هواجس الفناء والبقاء على خَط جرينتش

على خط جرينتش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد عبد النبي

وردَ على لسان إلكترا، في مسرحية سوفوكليس التي تحمل اسمها، وبترجمة طه حسين: “أَلا فَليهلك أبدَ الدَهر بين الناس الرُشد والتقوى إذا كان حظُّ مَن فارقَ الحياة أن يبقى مُهملًا مَنسيًا كأنه تراب غير حساس، وإذا لم يلق المجرمون جزاء ما اقترفوا مِن إثم.”. وقال الروائي الإنجليزي تيري براتشيت ذات مرة “لا أحد يموت حقًا حتَّى تتبدَّد المويجات التي خلّفها في مياه هذا العالَم.” فكأنَّ النهاية الأخيرة لا تأتي بالموت المادي، بل تأتي مع النسيان والإهمال والمحو التام، وَلعلَّ هذه إحدى الأفكار الأساسية المختفية بين سطور وحكايات رواية شادي لويس الثانية الصادرة هذا العام عن دار العين (على خط جرينتش)، والتي يستهلها باقتباس من إنجيل لوقا، هو: “دعَ الموتى يدفنون موتاهم”، العِبارة المأثورة التي تجمع بين الموتى فوق الأرض وعلى قيد الحياة والآخرين الذين رحلوا ووجبَ دَفنهم، وهو الاستهلال الموفق في إيحائه، لو استبعدنا إحالته الدينية المباشرة، واستهدينا بمعناه العام في قراءة الرواية التي تبدأ بنبأ موت وضرورة دَفن شاب سوري يعيش وحده في لندن، وصل إليها بعد أوديسة رهيبة لا تصدق، وتنتهي بلقاء غريبين في مقبرة، أتيا لحضور جنازة شخص لا يعرفانه فلا يجدان جنازة ولا مَن يحزنون.

          شادي لويس كاتب وصحفي وإخصائي نفسي، يكتب بانتظام مقالات وموضوعات ذات اهتمامات متنوعة على المواقع الإلكترونية. ظهرَ في روايته الأولى، طُرق الرب (الكتب خان -2018) قدرَ انشغاله بقضايا اجتماعية وسياسية ذات طبيعة شائكة، وفيها أيضًا تصوير حيوي لوضعية القبطي المصري على الهامش وتوزعه بين الطوائف والكنائس والانتماءات واضطراره للخضوع لسلطة الكنيسة في أبسط حقوقه الشخصية مِثل الرغبة في الزواج.

ورغم انشغالات شادي لويس، في روايتيه، بقضايا إنسانية كبيرة وذات أبعاد سياسية واجتماعية واضحة، فإنه حريص على التناول الفني لها، عبرَ شخصيات حيَّة يسهل أن تصدقها وتراها، وحكايات إنسانية قادرة على توريط القارئ معها، فقط إذا تسامحَنا قليلًا مع بعض ارتباكات اللغة والأسلوب التقريري أحيانًا. سمة أخرى واضحة، وخصوصًا في روايته الثانية هذه، هي الولع بالشخصية، الذي قد يطغى على الاهتمام المكرس للحكاية الكُلية للعمل. فالراوي لا يفوت فرصة لرَسم شخصية طريفة صادفها في طريقه، حتَّى في الصفحات الثلاثة الأخيرة للرواية حين يقدم شخصية طريفة أخرى وجديدة تمامًا، فَكأننا بدرجةٍ ما أمام مَعرض بورتريهات لشخصيات متنوعة الأجناس والمشارب، وجوه وتواريخ قصيرة محكمة، مرسومة بمحبة وضربات سريعة. يجمع كل تلك الوجوه الراوي نفسه بطبيعة الحال، حيث جميعها أطراف في لُعبة حياته هو نفسه، ويجمعها أيضًا الثيمات الأساسية التي حاول العزف عليها، وخصوصًا ثيمة انقسام الناس على جانبي خط وهمي هو خط جرينتش بين شرقٍ وغرب، وصعوبة تثبيت تلك الخطوط الفاصلة على الدوام بين الإنسان الأبيض والأسود والمنتمي للشَمال وللجنوب، وكل تلك الخانات والعُلب والتصنيفات التي تحكم الوجود الإنساني وتسيره، وأحيانًا تُحي وتميت، وهي مجرد أوهام جغرافية مفترضة مثل خط جرينتش ذلك. ومع هذا تبقى المظلة العامة التي تشمل جميع شخصيات الرواية تحتها هي أسئلة الموت والموتى والبقاء والفناء.

