طارق إمام
لم أكتب عن حسن عبد الموجود خارج الأدب، رغم أنه كتب عني خارج الأدب وداخله. لم أهده كتاباً، رغم أنه أهداني أحد أجمل كتبه، ولم أناده كثيراً بـ “أبو صوفي”، كنيته المفضلة، رغم أنه لا يكف عن مناداتي بـ “يا ابو كرمة”. إجمالاً، علاقتي بحسن عبد الموجود تاريخ يحكمه عدم التكافؤ، كفة الجدعنة فيه راجحة دائماً لصالحه.
هو جنوبي وأنا من الشمال، هوة طبيعية لم أدخر للأمانة جهداً في استثمار صدوعها الجينية لإخراجه عن شعوره، بحثاً عن “مقلب”، أحب دائماً أن يكون بطله حسن دون غيره من خلق الله. يدعوني لنجلس جلسة خاصة، يوفر لي فيها أسباب الانبساط، يحاسب على المشاريب بسخاء، فقط ليطلعني بكل تهذيب على قائمة أفعالي التي تسبب له الضيق مني، والتي أحفظها عن ظهر قلب طبعاً من التسعينيات. تلمع في عيني دمعة ندم كاذبة، يقابلها هو بسيل دموع صادق، وحضن دافئ، يبادر به، حد أنه كثيراً ما اعتذر لي عما بدر مني أنا. حتى في الدموع، لا يبيت حسن ليلته أبداً مديناً لأحد.
نغادر المكان متعانقين، وما إن يقابلنا “طرف ثالث”، أحياناً بعد لحظات من “الاتفاقية” وقبل أن تجف الدموع الأقرب لعهد دم، حتى أستعيد كل ما حذرني حسن من اقترافه ضده، لأمارسه بإفراط يفوق حتى معدلي الطبيعي، متلقياً نظرات ذهوله من قدرتي هذه على الخيانة غير المشروطة، لعهدٍ كتبه البكاء ليمحوه الضحك. يفقد حسن النطق تقريباً في تلك اللحظات، فيما أنظر أنا له باستغرابٍ أبله.
بثقةٍ لا مبرر لها، يصر حسن على ائتماني، أنا بالذات، على سره الجديد، فور معاتبته لي مباشرةً على إفشاء سره السابق. عتاب بلغ ثقله ذات يوم عليّ، حد أن هاجمته أنا ساخطاً :”يا حسن لو عندك سر مش عاوز حد يعرفه ما تقولهوليش.. إيه الوصاية دي؟”.. كنت أتظاهر بالغضب، متلمساً من تحت لتحت نظرات ذهوله، خرسه المؤقت وهو يطل بعجزه من تيبس فمه الفاغر، وتقلصات ملامحه الأخرى التي تكسو وجهه كلما أصغى لبنود منظومتي الأخلاقية شديدة التفرد.
عمر حقيقي يجمعني بحسن، لحقنا معاً عصر تبادل المراسلات اليدوية قبل أن ينتقل كلانا إلى القاهرة، عرفتُ خط يده قبل أن أقرأ كلماته مطبوعة، وكذلك فعل. تزاملنا في الأحلام التي يهددها التبدد، وفي المغامرات غير مضمونة النتائج، جربنا بهجة المقامرات غير المحسوبة عبر الأبواب المفتوحة، وألم الخسارة عندما تغلق دوننا الأبواب، وأخيراً تزاملنا في اللحاق بعربة قطار تحقق هامشاً آمناً يقي إنسانيتنا من الضياع. وربما أجمل في صداقتنا، أو أخوّتنا بتعبير أدق، أن السنوات لم تُفقدها سخونة المراهقة الأولى، بكل ما تعرفه المراهقة من تطرف الضحك والدموع.
سبقني حسن للحياة بسنةٍ واحدة، سبقني للأبوة بسنوات، وسبقني في ما أعتقد للسكينة التي راقبتها فيه قبل أن أمرن نفسي على اكتساب عدواها منه.
حسن فنان، حين يكتب قصة وحين يكتب رواية، حين يكتب مقالاً وحين يُجري حواراً صحفياً، حسن فنان حين يتكلم، حين يعيد سرد واقعة، ليصل إلى نقطتها الأعمق من السخرية المرة معرياً ما خلفها من سياقات شاملة. حسن أيضاً “جدع”، “يُعتمد عليه”، “صاحب صاحبه”، لا يتركك أبداً تعيش ضيقك منفرداً ولا يسمح لك أن تنتحي جانباً بحزن شخصي. يعرف حسن كيف يوصل إليك تعاطفه الصادق، كيف يفكر لك ويغتم بغمك ويتورط مكانك، كيف يتدخل لدى أطراف لا يعرفها متحملاً الحرج من أجلك، يفعل كل ذلك صدقاً لا مواراة.
لو أنني فقدتُ الذاكرة يوماً ما، وصار بوسع صديق أن يتذكر بالنيابة عني، فسيكون هذا الصديق بالتأكيد حسن عبد الموجود، مع ميزة إضافية: أنه يعرف كيف يتفانى بأمانة كي يتذكر ما حدث، فيما أعرف أنا كيف أتفانى، بالأمانة نفسها، لأتذكّر ما لم يحدث.