عبد القادر القادري
غصت القاعة بالحاضرين، طلبة وأساتذة، رجال الصحافة، موظفون، مسؤولون إداريون، كلهم جاؤوا لحضور الأمسية الثقافية، في القاعة وقف الرجل الأنيق يتأمل مشهد الجالسين في انتظار ان تبدأ المحاضرة، تقدم خطوات وجلس قريبا من المنصة، ثم عاد يجول ببصره في أنحاء القاعة، ليس يرى غير هذه الوجوه التي أعياها الانتظار، وهذه الملصقات التي تملأ الجدران، وتعلن عن البرنامج الثقافي للأمسية، وتذكر الدعوة، الدعوة التي توصل بها من النادي الثقافي قبل أسابيع، لمتابعة المحاضرة التي سيلقيها الدكتور محسن الدوالبي، أستاذ علم الاجتماع، في موضوع: دور الثقافة في المجتمع.
وانتشله من خواطره صوت مقدم الأمسية، وهو يتلو كلماته الأولى مرحبا بالأستاذ المحاضر، وراح يذكر باهتماماته العلمية، ويشرح أنه صاحب نظرية في علم الاجتماع، بدأت تشد أنظار الباحثين، بل أصبحت تدرس في بعض الجامعات.
سكت مقدم الأمسية، وشرع الأستاذ المحاضر يتأهب للكلام، عدل نظارته، وأخذ يتكلم ويشرح بصوت هادئ، يطوف حول الموضوع، يناقش العناصر الأساسية، يرتفع صوته تارة، وينخفض تارة اخرى، يتحدث بإسهاب عن عوائق انتشار الثقافة في المجتمع، عن توحش الجهل، عن الأمية، تحضر كلمات عن التخلف، عن الوعي، وتطفو على السطح مفردات جديدة، تقدم، نظام عالمي جديد، عولمة.
الرجل الأنيق يبدو صامتا، يستمع باهتمام، يهز رأسه من حين لآخر كأنه يوافق على ما جاء في المحاضرة، وطفق يحدث نفسه “طبعا، هذه مفردات جديدة يا أستاذ، تحتاج الى مزيد من التوضيح، لو كنت في قسم دراسي، لشرحت هذه المفردات بتفصيل أكثر، مثلما أفعل أمام استفسارات الطلبة وإصرارهم على السؤال”.
وتعود به الذاكرة الى الزمن البائد، ايام كان يلقن دروس الفلسفة بالثانوية، ويتدخل ميمون طالب الباكالوريا للمناقشة داخل القسم، ويتوجه إلى الاستاذ بالسؤال متحمسا، وبلغة عربية سليمة:
– ألا يكون التخلف في حد ذاته سببا يعيق انتشار المعرفة؟
ويبدأ الأستاذ في معالجة السؤال شرحا وتوضيحا، ويبقى الطلبة الآخرون منتبهين يستمعون.
عاد الرجل الأنيق من تجواله عبر الذكريات البعيدة، التفت إلى الجالسين حوله، رآهم منهمكين في تسجيل الافكار، وبعيدا عنه في القاعة كانت ثمة عيون تفترسه بنظراتها، من حين لآخر” من يكون هذا الملتحي؟، لماذا يختلس النظرات إلي؟” هكذا حدث نفسه.
كانت عيون الملتحي لا تنفك تنظر اليه، وتساءل الرجل الأنيق “كأنه يعبر عن شيء ما بنظراتهᴉ، كأنه يريد ان يقول شيئا”.
اقتربت الأمسية الثقافية من النهاية، وشرع الأستاذ المحاضر يجيب عن أسئلة الحاضرين حول ما جاء به من أفكار.
ونظرات الملتحي كانت لا تزال تصل من بعيد، كان يطل من بين الحاضرين، ويرمق الرجل الأنيق بنظرات غريبة، لم تكن بين الرجلين معرفة سابقة ” قد أكون التقيت بهذا الملتحي ذات يوم، ربماᴉ، ولكني لا أتذكر المكان على وجه التحديد، ” قال في نفسه.
انتهت المحاضرة، وأخذ مقدم الأمسية يقرأ عبارات الشكر والامتنان في حق الأستاذ المحاضر، وقف الرجل الأنيق، تأبط كومة من الأوراق، وسار يخطو مع الحاضرين خارجا من القاعة، والنظرات الغريبة لا تزال تملأ أعماقه بأكثر من سؤال، كان يسير غارقا في شروده، حين استوقفه الملتحي، وهو يمد يده مصافحا:
– سررت بلقائك يا أستاذ، بعد هذا الغياب الطويل.
قبل أن يضيف قائلا:
-، أنا ميمون، كنت واحدا من طلبتك، قسم الباكالوريا، بثانوية الكندي
أجاب الرجل الأنيق مبتسما:
– أهلا وسهلا، أحلت على التقاعد قبل عامين، لذلك لم أعد أتردد على الثانوية
توقف قليلا، قبل أن يواصل كلامه:
– لكني أكون سعيدا، حين يجمعني لقاء بطلبتي القدامى.