مع تعدُّد الشخصيات تتكاثر الحكايات، دون أن تتواشج إلَّا في أحيان قليلة، فكان تجاور الحكايات أقرب إلى سلسلة متصلة من حلقات تتواتر في وَعي الراوي، سواء في حاضره أو ماضيه. لا يتراخى إيقاع الرواية لهذا السبب أو تفقد درجة جاذبيتها، فهي رواية تُقرأ بسلاسة وسُرعة لا بأس بهما، لكن القارئ قد يشعر أحيانًا بشيءٍ مِن الازدحام، أو ربما اكتظاظ السَرد بأكثر ممَّا يجب لرواية من مئتي صفحة.

تتعدد الشخصيات إذًا وتتجاور حكاياتها وفي أحيانٍ قليلة للغاية قد تتقاطع، لكن دون أن يعني هذا اقتراب العمل من حِس المجموعة القصصية أو المتتالية فالنبرة الحاكمة بصوت الراوي والأفكار الأساسية تجمع أشتات النص، ومع ذلك قد يتسرَّب للقارئ شيءٌ من الشعور بالازدحام، أو اكتظاظ السَرد بأكثر مما تحتمل رواية من مئتي صفحة. من ناحية أخرى، في حرص الراوي على تجميع كل تلك البورتريهات والحكايات الصغيرة نشعر كأنه هو نفسه يختفي خلفها معظم الوقت، فلا نراه رؤية واضحة بالمرة، ويبدو على امتداد الفصول أقرب إلى صوت مجرد، طيف مراقب ومحايد، أقصى ما يقدمه هو التعليق على الأحداث والاشتباك معها مُضطرًا والاستماع لآراء وحكايات الشخصيات الطريفة المحيطة به، فإذا وضعنا جانبًا مشكلته في العَمل التي كاد أن يفقد بسببها الأمان الوظيفي وبالتالي المادي، لن نجد حالات عميقة كشفَ فيها عن نفسه، باستثناء ربما حالة أو اثنتين جاءتا عابرتين للغاية، خرجَ فيهما من مخبئه وتصدَّر الصورة، مرة عندما استحضر حادثة موت أحد أصدقائه في مصر وصدمة خبر وفاته بعد ساعات قليلة من حديث مبتور بينهما على الماسينجر. ومرة أخرى عندما استدعى (سريعًا، ربما أكثر مما يجب) علاقته العاطفية التي أنهاها هكذا فجأة بلا أسباب واضحة، وهُما حالتان لم تشتبكا بما يكفي ببقية الحكايات، وربما يمكن حذفهما دون مشكلات، أو أن يشغلا مساحة أكبر فتتضح معهما ولو أكثر قليلًا ملامح الراوي الداخلية.

ورغم ذلك فقد تسربت لمحات طفيفة للغاية مِن حياة الراوي الشخصية وما يعتمل في نفسه، تحديدًا في الإشارات إلى ارتباك علاقته بمشاعره منذ إقامته في لندن، حيث يجد صعوبة بالغة في تذكر الاتجاهات والأماكن، وذلك لعجزه عن وجود نقاط ارتكاز جغرافية، وربط عواطف محددة بتلك النقاط، إذ اعتاد سابقًا على ربط الأشياء بانفعاله نحوها، لكنه فقد تلك القدرة مع الوقت: “فَبفعل التكرار، أصبح الفرح يشبه الارتياح، والغضب يشبه الملل، والرضا يصعب تمييزه عن الاستسلام، كما أن الحزن أصبح متطابقًا في الكثير مِن الأحيان مع اليأس، وكذلك الحنين مع النَدم.” حتَّى يصل إلى الدرجة التي لا يعود يعرف عندها طبيعة الشعور الذي ينبغي عليه أن يُظهره للآخرين في مواقف بعينها. قرب نهاية الرواية يحاول أن يجد تفسيرًا لمسألة اختلاط المشاعر هذه، ويعزوها إلى الخلل الذي أصابَ العالَم نفسه وطريقة سيره، فهل عليه مثلًا أن يسعد بنجاته، رغم معرفته بأنَّ آخرين لم يكتب لهم هذا الحظ، ورغم معرفته بأنَّ نجاته هذه المرة مجرد مصادفة قد لا تتكرر. قد يجد البعض في تلك اللمحات الخاطفة ما يكفي لتخيل أزمة الراوي، كمهاجر مصري مشتت ومرتبك، لكنها لم تكفِ في رأيي لتشكل قاعدة صلبة للشخصية التي بقيت تتوارى خلف حكايات الآخرين.

وإن كان الراوي لا يحب أن يبوح بالكثير عن مكنون نفسه، فهو أشد ميلًا إلى عرض أفكاره، حتَّى ولو خرج أحيانًا عن مسار حكايته، والتي هي بالأساس مُؤلَّفة من حكايات صغيرة متجاورة يجمعها قوسين كبيرين هما موت الشاب السوري وحيدًا في لندن وضرورة دفنه كما يليق. وبدا واضحًا الجهد المبذول في محاولة ربط تأملات الراوي العامة تلك بسياق ونسيج السرد، لكنها ظلَّت أضعف الأجزاء مهما تمتعت بالعمق والطرافة، مثل حديثه في مطلع الفصل الثالث عن التشابه وهيمنة نمط ثابت وطمأنينة التكرار لطراز المنزل الفيكتوري، أو عندما أخذ يشرح للموظف النيوزلندي، بشيءٍ من المبالغة والخبث، كيف هيمنت تحية (السلام عليكم) في مصر تدريجيًا بعد حرب باردة استمرت طويلًا، حتى كادت أن تستبعد معظم أشكال التحيات الأخرى رغم خفتها وروحها المصرية.

رغم تعدد الأفكار المهمة التي تطرحها رواية على خط جرينتش، حول العلاقة بالغرب مثلًا وخطورة تصنيف وتقسيم البشر بناء على ألوانهم وأديانهم، بل استحالة ذلك أصلًا في الوقت الراهن، يبقى هاجس الفناء واختفاء كل أثر للإنسان بموته، هو الصمغ الذي لصقَ كافة الشخصيات والحكايات وهي المادة الحيوية التي تخللت طبقات الرواية الزمنية والمكانية، منذ الجد الذي اختفى ولم يُعثَر له على أثر وظلت الجدة تطالع جثث الموتى المجهولين لسنوات وحتَّى الشاب النيوزلندي، رجل القطن، الذي يعد جثث الغرباء والمشردين للدفن بدس القطن في فتحات جسمها، والمنبهر بتعامل المصريين القدامى مع الموت وأفكارهم عنه. حتى الراوي نفسه كأنه يحاول مستميتًا العثور على بديل عصري ومنطقي لانشغالات المصريين القدامى بالخلود والبقاء، فتارةً يرى الخلود في أرشيف المؤسسات، حيث لكل إنسان مخزون هائل من الأوراق الرسمية والتقارير والاستمارات سوف يبقى من بعده. وتارةً أخرى يدافع عن الفيسبوك بوصفه منصة للخلود الرقمي المتاح لكل مَن عليه، حيث يتواصل وجوده بعد موته عبر مجموع أقواله وصوره وتفاعلاته وثرثراته. وهو في الحالتين يحاول أن يجد شكلًا آخَر للتحنيط عند الفراعنة، أو لثلاجات حفظ الموتى التي قد تحتفظ بهم على صورتهم للأبد تقريبًا، وكلها بالطبع تحركات يائسة محكومة بالخيبة، لأنَّ طموحها المستحيل هو الانتصار على شبح الموت ورُعب الفناء المحتوم بالموت أو بالنسيان التدريجي. الفن أيضًا يراوده هذا الطموح المستحيل نفسه، وإن كان يسعى إليه بطرائقه الخاصة وأساليبه الفريدة، وهو إذ يقر بهشاشة وجود الإنسان وسرعة زواله، يرفع رغم ذلك أنصابه وأيقوناته ويشهر سيفَ الجَمال في وجه العَدم.

         

         

           

مقالات من نفس القسم