حقائق فنية جديدة في ناصية باتا

ناصية باتا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. فاتن حسين

تجسد رواية “ناصية باتا” لحسن عبد الموجود، لوناً متميزاً من ألوان الرواية الجديدة، فهي تستند إلى عناصر جمالية جديدة، في رؤية العلاقة بين الأدب والواقع، وبين المادة المتخيلة والمادية التاريخية، وبين النص والمتلقي، إذ يشعر المرء بأن “ناصية باتا”، تتعامل فنياً مع الواقع بكيفية جديدة، فهي لا تسعى إلى تأكيد العلاقة بين الأدب والواقع، ولا تجهد للتعبيرعن الجوهري فيه، لهذا، نراها تعصف بالتقاليد الجمالية الروائية المألوفة، وتعرض معايير نقدية جديدة، تشتق من داخل النص، وتستند إلى هندسة النص الروائي، وهنا، تبدو مهمة النقد صعبة في مواجهة نص جديد بمعناه ومبناه، إذ عليه أن ينحي جانباً الكثير من المفاهيم والأدوات النقدية، ويسعى للخضوع الجزئي لمنطق النص. “فناصية باتا” تجسد حقائق فنية جديدة، من خلال الومضات الفنية “المبعثرة”، والانحرافات السردية، وتداخل الأزمنة، ومفارقات الأمكنة، ومن تماهي الشخصيات، وتوازي المصائر، وتنافر الأفعال، وصهر التاريخي مع المتخيل، وهي من خلال هذا كله، تجسد دوائردلالية صغيرة، تتشابك وتتضافر فيما بينها، لتوليد دائرة كلية شمولية، فالدائرة الأولى تشمل العنوان الذي يجسد روح السخرية المهيمنة على الرواية، بصفة عامة، “فناصية باتا”، جزء من عنوان مؤسسة أهلية تعليمية داخلية، تسمى “1 أغسطس”، يلتحق بها الطلاب، للتعليم، وتهذيب الأخلاق والطباع، وهي المكان الذي جمع أبطال الرواية، وتدور به معظم الأحداث، فبها المدير ونائبه طانيوس، وبها الطلبة والمدرسون والموظفون والحراس. تبدو أحداث الرواية كأنها مشهد واحد، أو مشاهد تنبع من جذر واحد، ويتكون المشهد من ومضات ولقطات مبعثرة في الظاهر، ولكنها مترابطة من الداخل، وتضم أسماء كثيرة، وحوادث متنوعة، وأزمنة متوازية ومتداخلة، وقفزات مكانية، ولذا، يعد تلخيصها أمراً بالغ الصعوبة، فالبناء الروائي يتكون من عدة مشاهد، أو فصول متداخلة، لا تحمل عناوين، ولكن يضم كل تلك الفصول عنوان فرعي يتكون من كلمتين: “الحياة لعبة”، فكلمة “الحياة”، تضم تسع عشرة فصلاً، وكلمة “لعبة”، تضم خمس عشرة فصلاً، وتعرض الرواية، خلال الأربعة والثلاثين فصلاً، الأحداث اللتي مرت، مع لقطات من الماضي، ولقطات من الحاضر، ومع قفزات مكانية في الزمان، وقفزات زمانية في المكان. يهيمن على الرواية صوت الراوي المتحدث بضمير الغائب، كي يبدو تحكمه في الأحداث والشخصيات بل هيمنته عليهم جميعا، يبدأ سرده بالحديث عن مدير المؤسسة وعلاقته بنائبه طانيوس، وعنوان المؤسسة المكتوب على مظروفات الطلبة، والتي تؤرق المدير بسبب إضافة كلمة: بناصية باتا، مما يشعر المدير بإهانة لمؤسسته، ثم يتحدث عن أبطال الرواية، وهم طلاب المدرسة؛ قاسم وصديقته رانيا، وابن عمه أحمد السعيد، الملقب ببيكاسو، وصديقته الأمريكية، وطارق تمساح، وصديقاته، وعصام وآخرين، ولا نستطيع أن نقول تعددت الأصوات في الرواية، لأن الحكي يقوم به السارد أو الراوي، ولذا، فالرواية تعرض من وجهة نظر واحدة، وتعرض الرؤى والمشاهد من جانب واحد فقط، ويحرص السارد على تناوب الشخصيات المحكي عنهم في سرده، دون أن يكمل القصة التي بدأها؛ كأن يتكلم مثلاً عن قاسم، ثم يقطع الأحداث، ويتكلم عن بيكاسو، ثم يقطع الحدث، ويعود لقاسم، ثم يعود للمدير، ثم يتحدث عن تمساح، ويعود ثانية لقاسم، ويكمل قصة بيكاسو، وهكذا، وهي وجهة نظر أدبية يفرضها الكاتب، فله مطلق الحرية في هذا، ولعله يقصد أن يجعل المتلقي يعايش الأحداث والشخصيات، كما عايشهم هو، بل أراد تبليغ رسالة للمتلقي، بأن ثمة تشابهاً بين تلك الشخوص، وعليه أن يتعامل معهم كفرد واحد، مع مراعاة الفروق الفردية لكل منهم، يشد انتباهنا تلك العلاقة الشائكة بين مدير المؤسسة، ونائبه طانيوس، حيث يفرض الأول على الثاني سيطرته وهيمنته، حتى أثناء لعبهم الشطرنج معاً، بينما يقوم الثاني بممارسة الدور نفسه على الطلاب، وكأنها منظومة متبعة منذ الأزل، وإذا كانت الحكاية المألوفة تتكون من بداية ووسط ونهاية، فإن التركيز هنا ينصب على البدايات، أو على النهايات التي قد تفسر البدايات، فالأحداث لا تنمو أو تكتمل، وسلوك الشخصيات لا يتغير، وهناك السارد الموجود دائماً في كل المشاهد، يفرض سيطرته على الشخصيات، وأحيانا يتدخل بالتعليق، أو التوضيح أو الإضافة: “وبدا كما لو أن تمساح ضبطه متلبساً مع امرأة في مكتبه، لا، لا يصلح معه هذا المثال، الجملة ستكون أوقع هكذا: وبدا كما لو أن تمساح قد ضبطه متلبساً بالسرقة”، وتتفق جميع شخصيات الرواية في أزماتها؛ وهي القدوم من الجنوب إلى المدينة من أجل التحقق، فيقعون تحت قهر قوى مهيمنة، تشتت جهودهم، وتمزق أرواحهم، بل يقعون في تناقض قوي بين الموروث الثقافي، ومحاولة التغيير، فهذا قاسم، يقع في حيرة بين طموحاته وحبه لرانيا وتحقيق ذاته، كشاعر وروائي، وبين رغبة أبيه في إلحاقه بجماعة إسلامية سلفية، ليخدم معهم في المساجد، ويجوب القرى والنجوع، ليشارك في دعوة الشباب للإسلام، وهذا ابن عمه أحمد، أو بيكاسو، نراه متشظياً بين ممارسة موهبته التي يحبها، وهي فن النحت، وحبه لفتاته الأمريكية، وبين وقوعه تحت طائلة الحرام، وهو لا يؤمن بذلك في قرارة نفسه، ولكنه يقر بهذا الحرام، كأمر مفروض عليه، يخشى الخروج عنه، فيلتحق بالمؤسسة وبالجماعة الإسلامية، كابن عمه، وصديقهم طارق تمساح، المرشد السياحي الذي تتعاوره الظنون في صحة عمله، لأنه يتعامل مع وفود من إسرائيل، برغم أنه غير مطبّع، كما يتعامل مع مثليين جنسياً، بل يتعرض، في بعض الأحيان، للتحرش به قبلهم، وهكذا، تلج الرواية عالم المثقف المنتهك في العالم الثالث، وتقدمه وهو مسحوق بأحلامه في أن يكون شيئاً، وهو عندما يسلك السبيل الخاصة أمامه، لا يجد سوى الهيمنة الأبوية، والسلطة العليا، وقد قدم هذه التيمة من قبل، صنع الله إبراهيم، في روايته “اللجنة”، و”اللجنة”، المعادل الموضوعي لفعل الهيمنة، أو السلطة، في “ناصية باتا”، “فاللجنة” عند صنع الله إبراهيم، قوة أسطورية، تقابل المثقفين وتدمرهم، بل وتأمرهم بأن يأكلوا أنفسهم، فهي ممثلة لتلك القوى الرهيبة التي تجتاح العالم وتسيطر على قدراته، مرة بالحرب والاحتلال، ومرة بالتبعية الاقتصادية والثقافية، فلجنة حسن عبد الموجود متمثلة في المؤسسة الموجودة بجوار “ناصية باتا”، مع ملاحظة الرمز في الاسم، فهي قرينة بنوع رديء من الأحذية، غير مرغوب هذه الأيام، حتى بعد أن تم تعديل العنوان، نجد أولياء الأمور يصرون على إضافة الجملة نفسها، مع إردافها بكلمة: “سابقاً”، وهي مفارقة مضحكة، وكأنها وصمة، تركت علامة لا تزول، كما أنها متمثلة في الجماعة الإسلامية التي لا تدعو إلى قيم، أوأخلاق، أومباديء بل تدعو إلى الصلاة جماعة، وإطالة اللحية، والعكوف في المساجد، وخدمة المصلين، وإغراء الشباب بالحور العين في الجنة، وأن لكل رجل سبعين امرأة، يمرح معهم، وينعم بأطايب الفاكهة والشراب، وكأن الإسلام كله يتلخص في هذه القشور التافهة، البعيدة، كل البعد، عن جوهر الرسالة، وتتمثل اللجنة أيضاً في قهر المدينة وقسوتها على القروي، والتيه في أزقتها وأروقتها، والعبث مع بناتها، والخضوع لأفّاقيها من أنصاف المثقفين، ومدّعي الثقافة، وقد قدمت الرواية نموذجاً لهذا المثقف الأفاق، الذي يرفل في نعيم العيش، ويحظى بالشهرة، وهو في الحقيقة، عبد ذليل لمن صنعه، وقدم له النعمة المشروطة. لقد وفق الكاتب، إلى حد كبير، في نقل شخصياته من الواقع، بملامحها العامة، ليصنع منها شخصيات فنية، فجعلها تتحرك من خلال سطور العمل الأدبي، أو على أرضية التعبير الفني الذاتي، الذي يختزن التفصيلات الدقيقة، والجزئيات، ثم يفرزها خيوطاً، لتصنع في النهاية نسيجها، متفرد الملامح والسمات، وبعيداً، في الوقت نفسه، عن مؤثرات، قد يسببها استلهامه المباشر والدقيق من شخصية الواقع، فالشخوص في الرواية نواة، يغرسها الفنان في حقل إبداعه، والغرس يحتاج إلى إرواء ورعاية، حتى يعطي ثمرته المرجوة في النهاية، لا تعتمد الرواية على البداية والذروة والنهاية، كما سبق القول، فهي تتمرد على جماليات الترابط والتسلسل، وتنهل من جماليات التجاور والتوازي والتداخل، كما اعتمدت بنيتها الروائية على مبدأ عدم التوقع، فالقاريء يتقدم في القراءة، لكنه لا يتوقع شيئاً، ولذا، فهي بنية روائية لا تصف الواقع، ولا تحاكيه، ولا تنقله، لكنها لا تتعالى عليه، فهي بنية دالة ذات رؤية فنية، ترى أن فعل الكتابة، ممارسة تتقاطع مع حركة الواقع، وأن فعل القراءة، ممارسة تتقاطع مع فعل الكتابة، ولذلك، تتمرد على مبدأ “الإيهام بالواقعية”، ولكنها، في النهاية، تطوير لروح الرؤية الواقعية، ولا سيما مرجعيتها الأولى والأخيرة، هي الإنسان الغريب المقهور، والباحث عن الحرية والعدل، اتسمت لغة السرد بالفصحى السهلة، وبالعفوية والسلاسة، خالية، تقريباً، من الأخطاء اللغوية، واتسم الحوار بخفة الظل، فهو بالعامية الجديدة التي يتكلم بها الشباب، ممزوجة بعامية أهل الريف، مما أعطاها طرافة، ومنع تسرب الملل إلى القاريء، فنجد مثلاً حواراً بين المدير وطانيوس يمارس فيه المدير سلطته على طانيوس: “التقط طانيوس الدوسيه من مكتبه ليواجه مكتب المدير، وطرق الباب وجاء صوت المدير: نعم؟ ورد طانيوس بصوت حاول كثيراً تخليصه من شوائب الضيق: طانيوس! ورد المدير: طانيوس؟ طانيوس؟ آه افتكرتك بس أنا مش موجود”، وهناك حوار خفيف الظل بين بيكاسو وصديقته الأمريكية، حول سرقة أحد الفنانين لبعض أعماله وبيعها: “ده الوسيط، ده فنان نص لبّة، بيعمل شغل كولاج، أي كلام، يعني مثلاً عمل معرض اسمه الأرض الشراقي، كان عبارة عن أحواض مليانة طين، وجوا الطين قزاز متكسر، كان يوقف قدام أصحابه المسؤولين في وزارة الثقافة، ويفضل يقولهم كلام كبير عن الشغل المعفن ده – مش فاهم – اسمها مش فاهمة، انتِ عندِك هرمونات ذكورة زايدة زي ما قلتلك..أنا لازم أفشخه!”، تكشف الرواية، في النهاية، عن مفاجأة؛ وهي أن علاقة بيكاسو بابن عمه قاسم، علافة تبعية، بسبب إعجاب ييكاسو بشخصية قاسم، وذلك من خلال حوار دار بينهم في نهاية الرواية، بعد عودتهم لمقرهم الأول، مهزومين، وقد ضاعت أحلامهم، وبعد فشلهم في الحب، والتعليم، وحتى في الانخراط في الجماعات الإسلامية، ولم يتبق لهما سوى صداقتهما: “قال بيكاسو: بس انت اختياراتك صح دايماً، قاسم: دي مشكلتك..انت بتقلدني..أبويا بعتني المؤسسة عشان يعاقبني، وانت جيت ورايا عشان غيران منّي..أو عشان بتقلدني، أو عشان فاكر إن اختياراتي صح، مش فارقة” وهكذا، تنتهي الرواية كما بدأت، ويعود أبطالها للمربع الأول، علهم يصححون مسارهم في هذه المرة. ثمة ملاحظة لابد من التنويه إليها، هناك خطأ في ذكر اسم الوالي محمد علي باشا من المؤلف، فقد أردفه بكلمة “الكبير”، وهو بهذا خلط بين الوالي محمد علي باشا، والي مصر من قبل الدولة العثمانية، ومؤسس مصر الحديثة وحاكمها ما بين عامي: 1805-1848، وبين علي بك الكبير، المملوكي الذي حكم القاهرة كشيخ البلد أيام العثمانيين، عام 1763، وهو خطأ تاريخي لابد من التنويه له.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم