أحمد ثروت
هنا كل يوم أتأمل النيل الهامد، يلمحني ورده فيُقبل عليّ فرحاً، أراقب العابرين والجالسين، السيارات الغريبة والمراكب الفقيرة، أراقب الكون.
أسند ظهري للسور القريب من الأرض، أو أحاول احتضانه تحت ابطيّ لأرى اتجاهاً واحداً محدداً.
و لم يكن نفير انصرافي سوى الشمس تخبطني على قفاي لسعاً حاداً، فألملم نظراتي، ثم أكومها فتتجه نحو المرأة صاحبة الوجه الرائق، بلا إرادة مني.
كانت تملأ كيسها الشفاف القوي، مدسوس نصف جسدها في الصندوق المترب، تتحسس أحشاءه بيدين طويلتين، ثم تضع بحذر كفّها بما التقط، داخل الكيس الضخم.
كوّرتْ قطعة قماش سوداء مغبرة باهتة، طبطبت عليها فوق رأسها، ثم أشارت لي باسمة، فأرسلت عينيّ نحو النيل المرتجف، لكنها أحكمت ربط كيسها الضخم ثم أشارت لي ثانية، فمشيت وئيداً بحذاء يئز، رفعتُ الكيس ناظراً إليها، فقالت:” أنادي لك من ساعة، أنت واقف من زمان” وعدلت كيسها فوق قماشتها المتربة، بلا إجابة تنتظرها مني، ثم رمت بقدمها للأمام.
ربما كان جلبابها أزرق ثم صار بنياً أو شيئاً كالبني، حين ارتمت عيناي خلف حذائها البلاستيكي الأحمر، تراجعت بظهري سانداً إياه على السور القزم، لملمت عيناي من حول صندوق القمامة الذي كان يودعها في رزانة مفتعلة. مشيت بهدوء نحو عرض الشارع، تسمرتُ في انتظار سيارة تذهب بي بعيداً، لكنها ابتسمت، فوجدت وجهها -الذي طالما رأيته رائقاً- متجعداً كصباحاتي، بعينين زرقاوين حادتين، وشفتين رفيعتين، كانت تلمحني.
البنايات الزاحفة لم تعد تخيف بقايا النيل، اعتاد اقترابها منه خلال ثلثي عمري الأخيرين، بينما اقتربتُ ثانية من العجوز بثغر مفتوح وقلب ضاحك، فأحاطتني عيناها .
حين رأيت الجرافات تزيل ورد النيل بطول المصرف، كانت قابضة على ذيل ثوبها ببقايا أسنان، تركع خلف الجرافات، ثم تأخذ الورد المنتزع لتضعه في كيسها البلاستيكي، كانت تعيده للنيل مرة أخرى، لكن رماح الحديد وقوالب الطوب الأسمنتي قد انتشت فابتلعتها في روية .