“نصف عين” : رواية السرد المراوغ و الأحلام المؤجلة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. صبرى حـافـظ

"نصف عين" هى رواية نجلاء علام الأولى فيما يبدو لي، لكنها وإن اتسمت بسمات الرواية الأولى تعد واحدة من روايات هذا الجيل القليلة الناضجة التى تكشف لنا حقيقة مرة عاشها هذا الجيل، ولم تعشها الأجيال السابقة عليه مباشرة، منذ جيل الأربعينات وحتى جيل السبعينات. ألا وهى نهاية حلم الحراك الاجتماعى الذى وفره التعليم لسواد الشعب المصري، ومكن فقراءه من التخلص من ربقة الفقر والتحرر بالتعليم من قيوده الغاشمة، والحلم المشروع بحياة أفضل. وهى فى الوقت نفسه واحدة من الروايات القليلة التى تحكى لنا تجربة الجيل التسعينى مع أحداث عاصفة العار العربية المسماة بعاصفة الصحراء. وأحداث التجربة العربية المأساوية التى ندرك الآن، ويعد فوات الأوان، أن الجميع قد أُكلوا فيها يوم أُكل الثور الأبيض على مشهد منهم جميعا دون أن يحركوا ساكنا، بل والأدهى والأمر، وبمشاركة منهم ومباركة لا بركة فيها بل شؤم ودمار. فالرواية تطرح ما يدور فيها من أحداث منذ صفحاتها الأولى فى مواجهة الماضى من ناحية، ومواجهة الحلم الأسطورى أو الخيالى المصاغ من الحكايا الشعبية من ناحية أخري. وهو الحلم بحياة سعيدة تتحقق فيها المنى والصبوات. فإذا كانت الأم الأمية التى حلمت بأن تحقق لابنتيها مستقبل أفضل قد تمكنت من توفير التعليم لهما، برغم محنة فقد الأب واليتم المبكر، فإن جيل البنتين ــ جيل التسعينات ــ الذى نشأ فى فيء الحلم بمستقبل أفضل، وتربى على خطاب يتيح إمكانية الحلم والتحقق، سرعان ما أدرك كيف تعمل آليات الواقع الجديد الجهنمية على تكريس الفقر والزج بالفقراء إلى حمأة التردى والهوان فى المزيد من الفقر مهما كان ما يتمتعون به من موهبة أو مثابرة.

البنية الفنية

وتعمد الرواية ــ وهذا سر توفيقها ونضجها السردى عندى ــ إلى تجسيد موضوعها الأساسي، وهو الانكسار وهدر الأحلام الإنسانية البسيطة والمشروعة معا، من خلال بنيتها الفنية المراوغة قبل موضوعها نفسه. بحيث يسقط الموضوع إلى قاع السرد، ويتسربل بتجلياته المختلفة، بينما تطفو على سطحه تفاصيل الأحداث التسعينية الغريبة المترعة بالتناقضات. كما تساهم عملية تعدد الأصوات، وتغير منظور السرد من قسم إلى آخر فى أقسام الرواية الأربعة، فى إرهاف وعى القارئ بما يدور فيها من أحداث، وبما ينطوى عليه الواقع التسعينى من غرائب أصبحت ــ لحدة المفارقة ــ فى حكم اليومى والمألوف، لأن بنية هذه الرواية التى تنساب أحداثها بسلاسة، وإن عمدت إلى الانتقال بيسر وليونة بين الأزمنة بطريقة تضفى على السرد عمقا وخصوبة، توشك أن تكون هى الموضوع نفسه. وقد مكنته عملية الانتقال بين الأزمنة من أن يعكس الحاضر على مرايا الماضي، حتى يتمكن القارئ من إدراك فداحة النقلة، أو بالأحرى الانتكاسة الكبيرة، التى عاشتها مصر فى حقبة التسعينات العصيبة، ولا تزال تعانى منها حتى اليوم. إذ تبدأ الرواية التى تسيطر على القسم الكبير من منظور السرد فيها بطلتها “نور”، وإن أتاحت للشخصيات الأخرى أن تعبر عن رؤاها وتحكى حكاياتها، بالحدوتة أو بالإحالة إليها بعدما شاخت الروح وانتهى الأمر، غير أننا ما زلنا نحفر فى التراب بأظافرنا، علنا يوما نصل إلى ماء نرتوى به “ص5” لكنها لا تبدأ بالحدوتة التقليدية التى ستسردها علينا، وتجعلها نوعا من الضمير المؤرق للحكاية الواقعية ذاتها فيما بعد، وإنما بالحدوته الحديثة: حدوتة الكرسى كما تقول. الكرسى الهزاز الذى كانت البطلة تراه فى الأفلام العربية تجلس عليه فاتن جمامة فيهتز، ويأخذها إلى دنيا من العشق والهيام. وتجلس عليه سعاد حسنى فيفاجئها رشدى أباظة بقبلة ممتدة “ص6“.

حلم الكرسي

هذا الكرسى المصنوع من الأحلام التى نسجتها بنية الثقافة الشعبية السينمائية فى مصر الأربعينات والخمسينات مع فاتن حمامة، ومصر الستينات والسبعينات مع سعاد حسني، حينما كانت السينما المصرية المزدهرة تساهم فى نسج بنية الحلم الشعبى وتجسيده على الشاشة الفضية، هو ما تبدأ به البطلة حدوتها الواقعية. فقد كانت صياغة السينما للحلم هى التى جعلتها تتشبث بالكرسي، أو بالأحرى بما يمثله من أحلام فى مستقبل مرتجي: ألهذا تشبثت به، وكنت لا أمتلك ثمنه. غازلته أياما من شباك المجلة التى كنت أعمل بها … أداره الرجل أمامى ثم أثنى على ذوقى … قرأت السعر على الورقة البيضاء واندهشت 1500 جنيه! “ص7”. وبمنطق تلك الثقافة تتشبث به، تصر عليه وبالطرق المصرية، تصرفت. دخلت جميعة بشرط أقبضها بعد أسبوع. استدنت من زملاء المجلة. وطلبت سلفة على المرتب. بعدها ظللت أهتز عليه وبيدى سندويتش الفول. أهتز وأحلم. لكن أبدا لم يشق الجدار رشدى أباظة، ولا حتى أحمد رمزي، ولا مصطفى قمر “ص9” فقد مضى إلى غير رجعة الزمن الذى كانت تتحقق فيه الأحلام بالإصرار والمثابرة. وحل مكانه زمن آخر عصيب. هو زمن التسعينات وعاصفة العار العربية، زمن السرد لأن الراوية/البطلة/نور تحكى هذه الحدوتة، حدوتة الكرسى وما تنطوى عليه من استعارة روائية دالة، للبني، ابنة اختها التوأم “ليلي” التى دفنت هناك بلا قبر ولا شاهدة، فى صحراء عاصفة العار العربية. وتحكى معها قصة بدايتها للعمل، أو للنصب الانفتاحى مع “حمادة” الولد الغلبان الذى كانت تدور معه فى الشوارع، تحتال على الناس “ص15″، حتى قبضت عليه الشرطة، وتركته “نور” فى محنته وهربت. وكأن الهرب من المواقف العصيبة سيكون هو شارتها وسبيلها فى التعامل مع الواقع التسعينى فى الزمن العربى الرديء.

المرايا المزدوجة

لكننا لو تتبعنا أحداث الرواية كما يتكشف عنها السرد المراوغ فإننا لن نستطيع الإلمام بكل تفاصيلها دون أن نتعرف علـى مفاتيح القص فيها. لذلك علينا أن ندلف إلى عالمها من خلال هذه المفاتيح: وأولها هو ما أود أن أدعوه بشكل المرايا المزدوجة التى تنعكس على كل منها صورة مغايرة لنفس الحكاية التى تتكرر بين جيلين: جيل الأم “فايزة”، وجيل بنتيها التوأمين “نور” و”ليلي”. فالرواية مبنية على أساس هذا التكرار المراوغ والمواجهة بين قصتى الأم وابنتيها، بين جيلين وزمنين يكشف كل منها حقيقة الآخر وقد تجلت على صفحات تلك المرايا المزدوجة المصقولة مرة، المعتمة أخري. وأول هذه المواجهات هى المواجة بين حدوتة البنت “نور” مع الكرسى الهزاز، وحدوتة الأم التى كانت تهدهد علـى إيقاعها بنتيها التوأمين حتى تناما. حيث أمير الحواديت يناجى أميرته، ويقتل بسيفه المشهور ألفا ومئة. يسافر فى البلاد، يبحث عنها. يحارب الأشرار ويحطم القيود. يحمل الأميرة بساعده، ويضعها على ظهر حصانه. وينطلق إلى البعيد “ص22” فأين هذا الأمير الحلمى من واقع البنتين الدامى المرير الذى تبدأ به الرواية، وقد ماتت إحداهما “ليلي” فى الصحراء، وها هى الأخرى “نور” تحكى لابنة أختها “لبني” حكاية السلالة التى تنحدر منها، والميراث القاسى المر الذى عليها أن ترثه وتعيش عواقبه. وهو الواقع الذى لا تريد الرواية أن تقدم لنا كل تفاصيله فى تعاقبها السردي، وإنما تقدمه لنا كما ينعكس على مرايا هذه الحكاية المزدوجة: حكاية زواج أمهما “فايزة” مرتين، ثم زواج بنتيها التوأمين مرتين أيضا، ولكن بطريقة مغايرة يتجلى من خلال التماثل والتغاير بين الزيجتين مدى التغير الذى انتاب الحكاية وانتاب الواقع المصرى الذى تجسده لنا تصاريفها الغريبة.

حلم الجامعة

فإذا أعدنا تشكيل الحكاية من خلال هذا المفتاح الأساسى لفهمها، مفتاح التكرار والبنية المزدوجة، سنجد أن الأم “فايزة” قد تزوجت مرتين. كانت الأولى وهى لا تزال فتاة صغيرة اضطرت للعمل بعد موت أبيها فى مصنع نسيج، فهى كبرى أخواتها الذين ما زالوا فى سنوات الدراسة. ولذلك قبلت الزواج من المراكبى “عبدالراضي” برغم اعتراض أخواتها لأنه قد تجاوز الأربعين وسبق له الزواج. وأنجبت منه بنتيها التوأمين “نور” و”ليلي”. ولما مات وحاول أخواه “رجب” و”نبوي” الاستيلاء على المركب بعد أن كانا باعا حقهما فيه، باعته سرا وهربت مع بنتيها من روض الفرج إلى شبين الكوم لتعيش مع عمتها “حسنية”. واحتفظت بثمنه “حق الأيتام” لمستقبل البنتين، فقد كانت حريصة على أن توفر لهما مستقبلا أفضل. ولم ترض أبدا أن تفرط فى المبلغ بعد زواجها لثانى مرة من “حسن” الذى أقنعتها عمتها “حسنية” به راجل طيب يعينيك على بناتك والأيام “ص42”. وحينما جاء المعلم “عباس” صاحب المقهى خاطبا لإحدى البنيتين “ليلي” لإبنه “كمال” حاربت بشراسة لبؤة تدافع عن بناتها حينما أراد “حسن” أن يتخلص من البنت بالزواج عند أول فرصة. والله يا معلم مش حنلاقى أحسن من كدة نسب، واللا إيه يا فايزة “ص69”. فردت الأم قائلة البنت لسه فى ثانوي، وقدامها أربع سنين جامعة … يا معلم انت وابنك زين الناس، لكن أنا عايزة أعلم بناتي. وإذا كان جوز أمهم عاوز يخلص منهم، أنا أشتغل وأصرف عليهم “ص70”. وحينما أراد حسن أن يأخذ منها النقود ليفتح دكانا رفضت بنفس الشراسة: حق بناتي، دى فلوس أبوهم “ص71” هذا كان موقف الأم التى كانت تعمل فى شبابها فى مصنع نسيج ، الحلم بأن يتعلم بناتها فى الجامعة، وهو الحلم الذى استطاعت أن تحققه فى نهاية المطاف، وبرغم كل الصعوبات.

أهمية “سعيد

لكن تُرى هل استطاع تحقق الحلم أن ينقذ البنتين من مصير أمهما؟ هذا ما يكشفه لنا الجانب الآخر من البنية المزدوجة حينما يكون الزواج مرتين هو زواج “سعيد” ابن الجيران من “ليلي” أول مرة، ثم من “نور” ثانى مرة. و”سعيد” لا يقل عن البنتين أهمية فى بنية هذه الرواية الشيقة. فهو الآخر يتيم يعانى من الفقر ويحلم، مثلهما، بأن يزوده التعليم بالقشة التى يتعلق بها منجاة من الغرق. مات أبى وأنا فى العاشرة، وبالكاد تعلمت حتى وصلت الجامعة. ورائى أمى وأختي. عرفت أن الأيام القادمة صعبة. البحث عن وظيفة لم يعد هينا، وعقود العمل للموعودين “ص91”. ولكن عليه أن يثابر وأن يتخلص من هذه الهاوية بالنسبة لى كان الهدف واضحا. كيف يأتى اليوم الذى لا ألبس فيه ملابس خالى القديمة، وأنتظر أول الشهر الذى يدس فيه أحد أعمامى الخمسة جنيهات فى يدى مصروف الشهر. الشهر الذى لا بد أخطأوا فى حسابه فجعلوه ثلاثين يوما بدلا من خمسة، هى كل ما تتحملة الخمسة جنيهات فى سجن يدى “ص92”. ولذلك فقد تجرع “سعيد” حقا مرارة اليتم والفقر وشظف العيش فى واقع تحولت فيه الحياة فى الجامعة إلى مباراة فى إبراز العضلات المادية. وأصبحت الشهادة هى أمله فى التخلص من هذا الواقع المر. كنت وأنا فى الجامعة أتصور أننى سأهزم هذه الحياة بالشهادة. والآن لم يبق لى شيء. حتى الخمسة جنيهات انقطعت. لقد أصبحت الرجل المسؤول عن العائلة، الذى يجب أن يعطى لا أن يأخذ 0ص92″. وكما فعل الكثيرون من أبناء جيله ركنت البكالوريوس على أفسح رف فى تاريخ الذاكرة الإنسانية وعملت فى الحرف التى سبق لى العمل فيها فى أشهر الصيف. والآن أصبحت حرفا دائمة. ولكنه كان يتخايل أمام عيني، عقد العمل، كلمة سحرية سترفعنى درجات. وبدأ البحث عنه “ص93

وبالمثابرة حصل على عقد عمل فى الكويت وسافر. وفى أول أجازة جاء إلى “ليلي” التى تحكى لنا كيف وقعت فى غرامه، وكيف كانت تفاصيل العشق وشراك الهوي، ولذلك ما أن جاءها خاطبا، أو معزيا فى وفاة أمها المفاجئ بعد سفره للعمل بالكويت، حتى تشبثت به قال إن أجازته قصيرة، وأنه سيأخذنى معه إلى الكويت فهززت رأسي. قال سيكون فرحا صغيرا، والشقة سنحجزها العام القادم فهززت رأسي. ولبست الفستان الأبيض، وجلست على الكنبة ووراءنا الشباك “ص53” فنحن فى زمن الأحلام المؤجلة والأفراح المختصرة، والخروج العربى الذى أصبح شرطا لتحقيق أبسط الأحلام، فما عادت مصر بقادرة على أن تحقق لبنيها أبسط الأحلام دون تشردهم فى المنافي، بينما يسلب الفاسدون واللصوص خيراتها ويوطئونها للأجنبي. لكن القصة ليست كما تحكيها لنا “ليلي” قصة حب ابن الجيران الذى انجذب إلى “نور” ولكن أمه رشحت له “ليلي”. قالت أمي: نور براوية وليلى هادية ونادية “ص92”. لأننا نعرف الوجه الآخر للقصة حينما يحكى لنا “سعيد” نفسه عن تجربته فى الكويت بعدما حصل على عمل فيها. وهناك عمل وراء عمل، وفى نهاية كل شهر أبعث لأمى وأختى بالفتات. أنا لم آت إلى هنا كى أبعثر عرقي. أتيت هنا كى أبنى جدارا من المال أسند به ظهري. قلت لو أن ليلى جاءت إلى هنا وعملت ممرضة سأستطيع أن أختصر السنين. وأضع فى البنك ضعف ما أضعه الآن. وسافرت وتزوجت وعدت. وما خيبت ليلى ظني. عملت وحصلت على مرتب أعلى من مرتبى “95” وبدأ وكأن خطته قد نجحت، لولا أن عاصفة العار العربية كانت لهما بالمرصاد. كنت أذهب كل شهر وأضع مرتبها وثلاثة أرباع مرتبى فى البنك، ونعيش بالباقى الذى أقتطع منه جزءا لأمى وأختي. ثم طار كل شيء. وعدت أجرها، وأجر لبني، وخيبتي، حتى ذلك الجدار الذى كنت أحتمى فيه تهدم وتركنى فى العراء “ص96”. ولم يترك أمواله وحدها، وإنما ترك “ليلي” نفسها التى لم تتحمل الرحلة فى الصحراء وهى فى شهر حملها الأخير مدفونة هناك بلا قبر أو شاهدة.

وذهب “سعيد” إلى الكويت خاوى الوفاض، وعاد منها بخفيّ حنين كما عاد كثيرون مثله. فقد فى صحرائها القاحلة زوجته وحبيبته “الهادية النادية”. ورجع يريد أن يستمد من أختها القوية “نور” التى صممت على التعليم فى الجامعة، ولم ترض بمعهد التمريض كأختها الحنونة الصامتة “ليلي” قوة تعينه على الصدمة المروعة التى عانها وعلى خيبة أحلامه ويتمه الحقيقي، وتهدهد يتم ابنته “لبني”. استمع إليه وهو يتحدث عنها: كانت نور تلفحنى بوهج عندما أراها. عيناها الحادتان. جسدها الفائر فى مرونة، وتعليقاتها الساخرة على كل ما حولها. سافرت إلى القاهرة ودخلت كلية الآداب “ص94”. وها هو “سعيد” يعود بعدما دفن اختها “ليلي” فى رمال الصحراء البعيدة “ص56” يطلب منها أن تتزوجه حتى تصبح أما تدفع شبح اليتم السقيم عن “لبني” ابنة اختها “ليلي” التى ترفض بعناد طفلة ذكية أن تدعوها “ماما“.

مغزى بنية الرواية

إن بنية هذه الرواية التى يتكرر فيها زواج الأم مرتين، ثم زواج “سعيد” الإبن الحقيقى للجيل التسعينى الذى عانى من اليتم الحقيقى والمعنوى على أكثر من صعيد من بنتيها التوأمين واحدة وراء الأخري، ثم يتم الحفيدة “لبني”، هى ما يضفى على هذه الرواية الجميلة تماسكها وتضافر حبكتها التى تتناثر الأحداث فيها عبر الأماكن والأزمنة كالشظايا أو الشذرات التى يحتاج القارئ إلى تجميعها حتى تتخلق فسيفساء الحكاية المناقضة كلية لحدوتة البداية الحلمية عن أمير الحواديت، أو عن الكرسى الهزاز والتى هى أقرب ما يكون إلى نوع البداية المعكوسة التى تضع الحلم الشعبى العادى بحياة رخية سعيدة فى مواجهة هذا الواقع الرديء الذى لا تعمد الرواية إلى الكشف عما ينطوى عليه من ترد وانهيار فحسب، وإنما تتجنب بشكل يوشك أن يكون عمديا أن تشير إلى ما ينطوى عليه من ترد ودمار. وتترك للقارئ أن يستنتجه من ثنايا البنية الروائية المراوغة التى أعدت إليها فى التحليل منطق التتابع الزمنى كى يدرك القارئ فداحة الانتكاسة وما جلبته من انكسارات فى البدن والروح معا. وحتى تعمق الرواية من أثر ازدواجها التكراري، فإنها تجعل لكل من الشخصيتين الأساسييتين: “نور” و”ليلي” سرها الدفين، أو عارها الشخصى الذى تخفيه عن نفسها وعن الآخرين. وكأنها تريد وقد اعتمدت منهج التوأمة بين الأختين لتؤكد من خلال تكرار مصيرهما التعس أنها تطرح علينا وضعا عاما وليس حالة خاصة، أن تؤكد كذلك أن لكل منهما جرحها الخاص، ولا أقول خطأها الفادح الذى يجردها من أى أثر للرومانسية أو المثاليات الكاذبة.

سر “نور”، وسر “ليلي

فقد كان سر “نور” الذى تخجل منه هو أنها قد اعتدت مرة بالضرب المبرح على “فاطمة” التى سبتها فى المدرسة وعايرتها بأمها. وتوعدها الناظر بالعقاب أمام المدرسة كلها فى اليوم التالي. و فى طابور الصباح نادى الناظر بصوته الجهوري: نور عبد الراضي. كان واقفا وفى يده عصا غليظة يؤرجحها … اطلعى يا نور من الصف. شعرت أن قدمى ثقيلة، فلم أتحرك. سمعت دقات قلبى وأنا أرى أبلة نجية تهجم على ليلى الواقفة فى أول الطابور وتجرها إلى منتصف الفناء. فتحت فمي، لكن صوتى لم يخرج. ورأيتها تضرب خمسة وعشرين عصاية على يدها … لم أر دموعها. فقط رأيت ظهرها وهو يرتجف. وأبدا لم تسألنى بعدها عن صمتى “ص88” وظل هذا الموقف هو عار “نور” الدفين الذى تخجل منه. فقد ظلت صامتة و”ليلي” تعاقب بدلا منها، لأنهما كتوأمين متشابهين كان يصعب على الكثيرين التفريق بينهما. ولم تخف وطأة خجلها من هذا الموقف إلا بعد أن اكتشفت أن لـ”ليلي” هى الأخرى سرها أو عارها الدفين. حينما لمحت “نور” خاتم أبيها الفضى فى يد “سعيد” وعلمت أن “ليلي” أعطته له ليلة فرحهما. ولما سألتها عن النقود ردت: فلوس إيه؟ لا شفت فلوس ولا أعرف فلوس. الخاتم كان مع الفلوس. خمستاشر ألف جنيه، كان تمن بيع المركب. هم فين؟ “ص102” وكانت الأم قد ماتت فجأة، ولم تصل “نور” من القاهرة إلا بعد أن تمت مراسيم الدفن، ولم تستطع أن تعثر على النقود، وأنكرت “ليلي” أى علم لها بها حتى ظهر الخاتم فى يد “سعيد”. اهتزت نور من الضحك، هى أيضا كان عندها ما تخجل منه وتخشاه “ص103” هذه المقابلة بين السرين لا تضفى على الشخصيتين عمقا إنسانيا فحسب، وتجعل لكل منهما سرها ووجعها وما تخجل منه أمام الآخرين، ولكنها تعزز من بنية التكرار والازدواج فى النص. وتكشف مدى فداحة القهر الداخلى والخارجى معا الذى يعانى منه أبناء هذا الجيل الذى اهدرت أحلامه، وتعمق إحساسه باليتم والخيبة والضياع، ولكنه تحمل هذا كله فى جلد وشجاعة يثبتان جدارته بالحياة، ويؤكدان كبرياءه فى مواجهة تصاريفها القاسية الجارحة.

ـــــــــــــــــــــــــــ

موقع عرب أون لاين 2003

جريدة الخليج :  العدد 10210 ، 3 مايو 2007

عودة إلى الملف.

مقالات من نفس القسم