مرثية لجيل محمد عيد

سارة عبد النبي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سارة عبد النبي
اعطني القدرة  حتى أبتسم..

عندما ينغرس الخنجرُ في صدر المَرَحْ..

ويدب الموت، كالقنفذ، في ظل الجِدار..

حاملاً مبخرة الرعب لأحداق الصغار…

أعطني القدرة… حتى لا أموت…

منهكٌ قلبي من الطرق على كل البيوت..

علّني في أعين الموتى أرى ظلَّ ندم!

فأرى الصمت.. كعصفورٍ صغير

ينقر العينين والقلبَ، ويعوى..

في ثنايا كل فم!

من قصيدة (العشاء الأخير )، أمل دنقل..

(الحلم جنة العاشق وغوايته وألمه، وثأره مع الحياة. الحلم نجاة، وهلاك حتمي لهذا القلب الغض البرىء، المفتون بسحره، والعقل الحر الرافض لاستعباد القوانين والمواعظ.. اذهب وراء ما في قلبك حيثما تشاء، لا تتركه للجمود فيصبح حسرة. ولا تتركه يخبو فتنهزم به.
لا تصدق هذا الجيل الوَرٍع من التعساء يا ولدي، لا تنخدع بالكلمات ففي القلوب غل أسود، لو نظرت لوجههم حقا لقرأت تاريخا مرعبا من النفاق، والمساومة على الأحلام مقابل البقاء مستباحا، لن تقرأه أبدا في الكتب.
تبا للأيام التي تجعل كل شيء عاديا، وما أكثرها قسوة أن تصبح الأشياء عادية وأنت في مقتبل العمر، لا تحب ولا تكره، ولا تنتظر ولا تطمح، ولا تشاغب. يتمرغ القلب في زهده المزيف، والعقل في رشده الفاسق. لا تصدق هؤلاء أبدا، أترك أرض الخديعة وأنفذ بحلمك. ففي البقاء تحت رايتهم ستصبح مسخا، صورة دميمة مكررة من الهزيمة والانبطاح..
أذا أصبحت شاعرا فخض معركة الرفض حتى النهاية. لكل شيء ثمنه وطريقه وعذابه ونهايته، ولكن عذاب اللا شيء عذابا سرمديا، ونهايته قلب مثقل بالندم..)..

قُرأت هذه التعويذة على جيل بأكمله، كان عليه أن يكبر حتي ينفك السحر. كان سيكبر حتما لكنكم استعجلتم منه وقته. فمهلا، وتذكروا بعضا من جميل ماضيكم، كانت قلوبكم كقلبه، جمرة نار متقدة، لا تعرفون التراجع أو التسليم، لكم أجنحة تعانق السماء، تطوف بكم محلقة حول الخطر والمحاذير، تهربون من الطاعة بلا مبرر، تملون المواعظ ثقلية الظل، والنصائح المفرطة في الغباء، تسأمون الطرقات الممهدة والصمت العاجز والانتظار بلا معنى.

كان سيكبر وينسى كل ما تعلم ورأى، وما قُرأ عليه، ويلتزم بالدور المطلوب منه حتى النهاية، سيخرج من دائرة الحلم  للأبد، وتنتهي فتنته بالحياة، وتمحى ذاكرته القديمة وخطايا زمنه الأول. ليكون محبوبا مثلكم، مواطنا صالحا، بائسا حقودا، مثاليا تماما. يعرف المهادنة واللين واللطف في وجه الظلم. كلمة الحق تصيبه بأرتيكاريا وذعر، يعرف الصمت الراضي بكل تفاصيل حياته، فلا سخط ولا نقمة على شيء. يمشي مغمض العينين يتحسس طريق النجاة،  ينتقد ويسب الصغار وغرامهم بالتحديات. سينفك سحر تعويذة التمرد ليقع في فخ إدعاء الحكمة والرشد.

كان سيكبر يوما ما بالضرورة، لن يستيقظ  أو يصفف شعره أو يصعد الدرج أو ينتظر على رصيف المحطة وهو يغني أو يصفر لحنا سعيدا بكلمات حزينة.
(وأنا كل ما أقول التوبة يا بوي، ترميني المقادير). يرميه الحظ هنا، وسط الناس، يشتري ويبيع ويصادق ويفارق، ويتحدد مصيره وتُكتب نهايته وفق أهواء الناس، وحسابات الناس، وكلمات الناس، وإرادة الناس، وما نما واستفحل بفجاجة في قلوب الناس، فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
قد كان صغيرا يخلط الصبر بالغناء، والشقاء بالشقاوة والجدعنة، والجد بالهزل. فيبدو كل شيء أكثر منطقية في يومه. يخلق السعادة والراحة لقلبه، والشاعرية الحزينة يهديها للمكان، ولمن حوله ومثله يترك أثر لا يزول.
يتودد للكبير والصغير، يصافح بحماس، يعاتب الخلان بحماس. لسانه ينقط شهد، بعباراته المعسولة المنغمة في الأذن يغسل القلوب من أي ضغينة تجاهه، كما تغسل الأمطار الشوارع والطرقات وعتبات البيوت. يتهور في لحظات الغضب كالبركان، وفي ثورته يحطم كل شيء.
يعرف أنه فقير ومظهره رث، مهنته التنطيط والرزالة على خلق الله كما يقولون، وتصرفاته توحي للبعض أنه ليس شخصا مستقيما، بلطجي يجوز الحذر منه. ولكنه في الحقيقة غلبان وفي حاله مثل كثيرين، رفقاء الشقاء والسعي خلف الرزق، ولكنه ليس تعيسا لدرجة أن يفصح دوما عن هذا ويتحجج به، ليظل فاترا ساكنا، نقيا في أعين الناس. طظ ،بعض أمور الشيطنة والتهور لا بأس من قليلها، فالمغامرة روح يومه، وبطبيعة الحال جزء من حداثة سنه.
يبيع للأحبه التذكار والهدايا والمواويل والهواء في زجاجات إن استطاع،بخفة وشطارة، ورضا متبادل، فيصبح جزء من الصورة، من الذكرى الحلوة.
 يظهر في دقيقة أمامك، بحقيبته السوداء الكبيرة على ظهره، ويفرش في حجرك بضاعته، ثم تبدأ مهارة اللسان في الأخذ والرد والفصال. مرة يبيع ومرات لا. ولكنه تعلم أن البحث عن الرزق يلزمه بجانب الصبرألا ينظر خلفه سواء للفرص الضائعة أو المقتنصة.
ساعات يومه يقضيها في العمل، الرزق يحب الخفية. والقليل من الوقت بين الخلان، يروي ظمأ قلبه بلحظات المرح والهزار والغناء. ينام ويحلم بأيام أخرى يحالفه فيها الحظ ، يصبح العهد بينه وبينها يسير وفق هواه..
في حلمه جرب كل شيء، وحصل على كل شيء وتدرب على ألاعيب الحياة ومقالبها. فقط قفزة الموت لم يتدرب عليها، فقط قسوة القلوب لم يجربها، فقط قصرالعمر لم يحسب له حساب.

كان سيكبر ويبطل حركات الشقاوة والتزويغ من الكمسارية، ويتجنب كثرة الغلبة والنقار، ويتوخى الحذر ويؤثر السلامة.
لن يبالغ في الاهتمام بمظهره أو التعطر، أو التأمل في وجه كل فتاة جميلة تمر أمامه. فقد كان يحب العشرات ويغني لهن، ولكن واحدة بالذات كانت في قلبه، حبها يزيد وغناؤه لها مستمر.
لن تدعوه أطفال الحارة لمشاركتهم ماتش كورة حامي، فملامحه شاخت، وأخذت المهابة مكان الاستلطاف في قلوبهم تجاهه. سيخرج لهم دائما منزعجا متوعدا، يأمرهم باللعب بعيدا عن منزله، سينسى أن قلبه كان لا يزهد اللعب أبدا، كان مثلهم، بينهم منذ سنوات قليلة.

كان سيكبروسيجامل في الأفراح كالأحزان. الكل بشعور واحد، ووجه خالي من التعبير، وحضور باهت. لن يرقص قلبه من الشمال لليمين فجاءة لفرحة الأحباب، أو يتمزق ألما وهو يحمل على كتفه تابوت راحل بلا عودة. حالة من الجمود ستصيبه، وتصبح كل مشاعره بلا داعي.

كان سيكبر ويقضي أياما طويلة بين زيارات الأطباء ومعامل التحاليل. سيصاب في ثلاثينياته بضغط دم مرتفع وتصلب في الشرايين وداء السكري. وتصبح أطرافه بارده كقلبه، لا يدفئه شيء. ولا يبدد خوفه شيء، برغم أن مصيره متعلق بلسانه، ولسانه في فمه، وفمه مغلق.
يحاصر الشيب وعجز الروح والنفس كيانه، يستيقظ مختنقا بدخان سيجارته التي أشعلها ليلا، فلا هو يستطيع التخلي عنها، ولا هو يتلذذ بطعمها مثل الأمس.

سيتوقف عن السعي والتفكير، لن يستطع أن يجد حيلا تسعفه لبيع بضاعته، ستنشق الأرض عن منافسين جدد، لهم ألاعيب وفنون لا يعرفها هو. ستصبح بضاعته قديمة لا زبون لها.
سينحني كتفه تحت الحقيبة، وينقطع نفسه من الجري، لن يبقى طويلا متنقلا بين القطارات، فلا تقلقوا على ثمن التذكرة.
سيصفعه العالم مئة كف جديد كل يوم، سيكبر ويشيخ وينحدر، وسيصبح لا هم له سوى مناكفة أصحاب الحلم والهمة والآمال والسئالة عليهم والتقليل منهم. سيأخذ مكانه في الطوابير الطويلة المؤيدة، الواقفة بلا داعي طوال الوقت تحجب الأضواء عن وجوه الرافضين..
كان سيفعل ولكنه لم يعد هنا، ضاعت الفرصة من أيديكم تحت عجلات القطار……

 

مقالات من نفس القسم