الحقيقة لا تسكن السماء الأقرب

الحقيقة لا تسكن السماء الأقرب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هيثم الورداني

تسير أحداث رواية محمد خير الجديدة "سماء أقرب" الهوينى، فتتهادى مصائر أبطالها على مهل. وتقترب النهاية فينتظر القارئ أن توضع النقاط أخيراً فوق الحروف، لكنه يكتشف أن الرواية في الحقيقة تبدأ مع اقترابها من فصولها الأخيرة. فالقارئ يكتشف في هذه الصفحات الحاسمة أن "مازن" يكتب "أكرم" بعد أن كان "أكرم" هو الذي يكتب "مازن"، وأن العالم الذي ظنّه القارئ متخيلاً ربما يكون في الواقع هو العالم الحقيقي. فتنفتح الرواية فجأة على فضاء جديد لتعود أحداثها فتتجلى منذ بدايتها في ذهن القارئ تحت ضوء جديد. وتدبّ الحياة في تفاصيل كثيرة بدت فاترة في البداية، ليفهم القارئ أخيراً أنها بدت كذلك لأنها لا تحدث للمرة الأولى عندما قرأها، وإنما كانت في إحدى دورات معاودة حدوثها. ويتضح له أنه قُذف في أحداث الرواية المستمرة دوماً في الحدوث، ليدور معها دورة ثم يخرج، بينما تستمر هي في معاودة الحدوث.

لذلك يمكن القول إن أحداث رواية “سماء أقرب” لا تحدث بقدر ما هي تعاود الحدوث. فهي تبدأ في الحدوث بأثر رجعي في اللحظة التي يكتشف فيها القارئ أن ما ظنّه متخيلاً أو حقيقياً ليس بالضرورة كذلك.

تنتشر الرواية مرة أخرى كانعكاس لنفسها في فضاء بينيّ، انعكاس لا يتطابق وإنما ينزاح دوماً. وفي كل دورة قراءة تعود الرواية لتخلق شريطاً حلزونياً من الانعكاسات، يتكرر إلى ما لانهاية. بشكل يذكر بلوحات رسام الغرافيك الهولندي الشهير “ام سي إشر M. C. Escher“، الذي زخرت رسوماته بتشكيلات متكررة تعتمد على صيغ رياضية معقدة. ومن بين رسوماته لوحة الأيدي المرسومة، التي يمكن اعتبارها تعبيراً بصرياً مناسباً لرواية “سماء أقرب”، والتي تُظهر يدين، ما إن تبدو إحداهما كأنها ترسم الأخرى من منظورها، حتى تعود الأخرى لتظهر كأنها ترسم الأولى من منظور آخر، فيلتبس الأمر على المشاهد، ويقف مشدوهاً أمام هذا البناء والهدم للمعنى في تكرارهما اللانهائي.

الهدية التي تقدّمها لنا الرواية هي هذا الفضاء الذي تفتحه أمامنا لحظة اكتشاف أن الحقيقة متعددة، ومُتخيّلة أيضاً. في هذا الفضاء لا يسير الزمن كسهم منطلق إلى الأمام، ولا تنتهي الأحداث بمجرد وقوعها، ولا تكتسب الأحداث أساساً أهمية لمجرد وقوعها، وإنما تكمن أهميتها في مقدرتها على انتقاء ما يعاود الحدوث منها بعد حين. ما يعاود الحدوث ليس الحدث نفسه، ولا جوهره أو روحه، بل الحدث في تحولاته بعد أن دبّت فيه الحياة بفعل طاقة الاكتشاف. في هذا الفضاء السحري نتحرر من وهم الحقيقة المنسوبة لضمير المتكلم الذي يتحدثه “أكرم”، ومن وهم الخيال المنسوب لضمير الغائب الذي يتحدثه “مازن”، وتتراجع مقولات الحداثة الكبرى مثل الفصل بين الذات والموضوع، وتحديد الجوهر والهوية. وتنفتح أمام سكان هذا الفضاء احتمالات خيالية. فيصبح بإمكان “أكرم” و”مازن” أن يكونا ذواتاً أو موضوعات، فكلاهما قائم بذاته وموضوع لآخر في الوقت نفسه.

 “أكرم” يكتب “مازن” ويلاحظ أنه ينتقم من حياته في شخصية الأخير، و”مازن” يخترع في “أكرم” شخصاً “في مثل عمره لكن ظروفه معاكسة”. الشخصيتان/الكاتبان يشتركان في رقصة من بعيد، فهما ليسا قرينين وإنما شريكان. “أكرم” العاطل يتعلق بقشة حب الجامعة القديمة، “مازن” المصور ينهي علاقة فاترة بإحدى عشيقاته. “أكرم” ابن القرية يعيش في شقة مدينية حياة العزاب، “مازن” ابن المدينة يعيش في شقته المترفة حياة العزلة. “أكرم” يعاني تأنيب الضمير بعد موت حبيبته السابقة وزوجها في حادث سيارة لم يحسن هو إصلاحها، “مازن” غير المهتم بالأحداث السياسية يفقد عينه اليمنى خلال تصوير يوم الانتخابات. “أكرم” يبحث عن حياةٍ جديدة، “مازن” يعيش مرغما حياةً جديدة.

وبالرغم من أن بنية الكتاب قائمة على “تعشيق” فصول قصّتي “أكرم” و”مازن”، بحيث يلي فصل من تلك القصة فصلاً من الأخرى، وبرغم أن كلا خطي السّرد تحضنهما المدينة نفسها وربما الزمن نفسه، إلا أنهما بقيا منفصلين عن بعضهما انفصالاً تاماً. كل قصة معزولة داخل عالمها، لا تستطيع أي شخصية فيها عبور العتبة التي تفصلها عن القصة المجاورة التي تتحرر فيها من نفسها. وكأن العالم سيتهاوى بدون سطح المرآة. سيظل “أكرم” على الأرجح ينظر إلى “مازن” إلى الأبد، ستظل “فاتن” تراقب “نادية”، ستظل العدمية تلاحق السياسة، ستظل القرية تتطلع إلى المدينة، سيظل الحب يحدج الرغبة، حتى يُقدم أحد هذه الأطراف أخيراً على مد يده خارج السطح المصقول للمس الآخر، فتنخدش الأبدية وتبدأ الصيرورة.

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم