أحيانًا، لكنه كان سعيدًا..

لم ترضِ هذه الوحدة المخلوقات من حوله، لم يرضها صمته وحزنه الشفيف، امتزجت الأزهار وصب عليها النحل بعضًا من عسله، واشتدت الرياح فكورت ما كورت، وسطحت ما سطحت، حتى كانت فغمرها الطاووس بكبريائه، والغزال برشاقته… استوت “موكا” ابنة الطبيعة صرحًا شامخًا تخر له الجبال.

صنعتها الطبيعة وتركتها تهيم في الوادي عارية إلا من ورقة خروع، حتى تقابلا، عرف أنها الشيء الذي لم يكن يعرفه ولكنه كان يبحث عنه، عرف أنها له، لكنه لم يعرف كيف يقتحم هذا الكيان ، ويذيبه في أمواجه، حقيقة أحس بوكا الشجاع لأول مرة أنه يخاف.. كان يهابها.

حتى جاء يوم عمل فيه بنصيحة الثعلب، أكل ما يقرب من خمس أوقيات من التوت المختمر، حتى ذهب عنه الخوف، قال لها كل ما يمكن وما لا يمكن أن يقال، فذهب بخوفها وشجاعتها أيضًا.

أصبحت بين يديه أرضًا عفية، تحمل في باطنها الخصب، وتنتظر المطر.. وكانت مع كل ربيع تلد عشرة توائم.

خطوة – في الغالب- سيئة

ظل بوكا لزمن طويل هو الرب.. كل الأرض أرضه، والنساء نساؤه.. ما يهمس به يكون، وما يحبه بوكا يحبه الجميع؛ فهو العالم والفهم، وأول هذا الشعب.

واقعة هامة لأنها اكتشفت

ازدادت مسئوليات بوكا بزيادة عدد شعبه، وأصبح هناك الأولون والسابقون والمقربون، وكان الوحيد كامل المعرفة، يعرف أماكن المياه وأعماقها، المواقيت، مواعيد الجمع، أنواع الثمار وفوائدها، حتى العشب النابت تحت الشجرة يعرفه، والدودة تحت الحجر يعلم تاريخها العائلي، كان – والحق يقال- مهمومًا بكل شيء.

وفي أحد الأيام كان يعس ليلًا – كعادة الحكام الحكماء- ليتفقد احوال شعبه متنكرًا في زي راعٍ، فسمع من أحد الأكواخ صوت أنين مكتوم لامرأة، وعندما مد بصره من فتحة – قد تكون مخصصة لذلك- وجد شابًا يستقر بين فخذي “جوجا”.. صعق، تصنم في مكانه لفترة، لم يأته النوم طوال الليل، إذ لم يكن يتخيل أنه من الممكن لشعبه أن يخونه، لم يتخيل أن عيون جوجا البريئة تخفي وراءها إثما كبيرًا.

كانت جوجا أكثر البنات شبهًا لموكا، نفس الشعر والملامح الرقيقة، والجسد البض، لذلك كان يفضلها عن كل جيلها، هى أيضًا كانت تفضله عن كل شيء، كانت تستبدل دور النساء معه بكل ما تملك من فاكهة، وأحيانًا بقيامها بأعمالهم المنزلية، وعندما علم بوكا بذلك ازداد شغفًا بها…

لكن جوجا تغيرت بعدما رأته!
في ذلك اليوم كانت ذاهبة بجرتها إلى النهر، وهناك كان “توجا” نائمًا تحت إحدى الأشجار، جسده يلمع من حرارة الشمس، عضلاته نافرة، بجواره قادومه الذي يقطع فروع الأشجار- كان يعمل حطابًا-، شعرت أنها ترى رجلًا لأول مرة، شعرت أيضًا لأول مرة أنها خائفة وتود الاحتماء بصدره، لو كانت تعلم أن هناك شعوبًا وعوالم أخرى، لتمنت أن يأخذها ويرحل، لكنها تمنت فقط لو يستيقظ، وترى لون عينيه.

سقطت جرتها.. استيقظ.. اصطنعت البكاء.. لان قلبه.. حاول مواساتها.. سقط في عسلها.

أرنب يسن القوانين

وفي الصباح جلس بوكا تحت شجرته الأثيرة، ظل يفكر لماذا فعلتْ ذلك؟

أهناك من هو أكثر مني فحولة؟ أأصمت؟

بوكا الذي كان وكان، يصمت ويرضى بالهوان؟

وبينما هو في شروده هذا نمى إلى سمعه صراخ أرنب صغير يستغيث، أسرع ممسكًا به، وجد الدماء تسيل من بين فخذيه، وخصيته منزوعة، دار ببصره، وجد أرنبًا ضخمًا تقطر من بين فكيه الدماء، هنا فهم بوكا الرسالة، وبينما ذهنه شارد، كان لسانه ينطق: “وبذلك يكون الجزاء من جنس العمل

وكان هذا أول مبدأ في قوانين بوكا، التي سنها لحماية الأمن.

خلية كره

فقد توجا ما فقد، وعلم الشعب بذلك، لكنهم لم يشعروا بعمق الكارثة، فهم لم يجربوا ما ذاقه مع جوجا، وبعدما أمن بوكا شره تركه هائمًا على وجهه، حبس جوجا، وكانت مكافأة بوكا لشعبه: من يجمع مائة أوقية من الثمر، تكون جوجا ملكًا له في يومه.

أصبحت جوجا أول معرفة شعبنا بالنساء، كانت تعطي المتعة وتتمزق، سلعة يستعملها من يعمل بجد، ويرضى عنه بوكا.

كاد توجا يجن وهو يسمع صراخها كل ليلة مع رجل مختلف، نبت الحقد بداخله، وفي جسده نمت أول خلية كراهية لبوكا.. أقسم أن ينال منه.

ظل يصعد الجبال، يعدو في البرية حتى تهدأ النار بداخله، وهناك في أعلى قمة الجبل جلس مكدودًا من الأعياء، شعر بضعفه.. بكى، بكى توجا مثل النساء، حتى جاءته سحابة.. بيضاء.. كثيفة.. تتخذ هيئة امرأة عارية، تبسمت في وجهه، أقسم توجا أنها تبسمت، وأنها قالت له: “أشعر بما أصابك.. لا تحزن”

أخذته في حضنها، اعتصرته بشدة حتى فقد الوعي، لم يشعر توجا بشيء بعد ذلك، لكنه وجد نفسه ملقى عاريًا أسفل الجبل.. شعر توجا أنه مختلف.. مد يده ناحية الجرح، وجده كما هو خشنًا غائرًا، لكنه شعر داخله – لأول مرة منذ فعلها بوكا- بشهوة الرجال، قام توجا فرحًا، جرى.. جرى بسرعة.. احتضن الجبل، وجده ينقسم إلى جبلين، أحدهما يبتسم له ويعاهده على كره بوكا.

كاد أن يجن.. توجا ينجب جبلًا من جبل.. توجا يملأه الخصب إلى هذا الحد..
يعدو.. يحتضن شجرة، فتنشق الأرض عن أخرى، تعاهده على كره بوكا..
طار إلى جوجا.. اختطفها.. آواهما كهف لا يعرفه سواهما، أنجب شعبًا.. أنجب أشجارًا، وفيله، وحميرًا وحشية.. أنجب أحجارًا وأنهارًا، وهواء يكره بوكا.. حاول بوكا بكل وسيلة محاربته..
ظهرت ضراوته، ومدى عشقه لتفرده ومكانته، كان شرسًا، كرهه الكثيرون، وظل هناك من يحبه، ويذكر أنه لم يبكِ أبدًا، وأنه أول هذا الشعب.

……………

من مجموعة قصصية بعنوان “شجرة جافة للصلب”- المجلس الأعلى للثقافة- 2005.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون