عقد صلح في إسطنبول

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 7
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مي التلمساني

كانت جدتي تركية، أسميتها في رواية هليوبوليس “شوكت هانم” من الشوك ومن التعالي بالحسب والنسب. ولأن الشخصية في الرواية تختلف عن شخصيات الحياة فلم أكن حقا أتكلم عن جدتي في الرواية، كنت فقط استوحي بعض ملامحها للحديث عن نوع من النساء ينتمي للطبقة البورجوازية المصرية ذات الأصول التركية وخاصة قسوتها وصمتها وصمودها في وجه المرض.

في الحياة، كنت أتجنب الوجود في حضرة جدتي لتلك الأسباب الفائتة ولغيرها مما لا يتسع المجال لشرحه هنا.

بعد العودة من رحلة إسطنبول، تصالحت مع ذكراها بشكل عفوي. لم أكن أقصد أن أتذكرها إذ لم يبق لدي من ذكراها سوي غلالة هشة من الصور المجتزأة والمشاعر الغامضة، لكني وجدتني أتذكر صورتها بالأبيض والأسود التي ظلت معلقة زمنا في غرفة مكتب أبي بشيء من الحنان لم أعهده في نفسي تجاهها.

يقال إن الحب أوله هزل وآخره جد. أول الكره هزل أيضا ولأسباب لا تخفي علي أحد. أردت في طفولتي البعيدة (ماتت جدتي وأنا في التاسعة من عمري) أن أحب جدتي كما تحب الطفلة جدتها العجوز قعيدة الفراش، لكني فشلت. بعد موتها بسنوات وجدت نفسي أجاهر بكرهها لأمي وأحمل جدتي المسئولية كاملة عن كرهي لها. ثم تحولت مسألة الكره لمادة تندر، أخذتها مأخذ التفكه وكررتها ببراءة لا تخلو من الرعونة، لأغيظ من كانوا يحبونها ويجلونها.

بررت كرهي لها بقسوتها علي البنات والخادمات ونساء الأسرة ممن لا ينتمين لقبيلتها المحدودة (الأبناء والبنات دون زوجاتهم وأزواجهن). اعتبرتها قسوة تركية محض. وتمنيت سرا لو كانت جدتي مصرية مثل باقي الجدات حتي أستطيع أن أتخيلها أكثر رحمة بي وحنوا علي.

ورغم أن المسألة التركية لم تكن مطروحة في العائلة من زاوية القسوة بل علي العكس من زاوية الافتخار بالانتماء للأرستقراطية الأجنبية ذات الجبروت والجاه، فقد قررت أن أتميز عن كل هؤلاء الذين أحبوها للأسباب الخاطئة (طبقتها) بأن أعبر عن كرهي لها للأسباب الصحيحة (قسوتها). انسحبت ملامح شخصيتها كانسان لتصبح ملامح الشخصية التركية علي العموم وانسحب كرهي لهذه الجدة القاسية علي كرهي للأجنبي المتعالي المغرور بقوته وجبروته.

المصالحة بعد مرور كل هذه السنين حدثت فجأة، في إسطنبول، الأسبوع الماضي. وجدتني أربط بين سيرة جدتي – أو القليل الذي أعرفه منها- وبين سيرة المدينة التي كنت في زيارتها وكأنهما باتا شيئا واحدا، كأن جدتي في إسطنبول غير جدتي في القاهرة. أو كأن سحر وغموض المدينة مبرران كافيان كي أغفر لها ما اعتبرته قسوة غير مبررة تجاهي وتجاه آخرين من حولي.

انظر للتلال الصلدة العنيدة وأجدها تشبه جدتي، وأنظر لما آلت إليه من روعة وبهاء ببناياتها وأسطحها المصنوعة من القرميد الأحمر وإطلالتها الشامخة علي البوسفور وأتخيل أن جدتي لابد كانت رائعة وبهية في صباها وأن قسوتها كانت تخفي شموخ روحها وتعاليها علي ما لا يصح وما لا تقبله الأعراف. كانت طبقية، جدتي، مثل تلك المدينة الصاعدة من الماء، ولكن علاقتها بفكرة الطبقة علاقة تشبه علاقة البدوي بقبيلته، وليست علاقة الفلاح بأسرته وقريته. القبيلة كلها طبقية في مقابل القبائل الأخري، وليس الأفراد في مقابل الأفراد.

تماما كما يعلو التل ويرتفع، كيانا واحدا لا يتجزأ.

لم يكن بيتنا قصرا لكن جدتي كانت تحكي عن قصر ريفي اندثر بعد أن مات جدي وهجرته العائلة، سلاملك وحرملك في قلب نوي القليوبية حيث تقع عزبة التلمساني. صورة مصغرة لما يمكن أن تكون عليه حياة أغنياء الريف في بدايات القرن العشرين، أرض لا تصل لمائة فدان وبيت يحاكي بيوت الأثرياء من البكوات والباشاوات.

وقيل إن جدي حصل علي البكوية، وقيل لم يحصل عليها، ولم أكن أهتم بذلك أو ذاك من حكايات المجد القديم وأسباب الفقر الذي تلاه، كنت فقط مهتمة بمعرفة مصدر جبروت جدتي.

قصر طوبكابي تحفة معمارية تطل علي البوسفور. أجنحة منفصلة تفضي لأجنحة متصلة، أسقف عالية تزينها طاقات من الزجاج المعشوق وأبيات الشعر القديم، مكتبة نوافذها مفتوحة علي الأشجار وعلي خرير الماء، صالات لعرض آثار الأنبياء، عمامة النبي يوسف أو عباءة النبي محمد، قاعات استقبال مذهبة وطنافس وسجاجيد أبدعتها عين رائقة وأصابع ملفوفة في حرير، حوائط سيراميك يغلب عليها الأزرق والأحمر، زخارف من ورد وزنابق، نوافذ كبيرة تطل علي حدائق غناء تصل الأجنحة بعضها بالبعض وممرات تحلو النزهة فيها في كل أوقات النهار والليل. ثم مسجد بعيد يطل مباشرة علي الماء، وقاعة صيفية معظم حيطانها من الزجاج والخشب المشغول، وحرملك كالمتاهة، نصفه مفتوح للزيارة، بذخ الحمامات المصنوعة من الرخام والذهب، هدوء قاعات الدرس والقراءة، صمت القاعات الداخلية وضوءها الخافت.

انسحبت الحياة من هنا وحلت السكينة، لو فقط يختفي كل هؤلاء السائحين وأبقي وحدي ساعة! تري هل عرفت جدتي هذا القصر في صباها؟ وهل جاءت أصلا من إسطنبول أم من مدينة غيرها؟ ولماذا لم يهتم أحد بكتابة سيرة جدتي فيما اهتم أفراد العائلة بجمع سيرة وأخبار الرجال من آل التلمساني؟ ربما أكون قد ظلمتها هذه الجدة القاسية، وربما لم تكن تستحق مني هذا التجاهل، كانت فقط تنتظر اللحظة المناسبة لتحكي لي عن بلادها البعيدة وماتت قبل أن أسألها. قصر له مداخل كثيرة، ليس مستطيلا مثل فرساي، بل متجزيء عن عمد، من أيام محمد الفاتح في القرن الخامس عشر حتي اليوم، قصر ينبني علي طبقات مثله مثل المدينة، يشبه المتاهة، كل ركن يخفي ركنا، كل جناح يفضي لجناح. قصر يشبه جدتي، واضح وخفي وصامت وعال وصاعد ومغلق علي كنز من الأسرار.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم