بيوت إيمان مرسال العامرة

عندما قابلت إبراهيم فرغلى لأول مرة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شعبان يوسف

الشعر ليس استدعاء الذكريات، وليس تأوهات على ماض لن يعود، وليس حسرة على حياة خربتها الأحداث القدرية، وليس استعراضا لغويا، ولكنه تقاطع حاد مع كل ذلك وغيره، والشعر هو حفنة مفاجآت واكتشافات للذات والعالم المحيط بتلك الذات فى دفقات حادة أو ليّنة، مكتنزة أو مسهبة. الشعر هو البوصلة التى يدرك فيها الشاعر وقارئه موقعه فى خارطة العالم، وهكذا جاء ديوان «حتى أتخلى عن فكرة البيوت» للشاعرة المصرية إيمان مرسال، الصادر عن دار التنوير مؤخرا، وتعلن فيه إيمان اكتشافاتها القديمة والجديدة كافة، وتدس كذلك حنينها للأصدقاء، وتأملاتها عن حقيقة الموت، بل إنها تخوض بشعرية مرهفة فى سن قوانين وشرائع ومبادئ، وتستدعى شعراء ومفكرين وفلاسفة، دون أن تخل برقة المعانى المنسابة فى قصائدها.

ونلاحظ أن شكل الرثاء يأخذ منحى مختلفا عما ألفناه، ففى قصيدة «إيميل من أسامة الدناصورى»، وأسامة صديق عمر وجيل ورحلة شعرية للشاعرة، وهو يرسل إليها من العالم الآخر: «صباح الخير يا إيمو، طلعت أون لاين أكثر من مرة ولم تظهروا يا أولاد الكلب، فرق التوقيت عار وما بالرد حيلة»، ويستطرد أو تتقمص الشاعرة استطراداته، واصفا وواصفة عالمه «كله تمام، أكثر ما يعجبنى فيما يسمى العالم الآخر هو بعده عن فيصل، تصورى لا توجد هنا مساجد ولا مؤذنون، ولا وزارة للثقافة، ولا أوتوبيسات للنقل العام، كل النساء.. كل النساء جميلات وكريمات حتى إننى لم أر محجبة واحدة فى الشوارع

 وكذلك لا توجد ممنوعات ومحظورات فى استخدامات الشاعرة للمعانى والمفردات والأفكار والمصطلحات والنظريات، فقط الدهشة هى التى ترافق القارئ من قصيدة إلى قصيدة، وهو يتابع متورطا الاشتباك مع كل أشكال الحياة المطروحة فى الديوان، فالقصائد لا تصف مثلا الضيق الذى ينتاب الشاعرة من يوم الجمعة، الذى هو يوم عطلة، بل يلمس ذلك بقوة فى عبارت دالة وحادة «يوم تهوية الصالون، وإعادة كل شىء إلى مكانه، رائحة المنظفات وحبال الغسيل والوقت الذى تدركه بساعة الشمس، جهنم تأتى من ميكروفون المسجد، ثم قيلولة الرجال تحتل صالة البيت بعد الغداء»، وتظل تستدعى مفردات الملل والرتابة والقتل البطىء حتى تصل إلى «يوم الجمعة، هو اليوم الذى لم أحب»، حتى التركيبة اللغوية المقلوبة للجملة تبعث هذه الدهشة فى خيال القارئ.

وينقسم الديوان إلى ثلاثة أقسام، تحت عناوين: «وفاتتنى أشياء»، «تصنع وهما وتتقنه، و«الحياة فى شوارعها الجانبية»، وفى القسم الأول تستغرق القصائد شحنات مضاعفة وقوية من الحنين الجارف، هذا الحنين المفعم برائحة الطفولة والأصدقاء الراحلين والأحياء، حنين لبيوت الطفولة وأزقتها وشوارعها وشقاواتها، وحيث الصور القديمة المفخخة بآلام مزمنة، آلام لم تعد عضوية، بقدر ما تتحول إلى أيقونات مدلاة على الصدور، و«حيث السلمات لا تتنزل عليها ملائكة، وحيث السقف سيظل للأبد تحت التشطيب، وذهب أحدهم إلى العراق ليموت فى حرب شاهدها بعضهم بالألوان»، هنا تستدعى الشاعرة طفولتها القديمة هناك، بطفولة ابنها هنا، تستدعى كل ذلك فى حرية شبه مطلقة: «ربما أنا فى هذه القارة كى أمشى وحدى لعدة أيام أو سنوات وكأن لا أحد هناك يحتاجنى، ينتظرنى، يطالبنى، يحبنى، يستوحشنى، يخاف على»، الحنين بحرية، استدعاء محمولات الذاكرة بيسر، وعن بعد، تفخيخ العبارات بمشاعر الفقد، لكى يتجسد المعنى الماثل فى العنوان «فاتتنى أشياء».

القسم الثانى «وتصنع وهما وتتقنه»، يعيدنا إلى فكرة «ماكس فيبر» الشهيرة، التى تقول: «إن الإنسان يخلق وينشئ بعض الأفكار والمبادئ، ويظل يقاتل من أجلها طوال العمر، ومن الممكن يموت فى سبيلها»، وعلى سبيل ذلك تنشد الشاعرة كثيرا فى عاداتها اليومية، مثل «جرس الصباح» حين: «تتفتح العين مثل ستارة نسرح، فى الظلام، تلمس قدمان الواقع، لا يحدث صحو وخشب الأرضية له نفس حرارة الجلد، تكرار طازج وهذا يوم يضاف إليه أو يؤخذ منه»، لذلك تسوق الشاعرة بضعة أفكار ومشاعر وجمل، لتصبح مثل مبادئ وعقيدة تقتنع بها وتبشر بها، بل تتحول هذه المبادئ إلى تمائم لحماية الروح من أى اعتداء غير مضمون، ففى قصيدة «تصبح على خير»، محاولة استدعاء صديق روائى فى قارة أخرى، ربما يؤنسها فى هذه الوحشة: «لصوتك الذى رن فى السوبر ماركت لحظة إغلاقه أتلفت حيث ألمح الموز ينام فى تل صغير، ويتثاء العنب فى عناقيده»، ولا نندهش عندما تعطى إيمان صفة «الحقودة» للألوان فى قصيدة «رسام الملائكة»، إنها تصنع لنفسها عالما من الكلمات والمعانى والأفكار لتكون ما يشبه العقيدة فى حرب غير متكافئة مع عاديات وأحداث الغربة والعزلة، وربما التماهى مع عوالم جديدة.

أما القسم الثالث: «الحياة فى شوارعها الجانبية»، فهو متروك لحالات تأملية فى الشر والحياة وتجارة العبيد، كما تدرجها فى العناوين، ليست تأملات مفرطة فى التجريد، بل تأملات عجنتها التجربة، تأملات مجروحة بالمعايشة والحياة الطويلة، وهنا نجد القصيدة التى جاء عنوان الديوان مشيرا إليها: «فكرة البيوت»، فالتخلص من المكان الثابت والمألوف والمسكون بأشباح الماضى وربما الحاضر، يحاول المرء التخلص منه، وتصبح الحياة كلها تدريبات على التخلص من عادات شبه مقيمة، وشبه معطلة، بل ربما تكون كذلك دافعة للشلل، «أبحث عن مفتاح يضيع دائما فى قعر الحقيبة، حيث لا ترانى أولجا، حيث أتدرب فى الحقيقة حتى أتخلى عن فكرة البيوت»، فكرة التخلى هنا ليست إلا شعارا لإنشاد الحرية والغناء فى هواء نظيف وإنسانى أكثر رقيا، التخلى هنا هو بديل مفتوح أمام عوالم مغلقة، وتستدعى الشاعرة هنا كل طاقاتها اللغوية والفنية والمعرفية لتجاوز هذه السدود العقيمة، التى أصبحت تقف عائقا مخيفا فى وجه الحياة نفسها، ديوان «حتى أتخلى عن فكرة البيوت» للشاعرة إيمان مرسال خطوة واسعة إلى الأمام فى الشعر العربى والإنسانى المعاصر.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم