القراءة من على مقعد الكاتب

القراءة من على مقعد الكاتب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد شافعي

مرة، كنت أقرأ قصيدة لواحد من المصريين القدماء، ربما يكون الشاعر "حلمي سالم" هو الذي ترجمها. ربما لا تكون قصيدة، بل صلاة، أو دعاء. كان المصري القديم يطلب من ربه أن يجعله في الحياة الأخرى، يزرع ويحصد، ولكن بيسر.

فهمت أن جدنا المسكين ذلك كان يشقى في غيطه في الدنيا، ولكني فهمت أيضا أنه لم يكن يتصور حياة بلا عمل، ولو في الجنة. وفهمت، وهذا ما يعنيني هنا، أنه لا يتصور الجنة انقطاعا تاما عن الدنيا، أو يراها شأنا آخر غير الذي عرفه كل يوم على الأرض. سيكون الأمر نفسه هناك، فالملك المعبود على الأرض ملك معبود في السماء، والفلاح على الأرض فلاح في السماء، ولكن ثمة، فيما يرجى، لمسة يسر تضاف إلى كل حياة، وهذا في نظر ذلك المصري القديم كافٍ كجنة.

كان جدا بسيطا، لو أوتي ملكة الكتابة، ما أظنه كان ليضيّع حلمه في دعاء أو صلاة، ولا وقته في انتظار جنة لن توجد إلا على جثته. أحسب أنه كان ليكتب رواية عن فلاح مصري لا ينازع الشادوف، ولا يصارع الأرض، بل يصعد الماءطوعا إلى زرعه مهما ارتفع غيطه، وتلين لفأسه الأرض لا تقابلها بعناد وتمنع. كان ببساطة ليكتب جنته، وقد علم أن له من دون السماء البعيدة، “سماء أقرب”.

نعم. هكذا أفهم عنوان رواية “محمد خير” الصادرة في 2013. وبهذا ربما أوجز قراءتي للرواية كلها.

***

خطر لي مرة أن ما نشاهده في المرة الثانية التي نشاهد فيها فيلم “الحاسة السادسة” لـ “نايت شايملان” ليس الفيلم نفسه. نحن في المشاهدة الأولى نرى بالفعل طبيبا نفسيا يعالج صبيا موهوما بقدرته على رؤية الأشباح. “أرى بشرا موتى” هكذا يقول الولد في جملة تبقى راسخة. في المشاهدة الأولى، نتعرض لواحدة من أبرع خدع الأفلام على الإطلاق، إذ نكتشف، قرب نهاية الفيلم، أن الولد لم يكن موهوما بالمرة، بل نحن الموهومون، بل الطبيب هو الذي لم يكن طوال الوقت إلا شبحا يحوم حول شخص تعرف الأشباح أنه القادر على رؤيتها دون كل عميان البصيرة في المدينة.

خطر لي أن المشاهدة الثانية لهذا الفيلم هي في الحقيقة مشاهدة أولى لفيلم ثان. ثم خطر لي ما أعتبره الأكثر صدقا: وهو أننا في المشاهدة الثانية نشاهد المشاهد الأول، نشاهد في أنفسنا المتفرج المخدوع، الذي انطلت عليه الحيلة. خطر لي أننا لا نشاهد الفيلم للمرة الثانية لنستمتع به هو نفسه، أو بنسخة جديدة منه، بقدر ما نشاهده توبيخا لأنفسنا، أو طمأنة لها بأنها بخير، وأن مستوى ذكائها لم يتدهور، وأن اكتشاف الحقيقة في المرة الأولى لم يكن ممكنا. أو لعلنا نشاهده وقد بدّلنا موقعنا، فلم ننتقل مثلا من صف إلى آخر أقرب إلى الشاشة في صالة العرض، بل لعلنا انتقلنا انتقالة هي في راديكالية القيام من أمام الشاشة إلى الجلوس وراء الكاميرا، على مقعد يحمل اسمنا مثلما يحمل مقعد صانع الفيلم اسمه.

***

ليس هذا بالضبط ما فعله “محمد خير” في “سماء أقرب”. صحيح أن في الرواية هذه الخدعة الختامية التي قد تغرينا بمعاودة قراءة الرواية كلها من جديد، ولكنها ـ أي الخدعة ـ ليست موجودة لمجرد إثبات البراعة التقنية وإن أثبتتها، أو لتنتزع من قارئ الرواية شهقة كالتي ربما تنتزعها مشاهدة “الحاسة السادسة” للمرة الأولى، فليس وقع المفاجأة هنا كوقع اكتشافنا أن من ألفنا بشريته طويلا لم يكن غير شبح. لا أحسب اللعبة الروائية هنا تستهدف القارئ بقدر ما تستهدف إنشاء النص نفسه. لا أحسبها تستهدف التصفيق أو الإعجاب، بقدر ما هي طريقة هذه الرواية في أن توجد. نعم، للعبة الروائية هنا في تصوري معنى لا تكتمل بدونه الرواية، بل ربما لا تكون هناك رواية أصلا.

***

في القراءة الثانية  لـ “سماء أقرب” لا يقرأ القارئ الرواية الأولى. لقد انتقل الآن من مقاعد الدرجة الثالثة إلى المقصورة، من وراء اللاعب بالجيش الأبيض ليجلس وراء اللاعب بالجيش الأسود، من شقة مشجعي الأهلي في العمارة إلى شقة مشجعي الزمالك، من شخص يعرف أن أكرم هو الكاتب إلى شخص يعرف أن أكرم هو المكتوب. وهو ما صنع ـ في حالتي ـ بالفعل رواية أخرى صفحتها الأولى تحمل الرقم 106.

تبدأ الرواية الأولى بـ “أكرم”، شاب يترك عمله للتو، محدود المدخرات، يقابل حبيبة قديمة بعدما تزوجت، يبحث عن عمل وحب وسفر، ويكتب رواية عن شخص لا يعاني أيا من هذه المشكلات.

أما الرواية الثانية فتبدأ بشخص ميسور الحال، لا يعمل في وظيفة ليتركها، يسفر أول احتكاك له بالواقع إلى فقدانه عينه (حيث ينتقل من التصوير الفوتوغرافي الفني إلى تصوير فعالية انتخابية كخدمة عابرة يسديها لصديق له) ويكتب رواية عن شخص ألصق منه بالواقع، عنده علاقات مباشرة مع التاكسي فالميكروباص، وحينما يترك عمله في القاهرة يتحتم عليه أن يبحث عن عمل في الخليج. و”أهلا بكم في صحراء الواقع”

ليس أي من أكرم ومازن كجدنا المصري القديم إذن. فليس أي من الروايتين، التي يكتبها أكرم أو التي يكتبها مازن، عالما فردوسيا يفر إليه مؤلفه. مازن لا يمكن أن يكون بعينه المفقوءة جنة أكرم، وأكرم بفقدانه الوظيفة والحبيبة وتدهوره من التنقل بسيارة خاصة إلى تاكسي إلى ميكروباص وإدانته نفسه في جريمة قتل مزدوجة لا يمكن أن يكون جنة مازن. فهل كل منهما للثاني عقاب ينزله بنفسه؟ هل السماء إذن ليست مرادف الجنة بالضبط، بقدر ما هي ربما مرادف للجحيم، أو أنها ساحة للجنة والجحيم معا، لزواجهما على رأي “وليم بليك”، أو قرانهما كما أحب أن أترجم عنوان كتابه الجميل؟أم تكون السماء، ببساطة، ومصداقا للشائع عنها مكانا لقدرة أعلى، حيث يمكن لأكرم فعلا أن يسيطر على حياته ويوجهها ويرسم لها مسارا جديدا ولو تحتّم عليه في سبيل تحقيق ذلك أن يسميها باسم جديد؟ وما يقال في أكرم يصدق على مازن.

***

لعل الأمر ليس عقابا، بقدر ما هو محاولة أخرى للتعامل مع الواقع. لعل ما يفهمه أكرم الآن إن إدخال عنصر إلى حياته لن يحل المشكلة، ولعل مازن يفهم أن نزع عنصر من حياته لن يحل المشكلة. فليس الحل في أن تكون الغرفة التي يجافينا فيها النوم مكيفة الهواء أم لا؟ أو تكون الحانة التي نهرب فيها من الواقع على سطح فندق في وسط البلد أم داخل فندق أرقى؟ المشكلة ربما تكمن في أن يعجز حتى الخيال الذي طالما طار بالبشر عن تدبير وسيلة لسكان الواقع يحتملون بها سكناهم. لعل المشكلة لا تحل إذا أضفنا عينا أو فقدناها، ما دامت العيون كلها ستبقى ترى شيئا واحدا في كل الحالات.

***

وليس هذا فقط ما قرأته ـ أنا على الأقل ـ في الرواية الثانية. كان هناك شيء آخر أوثق علاقة بنفسي من رواية. نعم، مثلما ينظر مشاهد “الحاسة السادسة” في المرة الثانية إلى نفسه القديمة والجديدة، كنت أقرأ في المرة الثانية نفسي. ما الذي يجعل للواقع المعيش ـ في نظري ـ كل هذه الأهمية حتى أعتبر أن الانتماء إليه قيمة في ذاته؟

لقد بدا لي في القراءة الثانية أن “أكرم” انخفض درجة أمام عيني. فما كاد يظهر احتمال، محض احتمال، لم أجد سبيلا حقيقيا للتثبت من صدقه أو زيفه، ما كاد يظهر هذا الاحتمال بأن أكرم قد يكون شخصية مؤلَّفة حتى بدأت أتعامل معه كمخلوق. بدأت أرى أن الهروب إلى الحانة حل ابتذلته السينما، وأن قصة الحب الجامعية حلقة في مسلسل تليفزيوني، وأن ظهور الحبيبة القديمة ثيمةأليق بسهرات الإذاعة، وأن النهاية المأساوية للحبيبة وزوجها ربما تكون مرت بي كثيرا في صفحات الحوادث. كان انتقال أكرم من مقام الخالق إلى درجة المخلوق يعني سقوطه، وكأنني لا أحترم المخلوقات، وكأنني لست منها.

وكان مازن في القراءة الأولى هو الذي احتمل مني ذلك كله، فهو الذي بدا شخصية روائية نمطية، فنانا مترفا ينزل إلى الشارع مرة فيفقد عينا ثم يمضي بقية الرواية يتسول بها تعاطفي، في حين أنه لا يزال يجد بعد العشيقة حبيبة، ولا يزال ينتابه الضيق في مدنية فيبدّلها، وبمصادفة شديدة السينمائية يعثر على فتاة تساعده على تجاوز أزمته بالكتابة، بينما هو في ثنايا ذلك كله يشرب نوعيات أفضل من الخمور.

***

تجربتي في قراءة “سماء أقرب”تقول إن هذه الرواية أحدثت تغييرا في قراءتيللرواية. فطالما فهمت أن التواطؤ مع اللعبة الروائية شرط لازم تقريبا للاستمتاع بالرواية، والتواصل معها، وتخيلوا حال قارئ لا يسلّم ابتداء بتحول “جريجورسامسا”دونما أي سبب مذكور إلى خنفساء، أو قارئ لا يقبل بالصعود الفقاعيللجميلة “ريمديوس”، هل كان هذا القارئ ليكمل من “التحول” لكافكا أكثر من سطرها الأول، أو ينتقل من صفحة إلى صفحة في “مائة عام من العزلة”لماركيز إلا انتقال الهازئ؟

أما في “سماء أقرب”، فبدا لي أن المشاركة في لعبتها مخاطرة. إذ أنها توقفنا عند باب عالم هذه الرواية ندقه إلى أن تكل أيدينا ولا ينفتح. نظل ننقِّل أعيننا بين أكرم ومازن، نتساءل أيهما الواقعي وأيهما الخيالي، أيهما الخالق وأيهما المخلوق؟ ومع كل قراءة للرواية لا نخرج بأكثر من التساؤل، في حين ينبغي أن ننبه أنفسنا إلى أن الاثنين شخصيتان في كتابة اسمه “سماء أقرب”، وعندئذ، عندما نتعالى على السؤال، عندما نبتعد عن هذه الدوامة، ربما نكون أقرب بخطوة إلى الحصول على مقعد في السماء، ربما يكون بمثل علو مقعد الكاتب، وكم هو عالٍ مقعد “محمد خير”.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم