أول ما يلفت في ديوان “رغاوي البيرة” نزعة التجريب التي تشمله ابتداء من الغلاف. تسعة وتسعون نصا ،بلا عناوين، يغلب عليهم التكثيف والاقتصاد الشديد في الأداة اللغوية ،تم إدراجهم تحت إشارة (بازل) الموجودة في عنوان الديوان.والنصوص مكتوبة في صفحات لا أرقام لها. تركت الكاتبة مسألة ترتيبهم للقارئ في تنويه يرد في الصفحة الأولى: (هذه النصوص غير خاضعة لترتيب ما،وعلى القارئ ترتيبها كما يري).
يهدف هذا التجريب إلى إعطاء شخصية للديوان كوحدة مغايرة مميزة. وكما أن لعبة البازل Puzzle تدفع إلى تجميع القطع الصغيرة بحيث تشكل في النهاية صورة واحدة كلية ، فنحن كقراء مدعوّون إلى عمل هذا.
مع المضي في قراءة النصوص سيلاحظ القارئ أن أي نص يندرج تحت واحد من محاور ثلاثة: كتابة تقوم فيها النفس بتأمل أمر يخصها، أو كتابة مكرسة لتجربة الحب، أو رصد لشخصيات من المجتمع المحيط بالكاتبة.
رغم كثرة المظاهر الدلالية واختلاف طريقة تناولها، إلا انه يمكن إرجاعها بسهولة إلى مسألة انكسار الوحدة بين الفرد والمجتمع، التي هي – في حالة هذا الديوان- نتيجة لتحصيل وعي من قبل الكاتبة، وعي راديكاليّ، لا يتلقى ما يدعى “ثوابت المجتمع” بسلبية مستكينة، بل هو دائم التساؤل والتشكك في صحتها ومدى احترامها لآدمية الإنسان. كذلك يضع هذا الوعي تحت دائرة النظر والمساءلة منظومة التقاليد والعادات، وغيبيات تستجلب الطمأنينة الزائفة.
(ملايكه أطلعوني ع السر/ قبل ميعاده/ طفت سدرة المنتهي/ انتظارا/ لحد ما عرفت الحاجات قبل/ ما تحصل./ بخبث ../رميت الصخرة من فوق كتافي/ وفتحت لهم باب للفتنة الكبرى.)
بعد اطلاعها على ما بات سرا فقط لأن المجتمع اتفق ضمنا على إخفائه، ومكابدة تجربة المعرفة الصعبة ،حدث أنها استشرفت الآتي، بمقتضى معرفتها لما قد كان (الماضي /التاريخ) وما تعيشه (الحاضر الراهن).وقد نتج عن ذلك أنها أوقفت ممارسة العبث(ما درج عليه الناس) المرموز إليه بصخرة سيزيف، وأعملت الكشف والافتضاح على حقيقة ما يحدث تعزيزا للتناقض المصيري بين مفاهيم متوهمة والحقائق على الأرض.
وإيجابية هذه النتيجة ستضفي المصداقية على مفارقة ( طوفان/ لأ ماخدنيش ف سكته/ بالعكس غسلني /أستقبل/ دنيا جديدة) عالم جديد منظور إليه بدون إيديولوجيا متسلطة، ولا تصور مسبق موروث. ولسوف تكسبها التجربة ثقة في أحقية أفكارها ،حيث تعارض التعبير الشائع “بنات أفكاري” L أفكاري /بني آدمين بجد/ مش بنات ليل)
ثم تصير تجربة الوعي هذه إلى نقطة مفصلية ،تفضي إلى انقسام الذات (ما استحملتش فكرة إنها أسد/ يقدر يعيش من غير قطيع./ تبني نفسها بشكل أسطوري/ هربت من بيت كله/ ذكريات مشتركة/ جدت أحداث /بمرور الوقت/ اتحولت لذكريات مشتركة/ سابت روحها ترعاه،/ وهربت)
ولعل من المفيد أن نعرض إلى اللحظة الناريخية التي بدأ منها هذا الانقسام الذاتي، يكتب “يانكو لافرين” L يبدو أن الانقسام الذاتي الداخلي أصبح أمرا لا مفر منه بالنسبة للإنسان الحديث المتقدم. والواقع أن أسباب هذه الظاهرة عميقة وبعيدة ،فهي ترجع إلى عصر النهضة ،ذلك أنه بفضل روح النهضة تجاسر الإنسان الأوروبي على إعلان ذاته معيارا لكل القيم. ولكن لم تكد تذهب به النشوة الأولى لتلك الحرية حتى وجد فراغا يحيط به .وأصبح عقله المستقل المتسائل متشككا وأخذ يحطم تدريجيا جميع تلك الروابط التي كانت تربطه بالكون وبباقي الإنسانية من قبل ، وأخذ يحلل كل شيء حتى رأى في النهاية أن حريته لم تجلب له سوى العزلة واليأس وفوضى من المتناقضات .ولقد كان “هاملت” بكل جوانبه نتاجا منطقيا لعقلية عصر النهضة ،كما يعد في الوقت نفسه النموذج الأصيل للإنسان الحديث المنقسم على ذاته )( الرومانتيكية و الواقعية – هيئة الكتاب 1995)
حقيقة، ستختلف مسألة الانقسام عند كاتب من تسعينات القرن العشرين عن ما ذكره “لافرين” في بعض التفاصيل.بحكم اختلاف الظرف التاريخي بأبعاده ذات التأثير. لكن الواضح أن الانقسام صار ميراثا ينقله جيل من المثقفين لجيل لاحق بهم.
ولسوف تذكر الكاتبة الانقسام بطرق مختلفة أولها بطريقة مباشرة مستعرضة مرحلة التصالح مع النفس ثم افتراقهما بعد حصول الوعي (كنا صحاب /بنخاف على بعض بجد/………./انا وانا/ بنخاف من بعض/ بنجهد بعض طول الوقت/ يعني باحب الحلويات جدا/ حتى ف الشرب/انا بياكل حوادق مع الخمرة/بحب الخمرة/ انا لازم يكسرها بحاج تخليها طيف/ باحب الكتابة /انا بيشوفها تافهة طول الوقت/ باروح لحته ..أنا بيشدني/ فعمل بينا ميدان وشوارع فرعية/ مل تنفعش فيها إشارات المرور ،كل ما اروح لحته أعرفها يسحبني لحته مااعرفهاش/ لغاية ما قررت.. /اقتله )
ولا يخفى أن رغبة التوحد بالنفس سيظهر على مدار الديوان انها متعذرة تعذر المستحيل.
ومرة اخرى ستصور شطرها المختلف في هيئة الظل (بعد/ اما اتخاصمنا/ قعد ينتقم من الايام اللي حبني فيها بجد/انسحب من الصحبية بعدوانية جدا/ ضلّي../ كان عندي فيك /ثقة أكبر من كده.)
وفي واحدة من أفضل قصائد الديوان. تنتبه إلى ان دمها نصيرٌ لموقفها الاستقلالي عن المجموع ( دمي الشيء الوحيد اللي باعتقد إنه بتاعي بالكامل /مش متماس مع الناس/ ما بيخبطش فيهم وهو ماشي/ وما لوش دعوة بالعادات والتقاليد ) لكنها سرعان ما تستدرك انه ( دمي / ازاي ما بيشربهوش التراب/ أو بيتبقع بيه الكفن/ ليه ما بينشفش ف عروقي/ إزاي ف الموت بيتحول لدود بياكلني)
لتنتهي إلى الخلاصة المؤرقة ( “دمي ما هوش ضدي ومش معايا” ) .
لا يخفي ان مجتمعا –أيا كان موقعه من التقدم والتأخر- لا يرضى عن هذا الانشقاق والاستقلال ، ويحدجه بعداء بالغ. وقد يظهر ذلك العدوان على مستوى التعايش اليومي أو مستوى السلطة الرسمية. وإن كان المجتمع على قدر من الجمود والرجعية زادت حدة العدوان.
أما الانسان فإنه اجتماعيّ بطبعه ،ومدفوع إلى الي الاحساس بكونه جزءا من كيان كلي شامل. ومن هذين الأمرين يتضح أن بناء الذات المستقلة “الأسطوري” محارب من الخارج، وتتم مقاومته داخليا بشكل لا إرادي. وتلقائيا ستقوم الذات بعمل تعويض بواسطة فعاليات وممارسات تشعرها بالإندماج مع المحيط وتعيد التآم الفرد متحدا بنفسه.وسوف نأتي على ذكرها فيما بعد. والحاصل أن الذاتين (التعويضية والمستقلة) موجودتان معا ،لا تلغي إحداهما الأخرى ،غير أنهما مفصولتان دوما بفاصل زمني حيث تظهر واحدة منهما وقتا ما ثم تضمحل وتظهر الأخرى وهكذا بتتابع على مدى زمني.
وسوف نرصد كيف تعامل الكاتبة بوجهتين مختلفتين مع الموضوعات التي كثر ذكرها في الديوان.
تجربة الحب/ مشاركة الآخر
الحب هو التيمة الأكثر ورودا في الكتاب .وعندما احصيت عدد المحاور الثلاثة في مجموع النصوص البالغ تسعة وتسعين نصا، كانت تجربة الحب تمثل 42 ضمن 84 نصا هي مجموع ما يخص الأنا الكاتبة من نصوص ،وكانّ التجربة العاطفية تمثل نصف فعاليات الأنا في العالم.
( هو أنا ليه بابص ف صورتك/ اتخيل انها سمعاني/ وبتضحك/ ولما اتجنن ف حبك /تخاصمني/ لما بازعق ف الشارع /تدير عينها مني /لما اتنرفز، واركب تاكسي فجاة/ تعيك معايا/ لما اتألم من تصرفاتي إللي كلها خوف/ كأنها تعويذة إخيرة لخيالي /من الجموح أو التفكير ف الإنتحار/ بجد. )
ثمة فائض من العاطفة ،يضطرب رغبة في الإنزياح إلى موضوع خارجي. وقد مثلت تجربة الحب وحدة صغرى مع الطرف الآخر ،موضوع مشاعرها العاطفية. وقد حقق المشاركة حتى في الحلم (باتونس /بجلابيتك المتعلقة على مسمار /فوق السرير /وانام مكانك/ يمكن احلم بيك.)
أما معاناة الوحدة والانفراد من جراء الذات المستقلة فإن الكاتبة تبحث عن الائتناس، وحتى شغفها بالإثر المادي الملموس للعلاقة لكي تاتنس بذكراها.
( دايما بدور ع الونسه/ ف عرقك اللي بتسيبه ع المخدة/ او رغوة الصابونة ف حوض الوش/ علمت ايدي تتعرف على جسمك/حفظت حكايات شعر صدرك بالواحدة/ حتى لما تركن بكوعك على رجلي وتزرق/ باعتبرها /بريزة فضة /سايبهالي. )
ثم تبدأ الذات المستقلة في الإعلان عن نفسها ، بالتشكيك في مقدرة تجربة الحب على التعويض وملء الفراغ الوجودي.
(فعلا هاقدر اركن ضهري عليك ولا ديه فكره سخيفة زي المزيكا اللي/ ف جسمي)
ثم تنتبه إلى إنها إنما تبحث عن صورة مثالية متخيلة (مثال افلاطوني Form) تشبع رغبة التوحد بالنفس والعالم ،وهذه الصورة غير قابلة للتشخص في أي أحد أو التجسد في أية تجربة
(إنت حقيقة / ولا صورة باحلم بيها /واتمناها فيك ؟!)
وتكتب أيضا (لما أحتاج أضمك/ بكل قوة /ح ابعدك )
أو (مستنياك /وانا عيل مصدق إن أبوه ربنا/ مطالب بتحقيق احتياجاته )
ثم تخلص إلى إمكانية الاستمرار بدون عكاز (إعانة ..بديل..تعويض) يسمى الحب (ماكانش/ عندي ثقة/ اني حاقدر اكمل الحياة من غير عكاز، كنت باساعدك /تصدق نفس الفكرة/ تظهر طيف حنون ف كتابتي/ تشاركني تفاصيل ..ملامحي/ ف لحظة جرءة مني /غامرت.. /نجحت/ اني أبقى لوحدي/ من غير عكاز/ اسمه بحبك )
والواقع أن تجربة الحب لا تتوقف عنها ،وتظل طافية وسط صراع من شطري ذاتها. (صدقني/ مااعرفش ازاي قدرت على نفسي /دربتها /ما يكنلهاش/ ريحة تفضل عند حد./ كنت دايما../ باكذب /ف اني ما بحبش الروايح/وان / جيوبي الإنفية مليانة على آخرها /بريحتك. )
مع كثرة النصوص التي تتخذ من تجربة الحب موضوعا لها ،سيقت النصوص بفعل تراث متورم من أغاني الحب والأفلام العاطفية، إلى مبالغات من نوعية (من سخنية دموعي/ داب جلدي ..)
أو تنهي نصين بموت يمثل نهاية مبتذلة ،جلية الاصطناع (ما كنتش واخده بالها /من دموعه دمه /وهو ما احتملش انقطار قلبها/…/ مات )
أو تقوم بعرض ميلودرامي يدغدغ العواطف ويثير الشفقة مثل ( كل ما آجي أنام/ أخاف لتكون رغبتك أصحى/ اطرح على نفسي أسئلة من عينة/ هو ده حب ولا ولع؟ /اقر بأنه تطرف ف حبك/ كل ما انام /ألاقيك ../أرجوك بطل تحبني ف الحلم . )
الكتابة
يبين د.مصطفى سويف في كتاب (الأسس النفسية للإبداع الفني) أن الدافع إلى ممارسة الفن يكمن في انكسار النحن ،حيث لا يحدث أن تندمج انا المبدع مع الهم =المجتمع المحيط. ومن هذا التوتر الناتج عن انكسار النحن يندفع الفنان إلى اكتمال ذاته. ومع افتراض علل أخرى لظاهرة الإبداع غير ما ذكر. إلا انه في ديوان “رغاوي البيرة” لأمينة عبدالله تظل لهذه النظرية قدر من الوجاهة.
مرّ بنا أنه بعد مرورالكاتبة بتجربة المعرفة وتحصيلها وعيا، أخذت تقوم بفعل كشف وافتضاح.وهذه طبيعة كتابة الذات المستقلة ،تواجه حقيقة موقفها وتفصله على الورق، مستعينة بحياد لا يوقعها في انفعالات مبالغ فيها أو تدفق عاطفي مبتذل (بحاول/ بتكنيك متوازن /رسم خطة للتعبير عن حزني بترفع..)
وهى لا تقلق من مظاهر النص الغريب ،اعتمادا على اصالة التجربة التي وراءه ( حاجات ملمسه معانا ف شوية نقط/حتى /لو ماكنتش كلمة مفهومة لأول مرة /تلاقيها / تتضح بمرور الوقت )
وحالتئذ يتقاطر ركام الأحداث الماضية (الذكريات) بحضور ضاغط (لو ليك ذاكرة فولاذية/ مابتنساش حاجة/ وعندها قدرة على ربط الأشياء ببعضها/ دامش معناه إنك سعيد/ معناه إنك ح تفضل/ تجر قطر من الذكريات /وتعرف حقيقة وجع الذكريات )
من جهة اخرى تقوم الذات التعويضية بكتابة هروبية ،تهدف إلى تخليص صاحبتها من الاثر الوجداني المزعج ،وصولا إلى السلام مع النفس (معايا/ الكتابة بتبتدي بتعبير يعجبني النهارده / مافيش انتاج يفتح للاعجاب باب ، ولا فيه سكة وصول للسلام مع النفس /التقارير الرقابية/ بتأكد سوء الحالة العامة/ وتهيئة وضع الانفجار )
ومن هذه الوجهة يحلو اختراع ذكريات ،تكون بمثابة احلام يقظة ،وحيوات متخيلة غايتها اكمال النقص فيما هو قائم. (صنعت عالم بديل بالذكريات ../ عملتزينة رمضان ف قلبي من ورق الشيكولاته /وجوازات السفر../بتذاكر الاوتوبيس ./ماتضحكوش../كل واحد حر ف ذكرياته اللي يخترعها ،/ويصدقها/ يكبرها شجر يضلل عليه/ أو يسيبها عيل صغير ف حجره/تضحكه../ وتاخده م الاحزان )
ابتداءً من الحداثة في القرن التاسع عشر ،أخذ الانسان ينفصل عن الطبيعة ، بعد ان كان في حالة اتصال قريبة منها، تراكمت غير بعيد عبر قرون كانت الزراعة فيها الانتاج الاساس ،ثم مع اختراع الآلة البخارية وانتشار الميكنة حدث ابتعاده، وقد أخذت افكاره وبيئته الجديدة تصبح طبيعة ثانية له. ومع تواتر نجاح العلم أتيحت له الفرصة ليعتقد بإمكان سيطرته الكاملة على الطبيعة ،وتحقيق السيادة الموهومة! على الأرض.
ازدواجية الموقف تتجلى في رؤية أمينة عبدالله من الشيء والطبيعة عموما (باكره المناديل الورق/فيها دموع عشاق،/ عرق لقى/ وجيش اطفال ممكن يحتل العالم ./المناديل الورق/ عامية ماعندهاش شفقة /بتمسح كل الحاجات /بنفس الحياد /المناديل الورق/ ما بتنفعش ذكرى /ما فيهاش كتابة ع الحرف./ عليها كل غباوة التكنولوجيا. )
تنزع الذات في أوان بحثها عن التعويض إلى الشعور بالالفة مع الطبيعة وتكوين علاقة مع الشيء ،ترمي في ذروتها إلى إلغاء الحدود والاختلافات النوعية بين الانسان والطبيعة واتحادهما في كيان متجانس موحد.
(مين حكم/ بأن الحاجات ما بتحسش؟/ دا انا ساعتي/ لو حد غيري لبسها /مابتمشيش )
وعلى النقيض من هذا ،فان كل علاقة يضفيها الانسان على الشيء هى بلا اساس، وناتج إسقاط مشاعره الباحثة عن تجسد لها .بينما الشيء في الطبيعة محايد ،مفارق للطبيعة البشرية بكل مظاهر نشاطها، يعزز غربة الكائن وسط كيانات تتضخم على حساب قيمته. ( صحيح المكان بيفرح بصحابه /والارض بتعرف ناسها ؟/ طب التربة ازاي مفتوحة ومستنية/ ازاي قادرة تلم عضامنا/ وترابها ابيض مع اننا الوان؟/ ازاي الارض بتعرف ناسها وهي محطات /عليها الرايح جاي. !)
تتردد في الديوان هوة بين الفكر والجسد، وبالنظر الى وضع المثقف في العالم العربي ،نجده يعيش تمزقا بين عقله وطبيعة جسده، فهو يستقبل الانتاج الفكري للحضارة الغربية منذ نشأته حتى شذرات ما بعد الحداثة والنقد الثقافي، بينما يعيش في ظرف اجتماعي وسياسي ينتمي للقرون الوسطى .بحيث تفرض عليه العزلة وتتعمق الفجوة بين ما يعتمل في فكره وما يحيط كيانه في واقعه المعيش.
(بامشي عكس طبيعتي باستمرار/واخلي وشي المتجهم عادي /مانتاش تتاكد من فكرة /ان ده وش مرهق ولا حزين/ان ديه عين سرحانه ولا مركزه عليك/ كل مرة اتسأل ايه رحتي فين؟/ كنت بافرح اني قدرت احيد ملامحي/ وان الناس حواليّ مجرد اصوات بتخرج لمجرد ودان /كنت باهرب /جوا نفسي /كل ما يكتروا حواليّ)
لدى الشاعرة تركيز وانشغال بالجسد كمخزون للخبرة مع اشياء العالم الواقعي ،وبوابة حدود يتميز بها الفرد عن المجموع وتتجدد مسالة الصراع بين الانفراد والوحدة. (مهم قوي /وانت ماشي ف الشارع/ تبقي عارف حجم جسمك/ والمساحة اللي /ح يشغلها لوحده/ او وهو معاه حد. )
وفي ذلك رجوع مطمئن إلى حقائق مادية صغيرة تخص الانسان في حميميته، بعد ان حُبس هذا الجسد بتعسف داخل مفاهيم موروثة ومستحدثة .مثال تشييء جسد المرأة وتناوله في البروباجندا الاعلانية كمروج للسلعة، وتنميط جسد الانسان بتزييف حقيقة وجوده المحسوس. (اتعوِّدتْ على غباوة المكياج/ وشها المطاط حيادي / بيصدر الشعور بأهمية البلاستيك/ ويأكد ع اللامبالاة. )
يتجاور في نصوص أمينة عبدالله المتعين والمجرد ،الملموس والفكرى المفهومي. متجاوزة ثنائية الكتابة الذهنية وكتابة الطبيعة الصامتة. وباستخدامها المحسوب للعنصر الذهني تعيد الاعتبار للفكرة كمجال حيوي في حياة الفرد المعاصر. يعدّ إلغاؤه تزييفا لحقيقة تعامله اليومي مع التكنولوجيا وثورة الاتصالات وطبيعة المدينة الحديثة.
أما المجاز فإنه مستخدم بحرص شديد يشير إلى نزعة عدم التصديق المنتشرة بين أجيال المبدعين الجدد (جيل الفين والتسعينات) حيال المجاز المنتفخ من استعارات مهولة منقطعة الصلة، وصور مصطنعة كاريكاتورية. في الوقت الذي يكتسب فيه الشيء المادي المتعايش معه وتفصيلة اليومي معناهما الشعري ومصداقيتهما في التعبير.
في النصوص الخمسة عشر الراصدة لشخصيات من خارج الذات .كانت الكاتبة دائما ما تنتبه إلى تنويعات على أزمتها هى. إذ أغلب الشخصيات المرصودة تعيش علاقات كثيرة ولا تجد فيها الحب ،وتظل غير قادرة على تجاوز وضعها طالما ظلت مفتقدة له. ( ايه /حكاية الوحدة اللي مالهاش حل ديه؟! /كل ما تهرب منها لحبيبة/ يحدفك الهرب للحبيبة بتاعة سن ال14 ..) وكذلك شخصية البحّار ( بس كذبتْ /لما داريت دموعك عن بنت حبتك ماحبتهاش / وقهرك لما حبيت وما تحبيتش )
وباستقراء الشخصيات نجد أن الكاتبة تتعامل معهم كالروائي الذي يرسم شخصية ثانوية تشكل ملمحا في شخصيته الأساس (الشخصية المرآة) أو تكون على طرف نقيضٍ منها تتعمق بها حدود الشخصية الرئيسية وتزيد من شدة الضوء الملقى على تفاصيلها.
حيلة البازل أنقذت الديوان من امرين ،الأول هو التناقض في نوازع النصوص ودلالتها مجتمعة ،لأن الصورة المتحصلة في النهاية (ذات الكاتبة) لا تخلو من تناقض في الرؤية والسلوك ،كما لا يخلو منها أي أحد. والثاني هو الابتسار والنقصان المخل بالمعنى في بعض النصوص وقد عولج ذلك بقضية ان النصوص تتكامل فيما بينها، ويبني بعضها على بعض مكونة الصورة الكبيرة = نهاية وهدف البازل.
لكن تبقى بعض النصوص غير قادرة على تحقيق الشعر. ولم تشفع لها أي حيلة . مثل (بيتهيء لي /اننا زهقنا م العنف/الخمره /الكمبيوتر../ والفساد../بيتهيء لي اننا محتاجين شوية/ رومانسية.) فهذا نسمعه على ألسنة المذيعات ،وفي بعض مقالات الجرائد،ولا أعرف لماذا كتبته الشاعرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*شاعر وناقد مصري يقيم في الاسكندرية
خاص الكتابة