حسن عبدالموجود فى “ساق وحيدة”

حسن عبدالموجود فى "ساق وحيدة"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد الخميسى

كنت أعرف الزميل حسن عبدالموجود كاتباً صحفياً فحسب، إلى أن فاجأنى بمجموعة قصصية من تأليفه باسم «ساق وحيدة» من إصدار ميريت. أسعدتنى المجموعة، فحضرت نقاشاً حولها أدارته الندوة الأدبية بمركز الدراسات الاشتراكية بحضور عدد من الكتاب والأدباء، وهناك وجدتنى منجذباً إلى فكرة أن ما يكتبه البعض يترك فى النفس ذات الانطباع الذى يتركه وجود أولئك الكتاب كبشر، والمودة التى يستقبل بها شخص حسن عبدالموجود الحياة تشكل ركناً أساسياً فى عالمنا الأدبى والقصصي، ولذلك لن تجد فى قصصه القصيرة الخمس عشرة أشلاء متفسخة لأبطال يعيشون فى صناديق القمامة، أو عالماً مدمراً مشوهاً، أو بحثاً ذاتياً مضنياً عن مخرج لنفس مريضة، أو قططاً تموء بجوار بشر يتحللون أو عشاقاً يمارسون الجنس داخل النعوش المطبقة عليهم ما من شيء من هذا العالم المريض الذى أتحفتنا القصة والرواية مؤخراً بنماذج عديدة وعلى العكس من ذلك فإن عالم حسن عبدالموجود عالم صاف، طفلي، به من النزق، والحب، والاندفاع الطيب الشيء الكثير.

يكتب القصاص فى المقام الأول عالمه هو الشخصي، الملموس، الذى يعرفه جيداً. وهو عالم قد يكون محدوداً فى تلك القصص بحدود الغرف والشقق وأماكن اللقاء العامة، وتجارب الحب الصغيرة، والشجار العابر، والأمنيات السريعة، وهدم الحاجز الوهمى ين الواقع والحلم.

إنها خبرة ذلك القصاص بالدنيا، يكتبها دون أن يحاول الخوض فى تجربة لا يعرفها.

والكتابة عما يعرفه المرء أولى علامات الصدق الفنى ولنتذكر أن نجيب محفوظ لم يكتب شيئاً عن الفلاحين، الرواية الوحيدة التى تعرض فيها محفوظ للقرية وهى رواية «ما وراء العشق» رفض محفوظ أن ينشرها، إلى أن عثر الناقد حسين عيد على نسخة منها بالمصادفة فنشر مقاطع منها وجعلها موضوعاً لدراسة نقدية.

وبنى محفوظ رفضه لنشر روايته على أساس شعوره بأنه يكتب عما لم يخبره، ولم يتعرف إليه، ومن ثم اعتبر أنه لم يكتب شيئاً، فلم ينشر شيئاً الأمر الجدير بالانتباه إذن فى مجموعة قصصية أولى  ليس حجم الخبرة الاجتماعية والإنسانية ــ ولكن »الصدق» الفنى الذى يبين فى معالجة الخبرات الملموسة، وهذا الصدق شرط أساسى لا يمكن من دونه الحديث عن عمل أدبي، أو كاتب قابل للتطور فى مجرى خبرات قادمة أكبر بهذا الصدد تقوله الروائية الكبيرة إيزابيل الليندي: «إن القصة مجرد طريقة لقول شيء ما حقيقى لكن القصة أيضاً مجموعة من الأكاذيب لن تعمل إذا لم تأت تلك الأكاذيب من مكان صادق أمين جداً بداخلك لماذا تريد أن تكتب هذه القصة بالذات؟ لأنك تنقر على شيء هو خبرتك الخاصة رأيك وجدانك عواطفك، ماضيك، سيرة حياتك أو روحك مجتمعة».

هذا ما فعله حسن عبدالموجود، فليس لديه داخل المجموعة قصة خارج خبرته، أو وجدانه، لكن ذلك الصدق وحده قد لا يقيم قصة قصيرة أو عملاً فنياً متكاملاً، فلابد له من شروط أخري، بعضها ينتسب إلى الكتابة باعتبارها حرفة وكان أرنست همنجواى يرى أن الكتابة هى فى الأساس حرفة يمكن تعلمها، ومن هذه الرواية تجب الإشارة إلى تمثل واستيعاب حسن عبدالموجود لتراث القصة القصيرة التى تنوعت أشكالها وطرقها مؤخراً والقصص التى يبدو كأنها كتبت بضربة ريشة واحدة تعكس رؤية لفن القصة تقوم على معالجة شظايا اللحظات العابرة فى حيز ضئيل مثلما هى الحال فى قصة «دبابيس حمقاء» وغيرها.

فليس فى هذه القصة غير دبابيس شعر المحبوبة ا لتى تحز جبين العاشق. من زاوية الشكل القصصى فإن كل قصص المجموعة هى تجربة فنية واحدة، تتنوع مادتها، وتحكى كلها على لسان الراوي. أو ضمير المتكلم. الأسهل، والأفضل، وربما الأكثر انسجاماً مع مقتضيات الصدق الفنى كمادة أولية للعمل الأدبي، ومع تنوع المادة الشعورية، وزوايا الكتابة، يظل القارئ شاعراً أن الكاتب لا يريد أن يتملص من تجربته الخاصة التى تتردد أصداؤها ــ أحياناً بذات التعبير ــ هنا وهناك.

وربما تستحق قصة «ساق وحيدة» اهتماماً خاصاً لأنها القصة التى يرتفع فيها القصاص من الحادثة المحددة، ومن الواقع الذائب فى الأحلام، إلى معنى عام أبعد وأشمل من المادة المعالجة، وفى تلك القصة يستيقظ الراوى ذات صباح ليكتشف بدهشة أنه يتحرك داخل شقته بساق وحيدة يقول: إننى حتى لا أعرج، وأسير كما لو كنت قد ولدت هكذا. وسرعان ما يكتشف الراوى أن زوجته تسير هى الأخرى على ساق وحيدة، وأيضاً طفلته، بل وبائعة اللبن التى وقفت مرتكزة على «ساق وحيدة» وفى محطة المترو يرى عشرات من البشر يقفزون من القطارات وإليها، وكل منهم يجرى على ساق وحيدة. لم يعد أحد يندهش من أى تغيير مذهل بل لقد أصبح الحدث الاستثنائى هو القاعدة أتوقف عند هذه القصة بالذاتى لأنها ــ خلافاً للقصص الأخرى  تعكس قدرة حسن عبدالموجود على معالجة مادة أخرى غير تجاربه الشخصية الحميمة، وأحلامه، واختلاط الهواجس بالواقع، ولعل القصاص أن يتوقف عندها ويتألمها لينظر فى طبيعة الاختلاف بينها وبين القصص الأخري.

فى «ساق وحيدة» تمكن الكاتب ــ كأنما بهمس التحذير من موهبته ــ من تفادى فخ الكتابة المصنوعة، الكتابة التى تقول عنها مرجريت دوراس إنها: «ليست حرة.. إنها مصنوعة، منظمة، خاضعة لقواعد كأنها متفق عليها. قصص حسن عبدالموجود كلها لا تأبه كثيرات بتلك الصياغة التى توقع الكاتب ــ حتى المحترف فى بعض الأحيان ــ فى القوالب الجاهزة المعدة من قبل.

وعلى العكس من ذلك فإن المجموعة تترك انطباعاً ثابتاً بأنها تحارب إلى حد كبير كل صياغة جاهزة سلفاً، بالكتابة بتلقائية واندفاع بكل مزايا ونواقص ذلك الاندفاع.

قدم لنا حسن عبدالموجود بتلقائية واندفاع، بكل مزايا ونواقص ذلك الاندفاع.

قدم لنا حسن عبدالموجود مجموعة قصصية استوفت شكلاً من أشكال القصة القصيرة الحديثة المتنوعة، وأشارت بوضوح إلى مولد موهبة قصصية جديدة، تحتاج ــ فى المقام الأول ــ إلى العكوف على أعمالها زمناً أطول، والمزيد من الاهتمام.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم