وجوه الرقة في قلب المادة الجامد.. قراءة في قصص نجلاء علام

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. صلاح فاروق

أفيال صغيرة لم تمت بعد ، المجموعة القصصية الأولى للمبدعة (نجلاء علام ) والتي عرفتها الأوساط الثقافية قصاصة بارعة ، وناقدة ذكية لا يعييها تضخم المادة الثقافية المعروضة ، ولا يعوزها الزخم أو الجهد الكبير . 

أريد أن أقرأ لك عزيزي القارئ هذه المجموعة ، وأن ترى معي ما فيها من بحث  دائوب عن وجوه الرقة في قلب المظاهر الجامدة للمادة ، على أن نفهم المادة بوصفها أوجه النشاط وتعددية السلوك البشرى المستمر .

تبنى نجلاء مجموعتها _وقد قسمتها إلى نصفين _ تبنى القسم الأول منها (اهتزازات غائرة ) وأريدك أن تلاحظ معى دلالة الاهتزاز على البحث المشار إليه ( وجوه الرقة ) و دلالة الغائر على مشقة البحث وعمقه ، تبنى ذلك على مشاهد تقطعها في براعة من لحظة زمنية غير مستمرة بل هي خطوط للزمن تتقاطع مع تلك المشاهد ، فتدفع بالحدث إلى أعماق رهيفة ، تحتاج من القارئ التنبه إلى لطف المشاهد ، ورهافة ما بينها من خطوط تجمعها ، أما الزمن نفسه فتحمله تلك الأفعال المعبرة عن صيرورته ، ودون أن يقف التعبير عند حدود اللفظ الجامد لمعنى الزمن أو مظاهره .

في الجانب المقابل تتضاغم  مجموعة من الأحداث الأساسية المتكررة في المجموعة وأريد أن أسمى هذه المجموعة (حزمة صوتية ) لماذا ؟

إن القارئ لابد أن يلاحظ ما يمكن اعتباره في مظهره السطحى تداخلا للأحداث وأن يلاحظ تلك الاهتزازة  العنيفة أحيانا للعين المتابعة لصيرورته ، لكن الاهتزاز حيله للتعبير عن الرؤية العميقة في قلب هذه المجموعة ، ويمكن اختزال ذلك في غير قليل من الاعتساف إلى القول بأن الكاتبة ترى تداخلا أساسيا في شخصية المجتمع ، وهو تداخل ليس صحيحاً في أكثر أحواله ، أما التداخل فيمثله قبض الطبقة المسيطرة على مظاهر المادة في المجتمع واختزال  هذه الطبقة كل ما لا يؤدى إلى استمرار نشاطها إلى مظاهر تحفظ هذا النشاط وتدعمه .

انظر معى لتعرف ذلك في قصتها (الصعود نحو ابتسامة خابية ) فإن الطبيب المسؤول عن التشريح في المستشفى _ وهى فى ذاتها الآن ساحة القص _ يهتم أولا بأن لا أحد يأتي لاستلام جثثه المحفوظة لديه حتى يستطيع الاستمرار في أبحاثه القائمة على تشريح  تلك الجثث ، في المقابل فان الممرضة هى الوجه الباطنى لهذا المظهر المادى ، لذلك فانها تقيم علاقة ود لطيفة مع تلك الجثث ، وتنتهى بان تحتفظ بها لنفسها ، وأن يكره القارئ الطبيب قاسي القلب ، والذي لايرى جوهر الإنسان في مادة تشريحه ،لاأكتمك القول ، لقد كرهت أنا أيضا هذا الطبيب .

وبالمثل يحدث تعاطف أساسي مع الشخصيات المحازية للممرضة  في قصص (شعرات بيضاء بطول الشعر ، نور ، موال للحاوى ) وفي القصة الأخيرة (موال للحاوى ) تتخذ الشخصية المشار إليها جنس الذكورة للتعبير ، فان كان تداخل الأصوات / الشخصيات ، مظهر أساسي من مظاهر هذه المجموعة البديعة ،فان القول بأن التعبير عن مقاومة ضغط المادة المباشرة هو التعبير الأساسي لها ،هذا القول لابد من أن يكون مناسباً جدا ، وصادقاً ، ويمثل جوهر تجربتها.

نسيت أن أقول لك عزيزي القارئ إن الأصوات المشار إليها تتخذ أشكالا ثلاثة إحدها الراوى ، والثانى المروي عليه ، وهاتان الشخصيتان تتداخلان كثيرا حتى إن خيوطا كثيرة من الحدث يمكن إرجاعها لكليلها  بيسر ، ودون  تردد ، أما الثالث فهو المروي عليه المرفوض وهو الشخصية القاهرة المادية في النصوص ، ويمثلها على سبيل المثال الطبيب المشار إليه ،وزوجة الحاوى كذلك ، وفي مواضع أخرى تختفى  هذه الشخصية أو تكاد ولكنها تظل حاضرة بقوة وفاعلية الغياب الذي يجعلنا نبحث عن وجودها المتحقق حتى نكتشف أن لعبة القص تقوم على تغيبه فنحبها ونعيد قراءته .

 أما على مستوى التحقق المادي المباشر لتلك الأصوات ، فإن الطفل  والطفلة ، والبنت المراهقة ، والشابة ، والسيدة متوسطة السن ، والسيدة العجوز ، والرجل الكبير ، والطرقات المتهالكه وأداوات العمل الشاقة شخصياتها المفضلة والمتكررة ، والملاحظ هو صعوبة الفصل بينهما فى لحظة من اللحظات ، فإنها حاضرة في كل  المشاهد ، ولكن في تناغم وانسجام يدفع بالحدث كله إلى ذروته وباستثناء الحزمة الصوتية وهى بالمناسبة  حزمة ضاغطة ، يصعب على المتلقي الافلات من تأثيرها القاهر، واكاد أجزم الآن أنه ضغط تعادل به الكاتبة قوة ضغط مظاهر المادة الجامدة .

 باستثناء ذلك يقوم البناء في النصف الثاني من المجموعة والمعنونة (باهتزازات صغيرة ) على اقتطاع مشاهد مشابهه ، واختزال لمساحة القص تبلغ النصف أو أكثر قليلا حتى إن القصة الواحدة لاتتجاوز الصفحة في هذا القسم الثاني إلا قليلا ، كذلك فك التضاغم الملحوظ للحدث والاكتفاء بدفعه لافعال مستمرة سريعة الإيقاع و هذا هو المميز لهذا القسم الثانى من المجموعه كلها .

وعلى عكس ما لوحظ في القسم الأول ، حيث يحتمل معنى القص دلالات كثيرة ، واحتمالات لا منتهيه ، فإن المعنى في مجموعة هذا القسم الثانى يمكن بكثير من التجاوز اختصارها إلى معنى أو معانى أساسية تقوم كل قصة على طرحها وعلى سبيل التمثيل ، فإنه في قصة ( ركود ) ينزل الأولاد إلى البركة الراكدة ويلعبون بكرة ساقطه تلقي بها بنت من جمهور المجتمعين حولها ، ثم ينتهي الأمر بأن يختفىي أحد الأولاد في قلب البركة ، فتعود البركة إلى سكونها وركودها الذي بدأ به القص ، وعليه فإن المعنى في هذه القصة يقوم على نحو (هذا يحدث للأشياء ) أو أن هذه طبيعة الحياة ، سكون ، فحياة ، صخب ثم سكون فركود ، كذلك المعنى في قصة ( محاولة ) حيث تتحقق الرغبات بالتعاون وهذا هو معنى الحدث فيها ، كذلك المعنى في قصة ( كان ) هو هذا يحدث للأشياء ، أي أن المعانى تتكرر ، وتوشك أن تتراوح بين ماذكرت فإذا بنا نكتشف أن رؤية واحدة أو خيطاً أساسياً يجمع القصص في صلبه ، و يقود في أثناء تتبعه لاكتشاف عدد هائل من العلاقات الخفيفة اللطيفة والتي تقلب الوجه الجامد للنشاط المادي ، ليظهر من تحته وجه آخر لطيف يمكن من خلاله تحقيق اتصال أو تواصل أساسي مع مظاهر الحياة القاسية .

وهذا معنى آخر يمكن استنتاجه ، إن القص في هذه المجموعة يحقق الاتصال مع الصعب والشاق من أمور الحياة ويساعد على تجاوزهما ، وهذا أمر لا يبعد عما لاحظه دارسوا حركية الإبداع وفلسفتها لدى المبدعين أما الوجه اللطيف ، فإن له بعدا إنسانياً آخر يتمثل في تذكيرنا بأنواع من التعاسة ومظاهر لها يتجاهل ضغوطها المجتمع ، ولا يبعد ما تشير إليه ( البنت) المتكررة في قصص المجموعة عن هذا المعنى إذ أن وحدتها  وعزلتها عن هذا المجتمع وجه لهذه التعاسة ، ولا يخفى أنها تسعى للاتصال ولكن نشاطاته الحية في نظر الناس ، الميتة في نظر مبدعة النصوص ، تحول دون ذلك وبالتالي تحول دون أن نعرف أنفسنا وهذا هو الخطر الحقيقى الذي يطوف بنا ، نحن لا نتصل بأنفسنا ولا نتصل بالجماعة ، والمجتمع ينزلق إلى هوه من أوجه النشاط  القاسية  لايمكن التنبوء بالقدرة على احتمالها والغالب أننا لن نحتمل .

لا أريد أن أختم بمعنى يثير فى نفسك – عزيزي القارئ – الريبة وأريد أن أكتب أكثر ، لكننى سوف أترك لك اكتشاف ما ذكرت ، أو اكتشاف غيره أو هما معا ، فأنت جدير بأن تستمتع بذلك كما استمتعت وأنا جدير بأن أضع القلم الآن ، فإليك الكرة .

 عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم